لم تكن جاسمين أفرودايت من أولئك الذين يشكّون سريعًا، لكنها أيضًا لم تكن من الحمقى. نشأت في قصر يزدهر بين السم والدواء، وتعلمت أن أعذب السموم تُسكب دومًا في أكواب الكريستال.

منذ مغادرة ذلك الشاب الغريب مع الفتاة المصابة، بقيت كلمات اتهامه ترن في رأسها، كذبحةٍ بطيئة. كانت واثقة في خادمها "كاليست"، الرجل الهادئ، المهذب، الذي لم يُرَ قط خارج حدود القصر. لكن... ذلك اليوم، وهو يسكب الشاي، كانت أصابعه ترتجف للحظة، ثم خفيت تلك الرجفة بسرعة، كأنها لم تكن.

وفي صباح اليوم التالي، قررت أن تفعل ما لا تفعل سيدات القصور عادة... أن تخرج دون إعلان.

ارتدت عباءة رمادية واسعة، أخفت شعرها بلثام أزرق، وغادرت من الباب الجانبي الذي لا يستخدمه إلا أفراد العائلة في حالات الطوارئ. رافقها ظلها فقط، ونسيم الصباح المحمّل برائحة الكبريت والعقاقير.

سارت في أحياء "سينا" دون أن تعرّف نفسها، وبدأت تزور المشافي التي تحت إدارتها. الأولى كانت مشفى الجنوب... الطبيب هناك رحّب بها، لكنه بدا مرتبكًا. لاحظت أن قسم الحالات الحرجة مغلق جزئيًا. بررت الإدارة ذلك بنقص في الموارد. لكنها، بعينيها المدربة، رأت غير ذلك.

ثم ذهبت إلى مشفى الشمال... ووجدت نفس النمط: غرف فارغة، كتب مرضى ناقصة، أجهزة الاحتمالية تعطي قراءات منخفضة لمواطنين أصحاء.

"شيء ما... يسحب الاحتمالية من الناس، ببطء… وكأنه يتغذى عليهم دون أن يقتلهم." همست لنفسها.

عادت إلى القصر عند المغيب. الريح تراقص أوراق النعناع السام على الشرفات، والقصر يزفر هدوءًا مشوبًا بنذير.

دخلت من الباب الخلفي، صعدت إلى جناحها دون أن يلحظها أحد… أو هكذا ظنت.

لكن في الممر الطويل المؤدي إلى غرفتها، وقف كاليست. لم يكن يحمل الشاي هذه المرة، بل مجرد صمت.

قال وهو يبتسم بهدوء مصطنع:

"هل كانت نزهتك ممتعة يا سيدتي؟"

تجمدت جاسمين. لم تخبر أحدًا بخروجها. لم يرها أحد.

قالت ببرود:

"كنت بحاجة لبعض الهواء."

اقترب خطوة. عيناه – اللتان طالما بدتا رماديتين – كانتا الآن تميلان إلى الاحمرار، كأن شيئًا فيها يُغلي من الداخل.

"كنتِ تتجسسين." قالها كأنها حقيقة لا شك فيها. "والآن… أنتِ تعرفين الكثير."

رفعت رأسها، وعلى الرغم من اضطراب قلبها، بقي وجهها هادئًا.

"وما الذي يجب أن أعرفه، يا كاليست؟"

ضحك بخفة، ثم قال:

"لا تقلقي، سيدتي… فأنا لن أؤذيك… بعد."

...

كان الليل في مدينة سينا لا يُشبه ليل المدن الأخرى. لا يكتفي بالظلمة، بل يغلف الهواء بطبقة من التوجس، وكأن السم ذاته يتنفس مع كل نَفَس.

في غرفة صغيرة في فندق متقشّف، جلس البطل إلى جانب السرير، يراقب يوكيو. ملامحها، التي كانت دومًا حادة وباردة، بدت الآن باهتة، واهنة كأن لون الحياة يُسحب من عروقها.

تنفسها... أصبح متقطعًا. جبينها ينزف قطيرات عرق بارد، وسواد عينيها كاد يختفي تحت ثقوب الإرهاق. يدها التي كانت تقبض على الغمد بإصرار، ارتخت كأنها طفلة فقدت طريقها.

رفع كتابه، قلب صفحاته، بحث عن بصيص من الأمل... لكن كل الإشارات تشير إلى أن الاحتمالية فيها تتناقص بشكل غير طبيعي، أسرع مما يجب، أعمق مما يستطيع تداركه. وسم السم القاتل يزحف عبر خطوط قصصها، يمحوها بصمت.

تمتم:

"إذا استمر الوضع هكذا... لن تبقى."

لم يكن من النوع الذي ينحني، لا لأحد، ولا لنداء ضعف. لكنه في تلك اللحظة، نهض... حمل جسد يوكيو كما لو كان يحمل شيئًا مكسورًا لا يجب أن يتحطم أكثر، وخرج بخطى متسارعة، قلبه يسبق قدميه.

قال في نفسه وهو يعبر الأزقة:

"إن كانت الكرامة عائقًا أمام إنقاذها... فلتذهب الكرامة للجحيم."

وصل القصر بعد دقائق، لكن بوابته كانت مغلقة، كعادتها في هذا الوقت من الليل. لم ينتظر، لم يطرق، بل قفز فوق الجدار كظلٍ تمرّس على خرق الحكايات. وتسلل من إحدى النوافذ العالية، بعد أن ثبت يوكيو بعناية على كتفه.

كان الجو ساكنًا... حتى لمح ضوءًا خافتًا يتسلل من أحد الممرات.

اقترب.

وما رآه، أوقف أنفاسه للحظة.

في قاعة جانبية، تقف جاسمين، ووجهها مصدوم. أمامها، كاليست... أو بالأصح، المخلوق الذي كان يتقن تقمص هيئة خادم.

كان جسده يتبدل. أطرافه تميل للسواد، عيناه تقطران طاقة شيطانية، وأصابعه تحاول الانقضاض على عنق جاسمين.

لم يفكر. لم يصرخ. لم يدرس الزاوية.

فقط، بحركة غريزية، سحب سيفه – نفس السيف الذي شهد معارك دامية – وقذفه بكل ما يملك من تركيز وإرادة.

السيف قطع الهواء كالبرق، دار في لولبة دقيقة، وانغرز في كتف كاليست قبل أن تلامس أصابعه عنق جاسمين.

صرخ الكائن بصوت مزدوج، بشري ووحشي، وتراجع للخلف وهو يتلوى. لم يمت، لكن الهجوم فاجأه وأربك توازنه.

تقدّم البطل ببطء، وعيناه تراقبان الموقف. جاسمين اتسعت عيناها بصدمة، ليس فقط من المشهد، بل من رؤية الشاب الذي طردته… يعود، يحمل فتاةً تحتضر… وينقذها.

قال بصوت منخفض وهو يهبط أرضًا:

"لم آتِ كي أفتح جراحًا قديمة... بل كي أمنع موتًا جديدًا."

ثم نظر إلى يوكيو، التي بدأت ترتجف رغم فقدان الوعي، كأن جسدها يُحارب ما تبقى من قصة تُحتضر داخله.

رفعت جاسمين يدها، وببطء، أشارت إلى أحد الممرات السرية خلفها.

"اتبعني… بسرعة."

تقدّم البطل بخطوات ثقيلة نحو جاسمين، كانت عيناه تراقبان الخادم المتلوي في الظل، لكن قلبه منحاز نحو الجسد الهش بين يديه. وضع يوكيو بين ذراعي جاسمين بحذر كأنها شظايا لحن هش:

قال بصوت متهدج:

"أنقذيها… ولو كلّفك ذلك نصف قصصك."

نظرت إليه جاسمين، وهي تشعر بثقل السم يزحف في عروق الفتاة، ثم همست بإيماءةٍ خفيفة، واندفعت نحو الممر السري، تختفي خلف الجدران.

وحده الآن.

صوت انفاس الخادم يعود. كان كاليست يتقوس مثل حيوان طريد، لكنه لم يعد يُشبه البشر. أظافره استطالت، وظهر قرنان صغيران من جبينه، وصدره ينبض بنمط غير منتظم كأن قلبه تحوّل إلى طبل معركة.

نظر البطل نحو السيف الغائب عن خاصرته... لقد ترك سيفه مغروزًا في جسد هذا الكائن.

ثم نظر إلى الأرض... كان سيف يوكيو هناك، ما زال يقطر احتماليتها المنهكة. تردد للحظة، ثم انحنى والتقطه.

ما إن لامست يده المقبض حتى اهتز الهواء حوله.

اندفعت صور يوكيو في ذهنه: ضحكتها التي لم تكن صريحة... تحديقها الطويل في الفراغ... تلك اللحظة التي قفزت فيها أمام التنين لتحميه دون تفكير.

قال هامسًا وهو يرفع السيف:

"إن لم أملك قصتكِ... فدعيني أُقرضكِ قصتي… فقط هذه الليلة."

اندفع الخادم كالسهم. الأرض تحطمت تحت قدميه. مدّ مخالبه نحو رقبة البطل، لكن الأخير انحنى تحت الضربة، واستدار كراقص سيوف، ثم وجّه ضربة قاطعة عبر خاصرة العدو.

صرخة ارتدت في الجدران. السيف لم يكن عادياً... لقد حمل أثرًا من احتمالية يوكيو، قوة السرد المقطعة بداخلها، والمجبولة بعنادها.

حاول كاليست أن يعاود الهجوم، لكن البطل لم يمنحه الفرصة. تقدّم بسرعة غير معتادة، ووجّه سلسلة من الضربات، كلها دقيقة، كلها صامتة، كأنه لا يُقاتل، بل يعزف سيمفونية النهاية.

قال البطل، بينما السيف يخترق الكتف الثاني:

"كنت تسرق قصص الآخرين... لكن نسيت أن بعض القصص لا تُسرق، بل تُحفر بالدم."

كاليست ترنّح، نصفه مغطى بالسواد، ونصفه ينزف احتمالية رمادية كالغبار. حاول النطق، لكن ما خرج من فمه لم يكن كلمات، بل أنين يحتضر.

وفي لحظة خاطفة، قفز البطل في الهواء، ووجه ضربة نهائية – مستقيمة ونقية – من الأعلى، قطعت جسد الخادم إلى نصفين.

سقط الكائن، اختنق الضوء في عينيه، واختفت الطاقة الشيطانية من المكان كما لو لم تكن.

وقف البطل يلهث، يده ما تزال تقبض على السيف بقوة. كانت قبضته تنزف من شدّ الإمساك، لكنه لم يشعر بها.

رفع عينيه نحو الممر حيث اختفت جاسمين ويوكيو، ثم همس لنفسه:

"عليها أن تعيش... لأجل قصتها، ولأجل من كتبوا اسمها في كتبهم."

2025/05/04 · 3 مشاهدة · 1120 كلمة
tls777
نادي الروايات - 2025