ثم، في اللحظة التي غادر فيها، شعر بشيء يتغير في الجو.

كما لو أن العالم من حوله بدأ يشكل نفسه بناءً على تلك الكلمات التي قرأها في الكتاب.

لكن قدميه، اللتين تقدمتا بثبات نحو الخارج، خانتاه فجأة.

شعر بضعفٍ حاد في جسده، دقّ قلبه بعنف ثم تباطأ، وكأن احتماليته نفسها — تلك القوة التي تغذيه بالقصة والمعنى — كانت قد نُزفت حتى آخر قطرة.

سقط على ركبتيه، ثم هوى جسده على الأرض بهدوء، كريشة سقطت من سماء مثقلة بالأسرار.

ظلاله تلاشت، وسيفه انزلق من يده، والكتاب انغلق تلقائيًا كما لو أنه شعر بخطر الفراغ.

لحظته الأخيرة قبل أن يغيب عن الوعي كانت رؤية صفحةٍ فارغة… تنتظر قصة أخرى.

عندما فتح عينيه، كانت السماء داكنة بلون الليل الصافي.

نجوم كثيرة كانت ترقص في الأعلى، وسكون خافت يلفّ المكان.

شعر بحرارة لطيفة تلامس جلده، وحين استدار برأسه ببطء، رأى لهبًا هادئًا يتراقص أمامه.

كانت نار تخييم متقدة، ترسل ألسنة من الدفء وسط هذا الصقيع الليلي.

وبجانب النار… جلست فتاة.

لم تكن تشبه الظلال التي اعتادها، ولا ذلك الفراغ الذي صاحبه منذ بداية رحلته.

بل كانت حضورًا واضحًا، كأنها نُسجت من السكون ذاته.

شعرها أسود حريري، يتدلى بانسياب على كتفيها، تعكسه النار ببريق غامض.

عيناها سوداء، عميقتان كهاويةٍ تنظر فيها فترى نفسك تتلاشى وتُعاد صياغتك.

كانت ترتدي ملابس سوداء أيضًا، لكن ليس سواد العدم، بل سوادًا يشبه الليل الذي يسبق الفجر.

سيف كاتانا معلّق على خصرها، غمده مزخرف بنقوشٍ دقيقة، يلمع كأن بينه وبين الضوء عهدًا قديمًا.

لم تنظر إليه فورًا، بل واصلت التحديق في النار كما لو كانت تحاورها.

لكن بصوتٍ هادئ، فيه نغمة لا مبالية وأخرى تكاد تكون رحيمة، قالت:

"أنت استيقظت... أسرع مما توقعت."

فتح فمه ليجيب، لكنه لم يجد صوتًا.

شعر بجسده لا يزال مرهقًا، والاحتمالية بداخله بالكاد تتنفس.

رفعت عينيها إليه، والتقت نظراتهما للمرة الأولى.

"اسمي يوكيو... يوكيو ألفورد. كنت أراقبك منذ لحظة سقوطك."

سكتت للحظة ثم أضافت وهي تعيد بصرها إلى النار:

"نقص الاحتمالية يجعلك تذبل ببطء. أنت محظوظ أنك لم تُمحَ."

لم يكن يعلم من هي حقًا، ولا كيف وصلت إليه، ولا لماذا أنقذته من النهاية التي كان يقترب منها.

لكن نار التخييم، وضوء النجوم، ونبرة صوتها… كلها أخبرته بشيءٍ واحد:

أنه لا يزال في القصة.

وأن ما ينتظره بعد هذه اللحظة… سيكون أعقد مما سبق.

سادت لحظة صمت بينهما، لم يقطعها سوى صوت الخشب وهو يتفتت في نار التخييم، وانبعاث شرارات صغيرة ترقص كأنها قصص تُخلق وتذوي في ثوانٍ.

مدّ البطل يده نحو دفء النار، ثم نظر إلى يوكيو، مترددًا، كأن عليه أن يزن كلماته قبل أن يقولها.

قال بصوتٍ خافت:

"هل أنقذتِني؟"

أجابت دون أن تنظر إليه:

"أنا فقط منعت القصة من أن تُطوى مبكرًا… ليس بعد."

تأمله قليلاً ثم سأل:

"هل... تعرفين عن الكتاب؟"

التفتت إليه أخيرًا.

عيناها تتفحّصه كما لو كانت تزن احتماليته، تقرأ سطوره غير المكتوبة بعد.

قالت بنبرة تحمل شيئًا من الحذر:

"كل من يملك كتابًا… يعرف الثمن. لكن القليل فقط يفهم الحقيقة."

صمت قليلاً، ثم تساءل:

"الحقيقة؟"

قالت:

"الكتاب لا يمنحك القوة… هو فقط يُذكّرك أنك قصة. كل مهارة، كل ضربة سيف، كل قرار، كلها احتمالات تسكن تلك الصفحات. والكاتب؟ ليس دائمًا أنت."

حدّق في النار وقال ببطء:

"لكنني… شعرت أنها كُتبت لي، لأجلي."

ابتسمت بسخريةٍ خفيفة:

"كلنا نعتقد ذلك في البداية. ثم نكتشف لاحقًا أن هناك كتبًا مزيفة، ومؤلفين مزيفين… يسلبون احتمالية الغير ليكتبوا مجدهم."

أشار إلى الكتاب الذي ما زال مستقرًا بجانبه:

"وهذا… حقيقي؟"

اقتربت من النار قليلًا وقالت:

"عنوان قصتك هو 'في مواجهة القدر'… هذا يعني أن قصتك ترفض الانصياع، أنها ليست سردًا بسيطًا بل تمرد على السرد ذاته."

ثم أضافت بصوتٍ أهدأ، كمن يكشف شيئًا ثمينًا:

"احذر، فبعض القصص تستهلك أصحابها… لأنهم يظنون أنهم أبطال، بينما القصة اختارتهم لتفنيهم."

سكت طويلاً، وكأن كلماتها غرست فيه بذور الشك والدهشة.

قال أخيرًا:

"لماذا تساعدينني؟"

أجابت بصوت كالسيف في غمده:

"لأنني قرأت قصتك… في كتابي."

سرت قشعريرة في جسده.

لم يعرف ما تعنيه، ولا كيف وجدت قصته هناك، لكنه أدرك شيئًا واحدًا:

هذه المرأة، يوكيو ألفورد، ليست شخصًا عاديًا… وربما تكون مفتاحًا لفهم ما يحدث.

أعاد بصره إلى كتابه، الصفحة المرتعشة بنور خافت، والعنوان الذي بدا كما لو أنه كُتب من قلبه لا من قلمه.

"في مواجهة القدر"… كان هذا العنوان أكثر من عنوان. كان صرخةً داخلية، وميضًا لحرب بدأت للتو.

قالت، وهي تراقب تعبيرات وجهه:

"الشخص الذي واجهته لم يكن عاديًا. لم يستخدم كتابًا، لم يستدع قصة، ولم يُطلق احتمالًا… ومع ذلك، كدت أن تُمحى."

أخفض رأسه.

"لم أستطع أن أواجه ثقله… كأن سيفه يحمل كل القصص المنسية."

قالت بصرامة:

"لأنك بلا ماضٍ مكتوب. بلا قصة، أنت مجرد ظل. لكن الآن… كتابك بدأ يُدوَّن، وسيفك لن يظل مجرد قطعة حديد."

ثم نهضت بهدوء، نفضت الغبار عن كاتانا تحملها عند خصرها، وسارت بضع خطوات نحو الغابة، قبل أن تلتفت إليه:

"غدًا تبدأ قصتك. وأعدك… لن تسير وحدك."

وغابت بين الظلال، تاركة النار تواصل رقصتها، وكأنها تحتفل ببداية رواية جديدة… في عالمٍ تحكمه الحكايات.

2025/04/25 · 9 مشاهدة · 776 كلمة
tls777
نادي الروايات - 2025