كانت السماء شاحبة فوق الأنقاض، بلون الرماد الذي فقد حرارته، كأنها شاهدٌ قديم على سقوط شيء لم يُسمّ بعد.
سار الاثنان بصمت، خطواتهما تنقر على الحجارة المهشّمة، بين جدرانٍ متآكلة وأقواسٍ حجريّة لا تفضي لشيء. هذه أطلال، نعم… لكنها ليست بقايا معمار فحسب، بل بقايا قصص انتهت دون أن تُروى.
قالت يوكيو بصوت منخفض، دون أن تلتفت نحوه:
"هل تشعر بهذا؟"
"تشعر بماذا؟"
"كأن الأرض نفسها تخفي جملًا لم تُكتَب، أو نهايات ماتت قبل أن تولد."
أجابه:
"كل هذا العالم يشبه كتابًا نُسي في العراء… المطر أفسد كلماته، والريح سرقت صفحاته، ومع ذلك... لا يزال يكتب نفسه."
نظرت إليه، بعينين سوداويين ساكنتين، ثم قالت:
"أحيانًا… أظن أن العالم لا يريد أن نكمله، بل أن نضيع فيه."
مرّا بجانب تمثال نصفه الأعلى محطم، وعلى قاعدته كلمات باهتة لا تُقرأ. كانت الأنقاض تحكي، لكن بلغة فقدت مفاتيحها.
في صمتٍ ثقيل، سألته يوكيو:
"ما الذي يجعلك تستمر؟"
فكر قليلًا. ثم قال:
"ربما الرغبة في العثور على الصفحة الأخيرة. أو… أن أثبت أنها موجودة أصلًا."
هزت رأسها، كمن سمع شيئًا مألوفًا جدًا، وقالت:
"لو كانت القصة التي تعيشها تدور في دائرة… هل ستكسرها؟ أم تمشي فيها حتى تتقن دورانها؟"
ابتسم ابتسامة باهتة، وقال:
"سألتهمها."
كانت الكلمة ثقيلة، لكنها خرجت منه بسهولة مرعبة، كأنها وُلدت فيه. التفتت نحوه، وعيناها تتقلصان.
"قلت... ألتهمها؟"
"هذا ما منحني إياه كتابي. القصة التي كُتبت أخيرًا… قصة ملتهم القصص."
صمتٌ.
ثم همست:
"هذا... لم يكن من مفترض أن يحدث."
قال:
"ولا أنا من المفترض أن أكون."
في تلك اللحظة، اهتزت الأرض تحت أقدامهما برفق. لم يكن زلزالًا، بل كأن شيئًا ما تحرّك تحت طبقات الأرض. سيف يوكيو ارتجف في غمده. نظرت حولها بسرعة، واستعدت.
"لقد دخلنا في أعماق سردٍ غير مأرشف."
"أعني؟"
"قصص لم تُكمل. بعضها لا يملك مؤلفًا. هذه الأماكن خطرة. أبطال كثيرون فُقدوا هنا، وكتبهم لم تُغلق أبدًا."
خطى خطوة للأمام، وتوقف عند ممر ضيق يفضي إلى درجٍ حجري ينزل نحو أعماق مغطاة بالضباب.
"وهنا سنبدأ."
همست يوكيو:
"وهنا… قد لا نخرج."
ابتسم البطل بهدوء، وغمغم:
"أجل، لكن ربما نخرج مختلفين."
ثم دخلا معًا إلى الظل، تاركين النور خلفهما يتراجع كمن لا يجرؤ على المضي معهم.
وفي مكان ما، بين أنفاس الأنقاض، وُلدت بداية جديدة لقصّة لم تُكتب بعد…
…ثم دخلا معًا إلى الظل، تاركين النور خلفهما يتراجع كمن لا يجرؤ على المضي معهم.
وما إن تقدّما ثلاث خطوات في الدرج الحجريّ، حتى بدأ الضباب يتكاثف، ليس من الأسفل، بل من الجدران نفسها. بدا كأن الزمن انحنى، أو أن الكلمات نفسها تهاوت دون ترتيب.
يوكيو كانت أول من توقفت، حدقت إلى الجانب وقالت بصوت هامس:
"هذه القصص… ليست ميتة."
من الجدار الأيسر، خرجت يد سوداء، طويلة النحالة كفرع محترق، يتبعها جسد شبيه بالبشر لكن بلا ملامح. بدت مغطاة بنصوص باهتة تلتف على جلدها كوشوم، لكنها غير مفهومة. الكائن لا يتنفس، ولا يصدر صوتًا… بل يزحف فقط.
ثم خرج آخر… وآخر.
خمسة كائنات، تسير على قدمين غير ثابتتين، تقترب ببطء، وعلى جلودها تتكرر كلمات: "لو… لو أنه فقط انتهى"
"إنها القصص التي تُركت بلا نهاية…" همست يوكيو.
"تحوّلت إلى كائنات… تسأل من يمرّ هنا عن نهايتها."
قال البطل، وعيناه تلمعان بحدة:
"وهل يمكننا أن ننهيها نحن؟"
هزت يوكيو رأسها:
"لا. القصص التي لا تخصك… تقتلك إن حاولت أن تكملها."
أحد الكائنات قفز نحو البطل، أظافره كأنها شفرات. في رمشة، سحب سيفه وصد الضربة، لكن شظايا حبرية تناثرت منه ولامست جلده، جعلته يشعر وكأن ذكريات لا تخصه تحاول الدخول إلى عقله.
سمع صوتًا في رأسه:
"أنا قصة لم أُكتَب، أريد أن أعيش…"
صرخ وأبعد الكائن بسيفه، ثم نادى:
"هذه ليست مجرد وحوش، إنها جياعٌ للسرد… علينا أن نهرب!"
لكن يوكيو تقدمت، وجهها هادئ كالبحر في يوم رمادي، وسحبت سيف الكاتانا خاصتها.
"إن لم نقاتل، لن نفهم العالم."
ورفعت سيفها. الكائن الأول اقترب. لحظة واحدة، وانطلقت.
صوت تصادم المعدن بالحبر، حركات سريعة، كل ضربة من يوكيو كانت كأنها تمحو سطرًا فاسدًا. لكن الوحوش تتكاثر، وتقترب من البطل.
نظر إلى كتابه، وتحت عنوان "ملتهم القصص"، ظهر سطر جديد:
"هذه أول قصة تلتهمها… احذر، لا تأكل ما لا تفهمه."
أغلق الكتاب بعنف، وركّز.
"سأحاول فقط أن أُسكتها… لا أن أنهيها."
ثم اندفع.
ما تلا ذلك لم يكن معركة، بل محاولة للتماهي مع الكلمة. البطل لم يقاتلهم فقط، بل تلا شذرات منهم، وامتصها، وأعاد كتابتها داخله كأنها قصائد ناقصة وجد لها وزنًا جديدًا.
وفي النهاية، كانت الأرض مليئة ببقع سوداء… والهواء خفيفًا كأن شيئًا حزينًا قد ارتاح أخيرًا.
قالت يوكيو وهي تمسح سيفها:
"القصص المنسية… قد تكون أخطر من تلك المكتملة. لأنها لا تعرف متى تموت."
قال هو:
"وأنا… لا أعرف متى أتوقف عن ابتلاعها."
رفعت رأسها نحوه، ثم قالت:
"إذن… لنرَ كم منها تستطيع هضمه، أيها المجهول."
…ابتسم البطل. لم تكن ابتسامة غرور، بل تلك التي تظهر على وجه المحارب حين يرى ساحة قتال تليق بمهاراته.
"حسنًا… لنُرهم معنى أن تكون القصة حيّة."
انطلق بخفة مفاجئة، وسيفه الأسود يلمع تحت شظايا الضوء، كأن الظلال نفسها تقاتل معه. يوكيو قاتلت بجانبه بهدوء صارخ، كأنها طيف من كتاب شرقي قديم. لكن الوحوش المنسية لم تكن تنضب، كانت تنمو من الفراغ، من الصفحات الممزقة، من رغبة مكبوتة بالعودة للقراءة.
"إنها قصص تم نسيانها... والآن تنتقم." قالت يوكيو بصوت متوتر.
ردّ وهو يصد مخلبًا آخر:
"سنعطيهم خاتمة يستحقونها."
ثم أشار نحو نهاية الممر، حيث بوابة حجرية منقوشة تتوهج بلون رمادي غريب. عند اقترابهما، بدت الجدران تنبض كالصفحات، وكان فوق الباب نقش:
"لكل صيّاد قصته، ولكل قصة تنينها."
دفع البطل الباب بعد أن مزّق سطرًا من كتابه وتركه يسقط على الأرض. استجابت النقوش، وفتحت البوابة ببطء بينما الوحوش تصرخ خلفهما.
ما إن دخلا الغرفة حتى خيّم الصمت… ذلك الصمت المقدّس الذي يسبق ظهور الأسطورة.
الغرفة كانت قاعة ضخمة دائرية، سقفها شبيه بقبة سماوية مرصعة بنجوم ميتة، جدرانها مغطاة بلوحات حجرية توثّق معارك قديمة بين بشر وتنانين. في المنتصف، طفت منصة حجرية مغطاة بطبقة من الرماد الذهبي، ومن فوقها… صندوق زجاجي سداسي الشكل، داخله كتاب واحد.
غلافه كان بلون أحمر قاتم كدمٍ يابس، منقوش عليه صورة تنين يلتف حول رمح مكسور.
وعنوانه:
"قصة صائد التنانين"
لم يكن كتابًا عاديًا… كان يفيض بإحتمالية كثيفة، كأن الغرفة كلها تتنفس من سطوره.
قالت يوكيو، بصوت متردد:
"هذا… هذا الكتاب لا يُكتب. هذا الكتاب يُخاض."
اقترب البطل، عيناه على الغلاف، وشعره يتمايل مع تيارات الطاقة الخفية المنبعثة منه. همس:
"هذا هو… هذا ما كانوا يحمونه."
تقدّم خطوة… فاهتزت المنصة.
ثم ظهر على الأرض نقش متوهج:
"لكي تأخذ القصة… يجب أن تثبت أنك بطلها."
لم يكن الأمر بهذه البساطة. لم تكن الجائزة مجانية.
قالت يوكيو، تسحب كاتانتها:
"لا يمكن أن تكون قصة صائد التنانين دون تنين واحد على الأقل…"
ابتسم البطل، واستل سيفه.
"فلنُثبت أننا نملك حق الرواية."