في الصباح التالي، حينما استيقظ كان الضوء قد بدأ ينسكب فوق الأشجار كحبرٍ ذهبيّ يكتب على الأرض قصةً جديدة. النار قد خمدت، لكن يوكيو كانت هناك، تجلس فوق صخرة، تُحدّق في الفراغ كأنها تقرأ شيئًا لا يُرى.

سألها بصوتٍ لا يزال يختبر حضوره:

"من أنتِ حقًا؟"

أجابت دون أن تلتفت:

"يوكيو… من عائلة والفورد."

قالت الاسم كأنه سيفٌ من الكلمات، له نصلٌ لا يُرى، وحده من يعرف قصص العالم يفهم وزنه.

عائلة والفورد.

أقوى عائلة معروفة. أولئك الذين كُتبت لهم عشرات القصص العالية الاحتمال، بأغلفة تلمع وكأنها خُلقت من جوهر النجوم، وعناوين تُخيف حتى من لم يقرأها بعد.

هي الابنة الرابعة، والأصغر، لكن رغم ذلك فإن كتابها ليس فارغًا.

قصصها محفورة في صفحاته، مليئة بمواقفٍ جعلت من اسمها شيئًا يُقال همسًا في المجالس، وعلانيةً فوق منصات القتال.

قصةً تلو الأخرى، تكدّست في كتابها، ممهورة بعناوين مثل:

"السيف الذي لم يحنِ رأسه"

"صمت الجليد قبل الانفجار"

"حوار مع الشك"

قصصها كانت دائمًا أقصر من الآخرين، لكنها أكثر احتشادًا بالإحتمالية، أكثر صدقًا في حبرها، كأنها كُتبت تحت وطأة قرارٍ حقيقي، لا خيال.

قالت بصوتٍ خافت:

"والدي… ياتو والفورد. الرجل الذي لم تهزّه حتى التنانين."

ثم نظرت إليه بعينين سوداويْن لا تعرف الضعف:

"ليس لأنهم لم يختبروه، بل لأنهم عرفوا النتيجة مسبقًا."

يوكيو لم تكن مجرد ابنة لأبٍ عظيم. كانت أختًا لـ يوري، تلك التي تروي قصص التوازن والعدالة.

ولـ يورو، صيّاد الوحوش، الذي صنع ملاحمًا لحماية العائلة.

ولـ يونا، "زهرة الشوك"، التي سطّرت رواياتها بين الجمال والدم.

لكل منهم كتابه، وكل كتاب يعبّر عن فلسفة صاحبه، عن جوهره.

والغلاف؟ لم يكن مجرد زينة، بل انعكاس للروح.

غلاف كتاب يوكيو كان داكنًا، لكن فيه تدرجات فضية كأنها تمثل السكون قبل العاصفة.

عنوانه لم يُذكر حتى الآن، لكنها كانت تحمله معها، كأنها تنتظر اللحظة المناسبة لتُعلن عن فصولها القادمة.

سألها البطل، وقد بدأ يفهم أكثر:

"هل كل شيء هنا يُقاس بالقصص؟"

أومأت:

"نعم… هنا، المهارة ليست فقط في الضرب، بل في الرواية. قصتك تمنحك القوة، وكل قرار تُقدم عليه، كل كلمة تنطق بها، قد تُضاف إلى كتابك… أو تُهدر."

ثم أضافت بصوتٍ أكثر جدية:

"الكتاب لا يكذب. قد يتأخر في الكتابة، لكنه لا يُزيّف الحقيقة."

نظر إلى كتابه، صفحته الوحيدة ما تزال تنبض بهدوء.

كان خفيفًا، كأن احتماليته لا تزال ضئيلة، هشّة.

قالت يوكيو، وهي تنهض وتحمل كاتانتها بهدوء:

"إن أردتَ النجاة… وإن أردتَ أن تعرف الإجابات… فأنت بحاجة لقصص. كثيرة."

ثم تابعت وهي تسير أمامه:

"سأدلك على أول من يمكنه أن يُضيف سطرًا جديدًا في كتابك… ولكن كن مستعدًا. القصص، مثل السيوف، قد تجرح الكاتب قبل أن تجرح العدو."

سار خلفها. خطواته الأولى لم تكن قوية، لكنها حقيقية.

وفي عالمٍ تكتبه القصص، تلك وحدها البداية التي تستحق أن تُروى.

الرياح كانت أبرد مما توقع. بدا كأن الليل يحاول التسلل إلى عظامه، رغم نار التخييم التي خمدت تدريجيًا مع انكسار الليل.

البطل جلس بصمت، ملامحه غارقة في تفكير ثقيل. يوكيو كانت قبالته، ظهرها مستند إلى جذع شجرة يابسة، ووجهها محايد، كأنها لا تنتظر شيئًا.

"إلى أين كنت تتجه؟" سألت بصوت ناعم، لكن لا يخلو من الحذر.

أجابه بعد صمت:

"إلى ذلك الذي لا يُكتب... إلى الإجابة."

رفعت حاجبها قليلًا.

"الإجابة؟ عن ماذا؟"

"عن نهايتي."

نظرت إليه كما لو كانت تحاول أن تقرأ ما بين أنفاسه. لم ترد مباشرة، بل قالت:

"أنت من النوع الذي يركض خلف المصير… أم من يحاول خنقه؟"

"أحاول أن أكتب نهايتي بنفسي. هذا ما أظنه على الأقل."

سادت لحظة صمت. من بعيد، صياح غراب عبر سماء الفجر. ثم سألها:

"لماذا أنقذتني؟"

نظرت إليه، هذه المرة بعينين لمعتا قليلاً. ثم همست:

"ربما لأني رأيت ظلي فيك. أو… ربما فقط لأني أردت ألا تموت قبل أن أقرأ قصتك."

لم يفهم تمامًا إن كانت تتهكم أم تصدق.

نهضت يوكيو ببطء، تمطّت كأنها تستيقظ من حلم، وسحبت سيف الكاتانا قليلًا من غمده لتختبر لمعانه.

"وجهتنا القادمة ليست بعيدة. خريطة السرد تشير إلى تقاطع قصص حدث مؤخرًا… يبدو أن شيئًا ما يتشكل في الأفق."

سألها:

"أتعنين أن خيوط القصص تتجمع؟"

أومأت.

"بعض الأماكن تُولد من احتمالية عالية… هناك، تتفاعل القصص وتتشابك. أريد أن أكون هناك قبل أن تتغير الأمور."

بدأ البطل يتبعها، خطاه أثقل من المعتاد، فندوب القتال السابق لم تلتئم بعد، كما أن أول قصة كُتبت في كتابه ما تزال تُشعل قلبه:

"في مواجهة القدر."

شعر بها هناك… تُراقبه من داخل الصفحات.

بينما يسيران، لمح البطل من طرف عينه ومضةً داكنة تنبعث من كتاب يوكيو — لحظة خاطفة، كأن صفحة سُوداء مرّت في داخله، لكنها طُويت بسرعة.

لم يسأل.

لم يكن الوقت قد حان بعد.

...

خطا البطل ويوكيو في عمق الغابة، حيث بدأ الضباب يزداد كثافة، وارتفعت حرارة الهواء بشكل غير مفسر. بدا وكأنهما يعبران إلى سرد جديد لم يُكتَب بعد.

قالت يوكيو وهي تُخرج يدها من عباءتها السوداء:

"هذا المكان... ليس على أي خريطة."

في تلك اللحظة، اهتزت الأرض تحت أقدامهما. ارتفع التراب على شكل خطوط متشابكة، تشكّلت في دائرة ضخمة تحتهما.

"فخ قصصي!" صاحت يوكيو، ودفعت البطل خارج الدائرة، لكنها ظلت عالقة في المنتصف، والرموز تتوهج أسفلها.

من الفراغ ظهرت ثلاثة كائنات:

كائنات ضخمة، أجسادها مصنوعة من صفحات مهترئة وأقلام عملاقة كسيوف. وجوههم بلا ملامح، لكن من بين طيات الورق في رؤوسهم تتطاير جمل ناقصة وعبارات مشوهة.

"هذه... أوصياء المسودات. كُتّاب سقطوا قبل أن يُكملوا قصتهم، والآن يحرسون من لا يجب أن يتدخل في النصوص غير المكتملة."

أطلق أحدهم صرخة مكتومة، وهجم على يوكيو.

تحركت بسرعة. سحبت كاتانا مطلية بالحبر الأسود، وصفحة في كتابها انفتحت تلقائيًا لتُعلن:

"الناسخة - قصة تكرر نفسها في ألف شكل."

ضربتها لم تكن واحدة.

بل تكررت ثلاث مرات متتالية في نفس اللحظة. طيف من سيوفها ظهر إلى جانبها، وهاجم الخصم من ثلاثة اتجاهات. جسده الورقي تمزق، وتطايرت الأحرف في الهواء كالشرر.

البطل وقف مذهولًا بالخارج. لم يكن قادرًا على الدخول إلى الدائرة، ولكن عينه لم تتركها.

الكائنان الآخران هجما معًا.

"يوكيو!" صرخ.

صرختها لم تكن ردًا، بل كانت صامتة... وكانت الصفحة الثانية تُفتح:

"حياة صعبة."

العالم حولها اسودّ لثانية. ظهرت صور مشوشة لطفولة متعبة، شوارع موحلة، ليالٍ بلا دفء، نظرات استخفاف من الكبار.

ومع كل صورة… انفجرت طاقة من جسدها كأنها تستمد القوة من المعاناة نفسها. أصبح جسدها أسرع، أكثر عنفًا. هجومها مزّق الكائن الثاني إلى شرائط من الورق المتطاير.

ولكن الثالث ضربها. من الخلف.

البطل لم يحتمل. كتابه ارتجف في يده، وانفتح من تلقاء نفسه.

"في مواجهة القدر."

لحظة صمت. ثم، بدأ شيء ما يتشكل في الهواء. لم يكن سيفًا ولا درعًا، بل قصة من نور رمادي ظهرت من بين يديه. لم يفهمها بعد، لكن دفع بها إلى الأمام... واخترقت الحاجز الذي كان يعزله عن يوكيو.

الضوء أصاب الكائن الثالث… فبدأ يتلاشى، ليس كمن يُقتل، بل كمن يُعاد إلى سطره الأول.

يوكيو تنفست بعمق، نظرت إليه... وابتسمت ابتسامة نادرة، متعبة، لكنها حقيقية.

قالت بصوت خافت:

"قصتك بدأت تظهر... أيها الغامض."

ثم جلست على الأرض، تقطب حاجبيها وهي تنظر إلى يدها المرتعشة.

"هذا المكان... ليس مصادفة. كأن أحدهم أراد اختبارنا."

رفع رأسه إلى السماء، وهناك… بين الضباب، لمح ظلالاً بعيدة.

"من يكتب هذه السطور؟" سأل.

يوكيو همست:

"ربما… من يظن أنه الكاتب."

سكنت النار قليلًا، وهدأت أنفاس الريح، بينما جلس البطل متقاطع الذراعين أمام اللهب، غارقًا في تفكيره. لم تكن يوكيو بعيدة، كانت تنظر إليه من جانبها وهي تتكئ على جذع شجرة، ساكنة كأنها تستمع لصوت لا يسمعه سواه.

قالت بنبرة منخفضة:

"أتعلم… هذا العالم يُكتب كما نُحارب. كل حركة، كل قرار، هو جملة في قصةٍ لم نختر أن نكون أبطالها."

نظر إليها. ابتسم بخفة، ثم أجاب:

"لكن بعضنا يرفض أن يُكتب. بعضنا يبحث عن القلم… أو يسرقه."

ضحكت بخفة، ثم غمغمت:

"ومن لا يجده، يكتفي بتمزيق الصفحات."

ساد الصمت للحظة. ثم شعر به… الكتاب. تحرك في حزامه ككائن حي، يتلوّى، يهمس. مد يده نحوه، أخرجه ببطء، فرآه يفتح من تلقاء نفسه.

همست يوكيو وهي تراقب:

"...مجدداً؟"

"لا. هذه المرة… مختلف." قالها وهو يحدق في الصفحة الجديدة التي بدأت تتكون. لم تُكتب بالحبر، بل بشيءٍ بدا وكأنه ظل متجمد، رمادي، نابض.

"حين تُلامس الظلال أعماقك ولا تجد ما يحميك... يمنحك الفوضى ما لا يُمنَح."

ظهرت الكلمات تباعًا على الصفحة المحروقة الأطراف. ثم... اسم القصة:

"ملتهم القصص"

شهقت يوكيو بصوت خافت، واقتربت خطوة، وهي تحدق في الكتاب:

"قصة… ليست من هذا النوع. ليست متوازنة… بل تحمل أثرًا فوضويًا. هل تشعر بذلك؟"

قال وهو لا يزال يحدق في الصفحات:

"كأن شيئًا حيًّا دخل كتابي. شيء جائع… مثلي تمامًا."

ثم، كما لو كان الصوت داخل عقله فقط، سمعه:

"خدمة صغيرة للفوضى... ومقابل لقاء غير مُعلن... خذ هذا."

نظر حوله. لا شيء. لا أحد. حتى يوكيو لم ترد، وكأنها لم تسمعه.

قال بهدوء:

"سمعت صوتًا… كأنه يتحدث إليّ من عمق القصة نفسها."

سألته يوكيو، هذه المرة بنبرة مختلفة، شبه متوترة:

"هل ذكر... الفوضى؟"

أومأ برأسه.

قالت بنبرة منخفضة تكاد تكون صلاة:

"...إذن لقد بدأت القصة تكتبك. احذر، فالقصص لا تعيد ما تأكله."

أغلق الكتاب ببطء، ونظر إلى النار.

لم يكن خائفًا.

لكنه لم يشعر بالأمان أيضًا.

بل… شعر أنه لأول مرة، لم يعد وحيدًا.

2025/04/25 · 8 مشاهدة · 1404 كلمة
tls777
نادي الروايات - 2025