"ماذا؟! لماذا أتيتِ إلى هنا؟"

قفز بيلساك من مكانه وهو يصرخ كمن أصابه مسٌّ مفاجئ.

صوت واحد... يعلو ويزمجر.

من الواضح أنه انصدم، لكنّني لم أرد عليه.

"...فلورينتيا؟"

لو لم تكن الغرفة صامتة تمامًا، لما كنتُ سمعت هذا الصوت الرقيق.

كانت لاران، تنظر إليّ وقد أطلّت برأسها فقط من مكان قريب من بيلساك.

"آه..."

شعرت بالحرج، وتوقّفت لحظة دون وعي.

لقد مضى وقت طويل منذ أن رأيت لاران.

لاران، تلك الزهرة الهشة الرقيقة، التي بدت وكأنها من نفس السلالة مع بيلساك.

ما إن بلغت، حتى تم تزويجها لرجل يكبرها بفارقٍ كبير، بناءً على ترتيب من الإمبراطورة.

قال الناس يومها إنه زواج ناجح من الناحية السياسية.

صحيح أن الرجل كان مسنًّا، لكنه بطل حارب ببسالة في الحرب، وكان على وشك وراثة لقب من والده.

لكن... لم يعرف أحد الحقيقة.

لم يعلم أحد كم بسرعة تذبل زهرة إذا تُركت وحيدة، في قصر زوجها، بعيدًا عن لومباردي... الذي يقع مباشرةً تحت أنف الإمبراطور.

تبيّن أن الزوج لم يكن من النوع الذي يهتم بالعائلة أو يُعنى بزوجته الصغيرة، وخدم القصر استخدموا ذلك ذريعة ليحتقروها ويتجاهلوها.

وعندما طلبت لاران المساعدة من عائلتها، كان فييز وقتها قد دخل في مصالح ومشاريع مشتركة مع زوجها.

فما جاءها من والديها، الذين ظنت أنهم سندها، لم يكن سوى: "تحمّلي!".

وهكذا... ذبلت لاران، وعادت إلى التراب...

صغيرةً... صغيرةً جدًا.

تلك الصورة الأخيرة لها، وهي تبكي بعد الزفاف وتقول إنها لا تريد مغادرة لومباردي... كانت آخر ما بقي في ذاكرتي عنها.

"أأنتِ هنا لتأخذي دروسًا؟"

رغم أنها تكبرني بخمس سنوات، إلا أن منظرها وهي تعانق دمية ضخمة جعلها تبدو كفتاة ناعمة نشأت في عالمٍ لا يرى سوى الجمال.

"نعم، جئتُ لأبدأ الدروس من اليوم."

أومأت وأجبت على سؤال لاران.

تأفّف بيلساك بضيق لأنه لاحظ أنني تجاهلت سؤاله وأجبت على سؤالها بدلًا من ذلك.

"كذب!"

تقدّم كأنه ينوي فعل شيء، لكنه لم يفعل سوى الزمجرة كالأسد الصغير.

"كاذبة! أمثالك يأتون لأخذ دروس؟!"

وهنا أصبح الأمر واضحًا تمامًا.

بيلساك لا يزال لم يُربَ تربية كافية.

هل عليّ أن أنتظر منه أن يتفوّه بعدة كلمات سامة أخرى؟

"أمثالي؟"

سألته بنبرة متحدّية.

"أمثالك! أدنـ..."

"هل أذهب الآن لأخبر الجد؟"

عندما نطقت بكلمة "الجد"، ارتجف بيلساك وبلع لسانه.

"ألم يقل لك الجد آخر مرة ألا تنعتني بالوضيعة مجددًا؟ هل تنوي خرق أوامره؟"

أخبرني أبي وقتها أن الجد استدعى بيلساك ووبّخه.

"بيلساك..."

اقتربت منه بابتسامة هادئة.

"أترى كل هذه الكتب المنتشرة هنا؟"

"أه..."

كان من الواضح أن منظر الكتب بعثر أعصابه.

أجل، تلك الكتب سلاح بين يديّ.

وهنا وجهت له الضربة القاضية:

"هل أذهب الآن لأكلم الجد؟"

"لااا..."

تراجع وهو يتعثر، ثم استدار عائدًا إلى مكانه على الأريكة غاضبًا.

وطبعًا، لم ينسَ أن يركل الدمية البريئة التي بجانبه.

أوه، ومع تلك الشخصية، إلى أين تظن نفسك ذاهبًا يا بيلساك؟

ومع ذلك، تنهدت وأنا أشعر بالرضا لأني انتصرت على هذا الجرو الذي حاول أن ينبح في وجهي.

وكان هناك عند النافذة، جالسين جنبًا إلى جنب، جيليو ومايرون.

كانا في الحادية عشرة من عمرهما هذا العام، وهما ابنا عمّتي شانيت، الشقيقة الكبرى لوالدي.

"همم؟"

لماذا ينظران إليّ هكذا؟

كان الأمر مربكًا بعض الشيء.

في الحقيقة، هذان الاثنان هما الأقل اختلاطًا بي من بين أبناء عمي.

كونهما توأمين متطابقين، كانا دومًا غارقَين في عالمهما الخاص، لا يكترثان بمن حولهما.

بينما تجاهلني باقي أقاربي، هذان الاثنين لم يكونا يعبآن حتى بوجودي.

كم من مرة بكيت أمامهما، وهما يمران بجانبي دون أن يرمشا.

وفوق هذا، منذ أن تطلّقت شانات واصطحبتهما معها إلى عائلة شولتز، لم نعد نراهم.

تخلّيا عن اسم لومباردي، وصارا يُعرفان بـ "جيليو شولتز" و"مايرون شولتز".

رغم أن وسامتهما وفروسيتهما المبكّرة جعلتهما حديث الصالونات الراقية، إلا أن ذلك كان عالمًا آخر لا يخصني، أنا التي كنت مشغولة بالكدّ والتعب.

"فلورينتيا."

تحدث الاثنان في نفس اللحظة، وكأنهما تدرّبا على التناسق مسبقًا.

"سمعنا أنك ضربتِ بيلساك؟"

"وأنكِ انتصرتِ؟"

لكن هناك شيء مريب...

وجهيهما، اللذَين كانا دائمًا جامدين كالحجر، ظهرت عليهما الحياة فجأة.

بل كانا... يبتسمان!

يا الهي، ما الذي اصابهما؟ إنهم يُرعبونني.

جلست على أريكة كبيرة قرب النافذة، في الجهة المقابلة لبيلساك الغارق في هزيمته.

معظم مستخدمي هذه الغرفة من الصغار، وقد أعجبني أنها ذات مقاعد منخفضة لا تحتاج إلى تسلق.

وفي تلك اللحظة، تحدث جيليو وهو ينقر على حافة النافذة:

"تعالي واجلسي هنا."

"ماذا؟"

"اجلسي معنا."

تابع مايرون.

شعرهما الذهبي لمعَ تحت أشعة الشمس المتسلّلة من النافذة.

نظرت إليهما للحظة، ثم قلت:

"إن أردتما الجلوس معي، فتعاليا إلى هنا."

ورأيت أعينهما الذهبية تتحرك في انسجام في نفس اللحظة.

"لا تأمراني أن آتي وأذهب."

قلت ذلك ثم أدرت وجهي عنهم.

لم أتذكر أنهما أساءا إليّ، لكني كنت بمزاج سيئ، وكنت أشعر أن كلمة واحدة كافية لإبعادي.

أطفال لومباردي يملكون كرامة لا تمزح.

فلا بد أن جيليو ومايرون سيغضبان، تمامًا كبيلساك...

هَفّة.

اهتزت الأريكة التي أجلس عليها.

"ما... ما هذا؟"

وفجأة، إذا بالاثنين يجلسان إلى جانبي، واحد عن يميني والآخر عن يساري.

"قلتي إذا أراد أحد الجلوس مع فلورينتيا، فليأتِ؟"

"ها نحن جئنا، تيا."

"نعم، نعم، فلننادِها تيا."

"فلنبدأ بذلك."

وهما يضحكان وكأنهما في مشهد هزلي من مسرحية كوميدية.

لا أفهم عالميهما النفسي الغريب.

هززت كتفي.

يريدان الجلوس بجانبي؟ حسنًا، لكن لا تطلبا مني أن أتحرك.

عندها... فُتح الباب، ودخل كليريفان.

"الجميع هنا؟ إذًا، لنبدأ الدرس."

...هاه؟

نظرت حولي بارتباك.

لكن يبدو أنني الوحيدة المرتبكة.

أين الكتب؟ أين الأقلام؟

ثم لمحت زاوية الغرفة: كانت فيها أدوات للكتابة وبعض الأوراق، وكأن من يحتاجها يأخذها.

لكن باقي أبناء عمومتي كانوا ينظرون إلى كليريفان بأيدٍ خالية.

طيب، خليني أكون ذكية وأفهم الجو.

عانقت وسادة صغيرة، وركّزت على كليريفان الواقف أمام السبورة.

"بدءًا من اليوم، سنتعلم عن التجارة، وهي من أهم أعمال عائلة لومباردي."

أوه... تجارة؟

هذا... مثير.

وهكذا بدأ الدرس الجاد.

وشعرت بالحرج...

"...التجارة تعني..."

وراء صوت كليريفان الهادئ، كان هناك صوت خلفي يشبه المؤثرات.

"خررر... بفهفف... آه..."

إنه شخير بيلساك، وهو نائم على الأريكة.

لم يكن عاليًا جدًا، لكن لا يمكن أن يكون خفيًا على كليريفان.

تمنّيت أن يصرخ فيه ليوقظه، لكنه تابع الدرس وكأنه لم يرَ شيئًا.

في تلك اللحظة، شعرت بالقشعريرة.

هذا هو الأستاذ الحقيقي...

كليريفان لم يكن ينوي إجبار من لا يريد التعلم.

تركه نائمًا.

لكنني أعلم... سيذكر ذلك في التقرير بعد الحصة.

شعرت أن مايرون الجالس بجانبي فقد اهتمامه، وفتح كتابًا بجانبي.

وقتها، لمحت نظرة قصيرة من كليريفان نحوه.

أنت تراقب كل شيء إذًا!

سرعان ما عدّلت جلستي.

وبدأت أُظهر بجسدي كلّه أنني أستمع بانتباه!

أفتح عيني على وسعهما، وأهز رأسي أحيانًا.

في البداية، كانت تمثيلًا... لكن لاحقًا، انجرفتُ تمامًا مع الدرس.

قد تكون محاضرة مملّة للأطفال، لكنها كانت ممتعة جدًا بالنسبة لي، مليئة بمعرفة كليريفان العميقة بالتجارة.

"حسنًا، هذا يكفي اليوم."

لم أشعر بالوقت، وانتهى الدرس.

بينما شعرت ببعض الحزن، استيقظ بيلساك مفزوعًا وهو يمسح لعابه.

كأن لديه رادار يسمع به نهاية الدرس وهو نائم!

"هناك واجبٌ خاص لليوم."

"واجب؟!"

قالتها لاران بدهشة وهي تقف حاملة دميتها.

وكأن الواجب أمر نادر الحدوث، تفاجأ حتى بيلساك والتوأمان.

"الموعد النهائي حتى الدرس القادم. والواجب هو..."

ابتسم كليريفان ابتسامة غريبة، ثم أخرج شيئًا من خلف السبورة.

"طَخ."

عندما وضعه على الأرض، صدر صوت ثقيل.

"جذع شجرة؟"

ما أخرجه كليريفان كان جذعًا سميكًا، مقطوعًا من الأعلى والأسفل.

كان في الأصل شجرة ضخمة، بسمك يعادل طول شخص بالغ، ويصل حتى ركبتيّ كليريفان.

"هذه شجرة بو، تنمو بسرعة، وصلبة، وأخف من الأنواع الأخرى، لذا تُستخدم كثيرًا في القارة لأغراض متعددة."

"وماذا سنفعل بها؟"

سأل بيلساك بجفاف.

لكن لم يكن بيلساك وحده من تفاجأ.

حتى لاران والتوأمان كانوا يحدّقون بالجذع في دهشة.

وربما وجهي كان مثله تمامًا.

ابتسم كليريفان ابتسامة عجيبة، وقال بصوتٍ منعش:

"عليكم بيع هذا... قبل الدرس القادم."

2025/06/29 · 6 مشاهدة · 1183 كلمة
Nero
نادي الروايات - 2025