تمددت لحظات المعركة الطويلة، لكن التنين الأسود، الذي كان بمثابة القوة المجهولة، بدأ يتحرك بسرعة متزايدة، جسده الضخم يغطي السماء بسواد جناحيه. مع كل رفّة، كانت أنصاف الشياطين تُمزق وتختفي في الهواء، تحت وطأة لهبه القاتم. كانت أصوات انفجارهم تشبه تصاعد دخان من نار لا يمكن إطفاؤها، وكل لحظة في المعركة كانت بمثابة إعلان نهاية حتمية لهم.
ثم، كما لو أنه لم يكن هناك شيء آخر ليقوم به، التفت التنين فجأة نحو البطل. التقت عيناه الذهبيتان بعينيه، وبدا وكأنهما يتبادلان كلمات لا تنطق بها الشفاه. كانت تلك لحظة غريبة… مليئة بالغموض، ولم يكن هناك من يستطيع أن يفسر هذا التبادل البصري، إلا أن البطل شعر بشيء عميق في قلبه، كأن روحًا قد تواصلت معه.
بينما كانت جاسمين تتابع المشهد بصمت، تحاول تجميع نفسها وتركيزها، كانت عيناها تسعيان نحو التنين. ثم، فجأة، غمرت محيط المكان هالة من السكون، وكأن الطبيعة بأسرها توقفت لتستمع إلى ما سيحدث بعد ذلك.
التنين هبط إلى الأرض مرة أخرى. من دون أي تحذير، أطلق نفسه في الهواء، وأجنحته تضرب الرياح بعنف. كانت الأرض تهتز، وتزايدت الأصوات التي تشير إلى انهيار العوالم المتوازية حولهم. صمت رهيب… كانت العيون تلاحقه، والجميع في انتظار ما سيحدث.
وقبل أن يختفي التنين في السماء المظلمة، قال بصوت خافت لم يسمعه سوى البطل:
"إذن أنت من اختاره ملك ▣▣ . احمي وريثة ملك الفوضى ولو كلفك ذلك حياتك."
تلك الكلمات الغريبة لم تكن تفهم على الإطلاق. كانت تصفية في الكلام، لا يستطيع أحد سماعها أو قراءتها غير البطل. وكأنها كانت خاصة جدًا، أكثر من أن تُنطق أو تُفهم. كانت رسالة مشفرة، تحمل نغمة غامضة… وكأنها توقعًا لمستقبل سيأتي، ولربما كان هناك من يترقب ذلك في الظلال.
مع مغادرته، كان الظلام يحيط به، ليختفي تدريجيًا في السماء السوداء. ترك خلفه مدينة كانت مليئة بالتدمير، وجنودًا مكافحين، وبطلًا يحمل في قلبه سؤالًا أكبر من أي وقت مضى.
الشيطان الأخير، الذي اختفى في المدى، قد سقط. ولم يبق سوى التنين ليقضي على تلك المخلوقات، قبل أن يغادر ليحمل في قلبه سرًا غامضًا… والملك المجهول، الذي كان في الظلال.
ظل البطل ينظر إلى السماء، يلهث وهو يحمل يوكيو في يديه، وحين ابتعد التنين، شعر بشيء لا يمكن تفسيره. هل كانت تلك كلمات مهمة؟ أم كانت مجرد تهديد من مخلوق غامض؟
مع سقوط آخر شياطين الأرض، هدأت المعركة أخيرًا. كانت الأنفاس تتوقف، وعادت الحياة إلى المدينة تدريجيًا. لكن لا شيء كان كما كان عليه قبلها. التنين ذهب، ولكن الرسالة التي حملها معه تركت خلفها شقًا في الزمن، وحقيقة لم تُكشف بعد.
جاسمين كانت ما تزال واقفة في مكانها، تنظر إلى السماء والرياح تعصف بشعرها الأخضر، تذكر تلك الكلمات الغامضة، ولكن قلبها كان غارقًا في مشاعر من القلق والأسئلة.
ولم تكد تلتقط أنفاسها حتى اقترب منها البطل، وأخيرًا، بعد كل تلك اللحظات، بدا أن القدر قد وضع على عاتقها عبءًا جديدًا.
كان الصمت يحوم بينهما، وكأن الفوضى التي شهدوها قد فرضت نفسها على عالمهم، ليُترك سؤال واحد يتردد في ذهن الجميع:
"من هو الملك الذي يتحدث عنه التنين؟ ولماذا اختار البطل ليحمي وريثة ملك الفوضى؟"
لكن الجواب لن يُكشف إلا في وقت لاحق.
...
وسط أنقاض المعركة، ومع انقشاع الدخان، بدأ الجنود الذين استعادوا احتماليتهم ينهضون ببطء، يلتقطون أنفاسهم ويحاولون استيعاب ما حدث.
ساي وقف في منتصف الساحة، متعبًا، منهكًا، لكنه ممسك بسيفه بإحكام، عيونه تراقب الرجل الجديد الذي ظهر — الرجل الذي فجّر كتاب الكاتب المزيف بلا كلمة، وأسقطه أرضًا بتقنية دقيقة وسريعة جعلت ساي نفسه يتجمد للحظة من المفاجأة.
الرجل كان طويل القامة، يرتدي معطفًا طويلًا قاتم اللون، ملامحه هادئة لكنها جدية، بشعر أسود ناعم مشدود إلى الخلف، ونظرة صلبة تزن كل شيء حوله. عيناه الرماديتان حملتا صرامة واقعية لا تعرف التهويل ولا المبالغة. لا فخر في عينيه، ولا تعجرف، فقط يقظة وحذر عميق، كما لو كان يحمل على كتفيه عبء سنوات طويلة من السعي وراء شيء لم يُكشف بعد.
ساي، مستجمعًا شجاعته رغم الإرهاق، تقدّم خطوة وقال بصوت هادئ:"…شكرًا لك. لو لم تتدخل… لكنا في مأزق خطير."
الرجل نظر إليه نظرة ثابتة، خالية من الابتسام أو الكبرياء، فقط هدوء رجل يعرف جيدًا أين يضع قدمه. ثم قال بصوت منخفض:"اسمي أزيم."
ساي رفع حاجبه قليلًا."أنا ساي… لماذا ساعدتنا؟"
أزيم أبقى عينيه مثبتتين عليه، ثم قال بنبرة جادة دون أي مبالغة:"لأنني أحقق في أمر… متعلق بالكاتبين.."
ساي لمح للحظة شيئًا خلف كلامه… ظل خفيّ، حقد مكبوت بعمق، لكنه لا يُصرَّح به.
أزيم أضاف وهو يُخفض صوته:"أنا لا أكره كثيرين في هذا العالم… لكن الكاتبين؟ هم شيء آخر."
ساي أراد أن يسأله، لكنه توقّف، شعر أن التوقيت ليس مناسبًا.
وفجأة، انفلتت لحظة خفيفة وسط الجدية، عندما أطل ساي خلف أزيم ورآه يُحدّق في الجنود المستلقين على الأرض، ثم قال ببرود:"سأترك لكَ شرح ما حدث لهم، أنا لست جيدًا مع التفاصيل الاجتماعية."
ساي كاد يضحك رغم خطورة الموقف، لكنه كتمها."حسنًا… على الأقل أنت صريح."
أزيم حرّك رأسه قليلًا بإيماءة شبه غير مرئية، ثم قال بنبرة صافية:"حافظ على قوتك، ساي. الطريق القادم أصعب بكثير."
...
مع بزوغ خيوط الشروق الأولى، انعكست أشعة الشمس الذهبية على الأنقاض المتناثرة حول قصر عائلة أفرودايت. الجنود الذين نجوا بدأوا بترميم الجدران المهدمة، يحملون الحجارة ويعيدون ترتيب الأبواب والنوافذ، بينما كان الدخان يتلاشى شيئًا فشيئًا من المكان.
ساي وقف صامتًا يتأمل المشهد، يرفع عينيه نحو السماء كأنما يبحث فيها عن إجابات. جاسمين، بثوبها الأبيض المتسخ ووجهها الشاحب، اقتربت منه بابتسامة صغيرة وقالت بصوت ناعم: "لقد فعلتم الكثير من أجلنا… لا يمكنني إلا أن أعرض استضافتكم هنا ريثما تتعافون."
يوكيو، التي ما زالت مستلقية على نقالة قرب الجدار، فتحت عينيها ببطء. نظرت إلى ساي بعينين نصف مغلقتين، لم تستطع النطق لكنها حاولت رفع يدها. ساي انحنى بجانبها، أمسك يدها برفق وهمس: "اصبري… كل شيء سيكون على ما يرام."
من جهة أخرى، وقف أزيم يراقب العمال وهم يرفعون الأنقاض. لم يكن مهتمًا كثيرًا بالمشهد، لكنه حين التفتت إليه جاسمين ودعته قائلة: "أنت أيضًا… مرحب بك، يا سيد أزيم. قصر أفرودايت يفتح أبوابه لمن ساعدنا."
رفع أزيم حاجبه قليلاً ثم أومأ إيماءة قصيرة. بصوته الهادئ، قال: "سأبقى لبعض الوقت." لم يكن هناك شكر أو امتنان ظاهر، فقط اعتراف عملي بأن هذا المكان سيكون نقطة ارتكاز جديدة في خطته.
في الداخل، بدأ الخدم ينظفون القاعات المدمرة ويعيدون ترتيب الأرائك والكراسي المقلوبة. قُدمت للضيوف غرف بسيطة لكنها نظيفة، مع طعام ساخن وماء دافئ.
جلس ساي قرب النافذة في إحدى الغرف، يراقب الشمس تتسلل عبر الستائر، يشعر بثقل جسده وإرهاق أيام طويلة من المعارك، لكنه أيضًا يشعر بطمأنينة غريبة. فجأة، دخل أزيم الغرفة ببطء، جلس على كرسي في الزاوية بصمت، وعيناه الرماديتان تتفحصان المكان.
ساي التفت إليه وسأله بابتسامة متعبة: "أتعلم… لم أظن يومًا أننا سنجلس هكذا تحت سقف واحد."
أزيم أجاب دون أن ينظر إليه: "أنا هنا لأنني أحتاج لمعرفة المزيد… لا تخلط بين الهدوء المؤقت والتحالف."
ساي ضحك قليلًا وقال: "لا بأس… أحتاج فقط لبعض النوم."
خارج الغرفة، وقفت جاسمين تراقب الاثنين من بعيد. قلبها ما زال مثقلاً بالندم والخوف، لكنها أيضًا شعرت ببريق أمل. كان أمامهم جميعًا طريق طويل، مليء بالأسرار… لكن لليلة واحدة فقط، سيسمحون لأنفسهم بالراحة تحت ضوء شمس جديدة.
ساي جلس على درجات الرواق، يتأمل المشهد بصمت. عيونه نصف مغلقة من التعب، لكنه أخيرًا شعر بنوع من السكينة المؤقتة. بجانبه، كانت يوكيو ترقد على أريكة مغطاة ببطانية خفيفة، أنفاسها هادئة، وجهها شاحب لكنه خالٍ من الألم. لقد استقر السم أخيرًا بعد المعالجة الدقيقة التي أجرتها جاسمين.
جاسمين، التي كانت تشرف بنفسها على حالة القصر والجنود، عادت لتقف أمام ساي بابتسامة مرهقة لكنها حقيقية. "أنتم الآن ضيوفي هنا،" قالت بلطف، "لا تقلق، سنعتني بيوكيو كما يجب."
ساي رفع نظره إليها وشكرها بصوت خافت: "لم أظن أننا سنصل إلى هذا الحد… أشكرك."
في زاوية أخرى من الساحة، كان أزيم واقفًا وحيدًا، يراقب الترميم دون أن يتدخل. عيناه الثاقبتان تدرسان المكان ببرود، لا يشارك في المحادثات ولا يطلب شيئًا. لم يقترب من يوكيو حتى الآن؛ لم يُعرّف نفسه لها بعد، وكأن وجوده بين المجموعة مؤقت… مصلحة لحين تحقق هدف أكبر.
يوكيو، التي بدأت تستعيد وعيها ببطء، فتحت عينيها قليلاً، تحدق بسقف الغرفة ثم لمحت وجه ساي المتعب يراقبها باهتمام. همست بصوت ضعيف: "…ساي؟"
ساي ابتسم بتعب وأمسك يدها برفق. "نعم، استريحي فقط. كل شيء بخير الآن."
من بعيد، التقت عينا جاسمين بأزيم للحظة، ثم تابعت توجيه الأوامر للخدم والعاملين. لم تكن تعلم بعد ما يدور في رأس هذا الرجل الصامت الذي أتى فجأة، لكنها شعرت أن وجوده يحمل ظلًا لا يمكن تجاهله.
ساي أدار نظره إلى أزيم وسأل نفسه بصمت: إلى متى سيبقى معنا؟ وما الذي يخطط له فعلًا؟