لم تكن الرحلة إلى قصر أفرودايت مجرد انتقال عبر المكان، بل عبور في طبقات العالم غير المرئية. هناك، حيث تتداخل الرائحة العطرية بالسم الزعاف، وحيث تكون الحكايات أكثر فتكًا من الأسلحة، يقف القصر الذي يُقال إن زهرته الأولى لا تموت أبدًا، بل تُعيد التفتح في كل زمنٍ بلونٍ مختلف.

قصر أفرودايت ليس مبنيًا بالحجارة ولا الأخشاب، بل بالجمال والعقود القديمة التي خيطت بخيوط السم والترياق. كان يطفو فوق بحيرة رمادية، يُقال إنها مصنوعة من دماء أولئك الذين جاؤوا يطلبون العلاج ولم يستحقوه. وكانت أبوابه مصنوعة من زجاج داكن، يعكس الوجوه لا كما هي، بل كما تخشاها.

في قلب هذا القصر، كانت تقيم جاسمين أفرودايت.

الابنة الثانية للفرع الثاني من العائلة، فتاة في بداية العشرينات، ذات بشرة بيضاء كالخزف، وشعر أخضر مائل إلى الزمردي يتدلى خلف كتفيها في ضفائر ناعمة تفوح منها رائحة الأعشاب المرة. عيناها بلون البنفسج الداكن، صافية كأنها ترى من خلالها طبقات الجسد لا الجلد وحده.

لطيفة في حديثها، وديعة في حضورها، حتى ينسى من يراها أنها وريثة لعائلة تُتقن فنون السم كما تُتقن الترياق. لكن من عرفها عن قُرب، يدرك أن خلف تلك الابتسامة اللطيفة تقف فلسفة عميقة، لا تؤمن بالخير المطلق ولا بالشر المطلق، بل ترى في الداء والدواء انعكاسين لحقيقة واحدة.

كانت جاسمين هي من جعل من مدينة سينا — تلك المدينة التي عانت قرونًا من الأمراض — موطنًا جديدًا لفنون الطب والسموم. تحت قيادتها، أصبحت المدينة تُعرف باسم: "مدينة السم والدواء". افتتحت مشفىً كيميائيًّا بُني على أطلال معبد قديم، وكتبت على بابه:

"لكل داء حكاية... ولكل شفاء ثمن."

قُبيل الظهيرة، وقفت جاسمين على شرفة غرفتها المطلة على البحيرة الرمادية، تراقب دوائر الماء تتسع تحت قطرات المطر الخفيف. شعرت بوصول طيف غريب... ليس من المكان، بل من الحكاية ذاتها. همست دون أن تلتفت:

"هل عاد المرسال من الحي السفلي؟"

انحنى خادمها العجوز خلفها وقال:

"نعم سيدتي. وجلب معه ما هو أسوأ من الأعراض. الاحتمالية تتآكل من أجساد الناس كما لو أن قصصهم تُمحى في صمت. هناك حالات لم تعد قادرة حتى على تحريك أطرافها دون انهيار سردي كامل."

شهقت جاسمين بخفة، ثم التفتت نحوه، وعيناها البنفسجيتان تلمعان بقلق خافت خلف الهدوء المعتاد:

"ليس فقط مرضًا إذًا... بل طمس للهوية السردية. شيء ما يلتهم الحكايات ذاتها. هذا أخطر من أي وباء عرفناه."

"الناس يظنون أنها لعنة... وأن الزمن نفسه يتآكل."

أطرقت جاسمين رأسها ثم همست، وكأنها تحدث أرواح القصر القديمة:

"حين تُنسى القصص، يضعف أصحابها. ولكن حين تُمحى قبل أن تُروى، فهذا... إعلان حرب."

....

في نفس الوقت بعد أن غادر الكهف، كانت قدماه تغوصان في الطين البارد، والغيوم الرمادية تلاحقه كظل ثقيل. حمل يوكيو على ظهره كما لو أنها كنز هش، وواصل السير في الطرقات الموحلة المؤدية إلى ممر القوافل.

وجهه شاحب من الإرهاق، ويداه ترتجفان من حملها الطويل، لكن عينيه لم تفارقا الطريق. كان يعلم أن كل لحظة تأخير قد تقترب بها من الموت أكثر.

اقترب من مفترق طرق تُعرف بين المسافرين بأنها ملتقى القوافل الكبرى. وهناك، تحت مظلة خشبية مهترئة، كان رجل مسن يدوّن شيئًا على ورقة، وأمامه لوح نقش عليه:

"عربات متجهة إلى: برج الحرف، مدينة الرمال، مدينة سينا، المرافئ الشرقية."

اقترب البطل وهو يلهث:

"هل... هل هناك عربة متجهة إلى سينا؟"

رفع الرجل نظره ببطء، ثم ألقى نظرة على يوكيو المغشي عليها على ظهره، وعلى آثار السم الزاحفة التي بدأت تظهر على رقبتها. تمتم:

"وجهها مألوف... من آل والفورد؟"

أجابه البطل بتنهيدة مختنقة:

"لا وقت للأسئلة. أحتاج إلى العربة... الآن."

أشار الرجل نحو عربة خشبية مزودة بغطاء جلدي واقٍ، يستعد صاحبها للانطلاق:

"أخبره أنك ذاهب للعلاج. السائق يعرف طريق سينا جيدًا. لكن أسرع، فهو لا ينتظر كثيرًا."

ركض البطل نحو العربة، وصوته المتعب يكاد لا يُسمع فوق الرياح:

"سينا... من فضلك، نحتاج للذهاب فورًا."

نظر إليه السائق، رأى الجدية في عينيه، والفتاة الملقاة على ظهره، ثم أومأ دون كلمة. ساعده في رفع يوكيو إلى الداخل، ثم قال وهو يضرب زمام الخيل:

"تمسك جيدًا... فطريق مدينة السم والدواء ليس لطيفًا."

... جلس البطل في العربة، يلفّ جسد يوكيو بغطاء ثقيل عُثر عليه في أحد أركان العربة. كانت أنفاسها ضعيفة ومتقطعة، وعيناها مغمضتين بإرهاق شديد. رفع يدها ببطء بين كفيه، يحاول بث بعض الدفء فيها.

لكن في اللحظة التي التقت فيها بشرته ببشرتها...

صعقة.

شعور أشبه بانفجار صغير داخله، وكأن شرارة احتمالية قد ضربته مباشرة في روحه. اتسعت عيناه، وتشنّج جسده للحظة، بينما اهتز الهواء من حوله، وانبعث وهج خافت من كتابه الذي يحمله على خصره.

انفتح الكتاب من تلقاء نفسه، وظهر سطر جديد كُتب أمام عينيه، بحروف متوهجة:

"لا تلمسها بدون سبب. S.A.I"

ارتجف البطل، وكاد يسحب يده، لكنّه لم يفعل. بقي يحدق في السطر الغامض، قلبه ينبض بسرعة. لم يفهم معنى تلك الأحرف الأخيرة، ولا لماذا حذّره كتابه بهذه الطريقة.

همس لنفسه بصوت مبحوح:

"هل هي قصة جديدة؟ أم... تحذير من قصة لم تُفتح بعد؟"

ألقى نظرة على وجه يوكيو، الذي بدا هادئًا رغم كل ما مرّت به. لم تكن هذه الفتاة عادية، ليس فقط بسبب اسمها أو مكانتها، بل بسبب شيء آخر... شيء يتجاوز القصص التي تملكها.

عاد ليغطي يدها برفق، دون أن يلمسها هذه المرة، وهو يهمس:

"سأفهم ما يحدث... فقط لا تموتي."

وفي الخارج، كانت العربة تخترق الطريق نحو سينا... حيث تنتظرهم حكاية أخرى، قد تكون العلاج... أو بداية الخراب.

....

السماء كانت تميل نحو اللون الرمادي المائل للبرتقالي، كأن الغروب نفسه لا يثق بما تخبئه مدينة سينا في حضنها. الهواء جاف، ممزوج بذرات كيمياء قديمة لا تُرى، لكنها تُشم، تُحسّ، وتُربك شيئًا غامضًا في المعدة.

كان البطل جالسًا في مؤخرة العربة، ذراعه اليسرى تشد الغطاء على جسد يوكيو، ويده اليمنى ترتكز بثبات على مقبض سيفها الذي لم يفارقه منذ غادرا الكهف. عيناها مغلقتان، وجهها شاحب بلون الثلج، وعروق صغيرة بلون أرجواني باهت تظهر على عنقها، ترسم خريطة مسمومة تسير نحو قلبها.

رفع البطل رأسه ببطء ونظر من نافذة العربة الصغيرة، فرأى البوابة الضخمة تلوح من بعيد... كانت سوداء، حديدية، تتخللها نقوش تشبه الزهور، لكنها عند التدقيق ليست إلا أشكالًا لعروق الأوردة البشرية... كأن المدينة كلها حية وتتنفس سمًا.

أغمض عينيه للحظة، واستعاد صوت العجوز وهي تهمس:

"إن لم يكن أمامك طريق آخر، فلتذهب إلى سينا... إلى قصر أفرودايت. قد تجد الحياة هناك، أو الموت. لا يهم، كلاهما وجهان لعملة واحدة في ذلك المكان."

عندما فتحت عيناه من جديد، شعر بشيء ينبض تحت جلده. نظر إلى يوكيو، ثم دون تفكير، مد يده وأمسك بكفها البارد.

في اللحظة التالية، ضربته صاعقة من الاحتمالية — موجة غير مرئية لكنها قاتلة — اخترقت جلده، وتسربت إلى عظامه كبرقٍ عاطفي. ارتدّ إلى الخلف فجأة، وأفلت يدها، ثم سقط جالسًا على الأرضية الخشبية للعربة، يلهث بشدة.

تفتح كتابه على ركبته من تلقاء نفسه، وكُتبت على الصفحة البيضاء:

"لا تلمسها بدون سبب — S.A.I"

قرأ الكلمات مرتجفًا. لم يكن يعرف ما تعنيه S.A.I، لكنها لم تكن مجرد تحذير... كانت قانونًا كُتب بالاحتمالية ذاتها، كأن اللمسة العابرة قد اخترقت نظام القصص وأثارت شيئًا أكبر مما يتخيله.

عندما بدأ يتنفس ببطء، توقفت العربة فجأة.

صوت الصراخ بالخارج، ثم صهيل خيول مذعورة، وصوت ارتطام معدن بالمعدن.

نهض بسرعة، وسحب الستار بحذر. رأى السائق يترنح، ثم يسقط من الأعلى وسهم عالق في صدره. على جانب الطريق، ظهر أربعة رجال، ملثمون، ملابسهم ممزقة وأعينهم جائعة. أحدهم صرخ:

"سلّموا ما لديكم! هذه الطريق خاضعة لسيطرتنا الآن!"

زمّ البطل شفتيه. مد يده إلى سيفه، ثم نظر إلى يوكيو... لا يستطيع أن يتركها دون حماية.

هبط من العربة ببطء، دون كلمة، ووقف أمامها كجدار لا يُكسر. اقترب أحدهم بسيف صدئ، لكن قبل أن ينهي خطوته، أطلق البطل صرخة خافتة، وقفز إلى الأمام بسرعة لا تليق إلا بقصص المبارزين.

في ضربة واحدة، طارت سكين الرجل من يده.

أما البقية، فقد تراجعوا خطوتين، لكنهم عادوا بسرعة أكبر، فبدأت معركة قصيرة، خشنة، بلا مجاملات.

ركل الأول في بطنه، ثم سحب الآخر من ياقة قميصه ووجه له لكمة بقبضة السيف، فسقط مغشيًا عليه. أما الثالث، فحاول الهجوم من الخلف، لكن البطل استدار وصد الضربة بمرفقه، ثم أسقطه بركلة جانبية قوية.

مرت دقائق قليلة، وتراكمت الأجساد المغمى عليها على أطراف الطريق. ثم عاد البطل إلى العربة، وتأكد من وضع يوكيو، فأعاد تغطيتها بلطف، وتحسس جبينها... لا يزال ساخنًا، ولا يزال السم يعمل ببطء قاتل.

جلس على المقعد الأمامي، وأمسك لجام الخيول بنفسه، وبدأ بقيادتها نحو المدينة.

بينما تتحرك العربة، راح يرى معالم المدينة تظهر بوضوح: أبراج، دخان أرجواني اللون يتصاعد من المداخن، وروائح غريبة تتداخل بين الأعشاب الحارة والدواء الخام.

وأمامهم، عند نهاية الطريق، ارتفع قصر أفرودايت ككابوس جميل — مزيج من الحلم والسمّ — كأن كل ما حدث حتى الآن لم يكن سوى مقدمة لحكاية أعقد بكثير مما كان يتصور.

2025/04/30 · 11 مشاهدة · 1344 كلمة
tls777
نادي الروايات - 2025