الغرفة تهتز… الأرض تتنفس.
لكنها لم تكن تنفّسًا طبيعيًا. بل صرير صفحات تتحرك داخل جدار الزمن. شيء ما يُعاد تجميعه من بقايا الحكايات القديمة.
ثم خرجت.
الهايدرا.
جسدها ضخم، مصنوع من جلد رمادي يكسوه الحبر الجاف، وسبع رؤوس تتمايل في الهواء، كل رأس تحمل عينين متوهجتين بلون مختلف. كل واحدة تمثل قصة منسية. حكاية اقتُطعت من ذاكرة العالم.
فتح البطل عينيه بدهشة:
"هذه ليست مجرد وحش... هذه مكتبة حية."
قالت يوكيو، عيناها على الرؤوس المتراقصة:
"لا، هذه الهايدرا القصصية… كل رأس تحكي مأساة، وكل مرة تقطعها، تخرج قصتان أخريان مكانها."
زمجرت الهايدرا، فتردد صداها في القاعة كألف سطر يُقرأ دفعة واحدة.
وبدأت الحرب.
ركض البطل أولًا، سيفه الأسود يبرق، قطع أول رأس بضربة دقيقة. الرأس انفجر إلى رماد… للحظة.
لكن من الرماد خرجت رأسين جديدتين، كل واحدة بعينين تحكيان مأساة غرق مملكة، وخيانة أخٍ لأخيه.
"إنها تتكاثر! كل رأس تقطعها… تزيد الاحتمالات!" صاحت يوكيو.
واحدة من الرؤوس التفتت نحوها وأطلقت صيحة مليئة بالقصص. كان صراخها صدى لحكاية طفلة تموت في حضن والدها… جعل يوكيو تتراجع خطوة.
"هذه القصص… إنها مؤلمة." تمتمت.
"لا يمكننا التعامل معها بالسيف وحده." قال البطل وهو يصدّ ذيل الهايدرا.
فجأة، انبثق رأس آخر وهاجمه. دافع، قطع الرأس، ثم سقط على ركبته.
"كم تبقّى من احتماليتي؟" تمتم وهو يلهث.
الهايدرا رفعت رؤوسها كلها معًا، كأنها تحاول كتابة الفصل الأخير لهما. كل فم بدأ يفتح، استعدادًا لإخراج لهب الحكايات المنسية.
لكن البطل همس:
"لن أُهزم... من قصة نُسيت."
ثم، لأول مرة، بدأ كتابه يتوهج.
صفحة جديدة تُكتب.
قصة: ملتهم القصص
السطر الأول: في مواجهة الهايدرا، ابتلع الحكاية قبل أن تُولد.
صرخت إحدى الرؤوس وهي تُمتص تدريجيًا إلى داخل صفحة سوداء تظهر في الهواء، يمسك بها البطل.
يوكيو شهقت:
"هل... هل هذه قصتك؟!"
أجاب بعينين مظلمتين:
"هذه هديتي من ملك الفوضى."
الهواء كان أثقل من أن يُستنشق.
سيف البطل يرتجف في قبضته، لا من الخوف… بل من وطأة الاحتمالات التي تتزايد.
الهايدرا القصصية تقف شامخة، كأنها رواية من سبعة مجلدات تهاجم في آنٍ معًا. كل رأس منها تمثل قصة ماتت قبل أن تكتمل، وكل لهيب يخرج منها، هو سطر يُعاد تأليفه ليقتل.
"أنا… لا أستطيع التهامها كلها دفعة واحدة…" قال البطل وهو يحدّق في كتابه المتوهج.
الصفحة أمامه تحمل عنوان القصة التي وجدوها في قلب الغرفة:
"صائد التنانين"
قصة تُعد من القصص العليا، تلك التي نُسجت في أعماق التاريخ… حيث لا يُفرق بين الكاتب والبطل.
أغمض عينيه. أراد ابتلاعها. لكنها تقاوم.
قصص التنانين لا تُؤكل بسهولة… بل تبتلع من يحاول.
ثم…
وضعت يوكيو يدها على كتفه.
قالت بصوتها الهادئ الصلب:
"دعني أشتري لك الوقت."
"لا!" رد مباشرة، نظر إليها بعينين مليئتين بالقُرب والقلق، "لن تواجهيها وحدك!"
"أنا لم أقل إني سأنتصر."
ثم ابتسمت ابتسامة نصفها وجع، ونصفها ولاء.
"قلت فقط… سأشتري لك الوقت."
قفزت.
كل خيوط شعرها الأسود الحريري تتطاير خلفها، كأن الليل نفسه يتبعها.
سيف الكاتانا يشق الهواء بمرونة من نحتوا القصص لا من عاشوها فقط.
عيونها السوداء تقدح بالبصيرة، لا الخوف.
"هيا أيتها الروايات الميتة!" صاحت يوكيو، وهي تنقض على الرأس الأقرب، "تعالي لتري ما معنى أن تولدي من جديد!"
اصطدمت بالسيف مع رأسين معًا، تصدت لنيران الذكريات، وقابلتها بقصصها الخاصة.
صفحات من كتابها تُفتح خلفها، تشع من فرط احتمالية الحكايات:
"تحدق بالهاوية"
"الناسخة"
"صيادة من المهد"
كل واحدة تمنحها دفعة، حركة، بصيرة.
أما البطل، فقد جلس على ركبته، يُغلق عينيه، ويبدأ عملية التهام القصة…
"صائد التنانين"
السطور الأولى تُسحب من الورق إلى داخله.
جسده يرتجف.
نفسه يُقطع.
كل مرة تهضم فيها روحه سطرًا من تلك القصة، يسمع زئيرًا داخل ذهنه.
وكأن التنانين التي اصطيدت في تلك القصة… تصرخ داخله.
"تبقّى القليل…" همس وهو يفتح عينيه، وفيها بدأت تظهر قشورٌ فضية.
"أنا… أبدأ بالتغيّر."
في تلك اللحظة، صاحت يوكيو وقد اندفعت إلى الخلف:
"أسرع! لا يمكنني…"
لكنها لم تُكمل فقد قام الهايدرا بقذف يوكيو بعيدا للحائط الذي تحطم من شدة القوة
خرج الدم من فم يوكيو من تاثير الضربة
كان البطل مركزا جدا على التهام القصة لدرجة انه لم يلاحظ. ولكن وعيه عاد بعد ان سمع زئير الهايدرا.
كان الزئير الأخير للهايدرا مرعبًا، كأنما اجتمع فيه غضب مئات القصص الميتة. الأرض اهتزت تحت أقدامهم، والحجارة سقطت من سقف الغرفة كدموع نسيان.
يوكيو، بجسدها المثقل بالإصابات، كانت تترنّح لكنها لا تزال واقفة، سيفها ينزف الحبر بدل الدم، والقصص تتطاير من كتابها المفتوح خلفها كأنها تحاول مساعدتها، عبثًا.
في تلك اللحظة، رفع التنين رأسه الأكبر، الفم ينفتح، والدخان الأسود الكثيف يتصاعد منه... ثم أطلق سمّ الهايدرا، سائل داكن يتلوى في الهواء كأفعى شيطانية متجهًا نحو البطل.
كل شيء تباطأ.
البطل، ويده المرتجفة على كتابه، لم يكن قد التهم القصة بعد.
ثم…
صوت تمزّق الهواء، وانفجار طاقة قصصية ضخمة.
ظهرت يوكيو أمامه فجأة.
عيناها السوداوان تلمعان بعزم لا يتزعزع.
"أنا ابنة عائلة والفورد… لا يُسمح لي أن أكون متأخرة عن الحماية." قالتها بصوت خافت، لكنها أقوى من أي زئير.
أطلقت قصصها الثلاث:
"صيادة من المهد"
"الناسخة"
"تحدق بالهاوية"
اندفعت سرعتها لأبعد من العين، وتركت خلفها أثراً من الظلال، ثم وقفت بين البطل والسم… قبل أن يرتطم بها السائل القاتل.
انفجر المكان بضوء فاسد، صرخة مكتومة انبعثت… ثم ساد الصمت.
عينا البطل اتسعتا، والصوت في رأسه اختنق.
كانت يوكيو على الأرض، تتنفس بصعوبة، وكتابها يهتز بعنف. السم تسلل إلى جسدها، لكن القصص منعتها من الموت الفوري. كل قصة داخلها بدأت تحترق قليلاً، تدافع عنها في حرب بطيئة.
نظر إليها، قلبه يشتعل كما لم يحدث من قبل.
ثم رفع كتابه… التوهج بدأ.
صفحات "صائد التنانين" انفجرت من غلافها، تدور حوله بجنون.
صوت خافت خرج منه، لكنه لم يكن البطل المعتاد:
"أنا من يُكتب في نهاية السطور… لا أحد يموت قبلي."
السيف تغير، الشكل تبدّل، العينان اشتعلتا بوميض القصص.
الهايدرا فهم.
وحاول التراجع.
لكن الأوان كان قد فات.