كان القصر يعجّ بالضوضاء منذ الصباح الباكر.
وكان الخدم منشغلين أكثر من المعتاد، ومن نافذتي رأيت عشرات العربات متوقفة في الطريق المستقيم الممتد من الباب الأمامي إلى المبنى الرئيسي.
كنت أحدّق في هذا المشهد الخارجي، حين ناداني أحدهم:
"فلورينتيا."
كان كليريفان، وقد ارتدى اليوم سترة من الكتان الأزرق النيلي الأنيق.
قال: "قالت لاران منذ قليل إن أثمن ممتلكات التاجر هي ’الثقة‘."
"...ياب؟"
نسيت للحظة.
كنت في منتصف الدرس الآن.
أن يُصرّ كليريفان على إلقاء الدروس حتى في يوم كهذا، فهذا أسلوبه المعروف.
"ما رأيك؟"
سألني مرة أخرى عندما لاحظ شردوحي.
ما رأيي؟
"أعتقد أنّها محقّة."
فالعميل الموثوق به بالنسبة للتاجر يعني له الحياة ذاتها.
ولا تُكتسب هذه الثقة بسهولة، لذا فهي بلا شك من أعظم الأصول.
قال: "إذاً، فلورينتيا توافقين لاران على أن أثمن ممتلكات التاجر هو الشريك التجاري الموثوق؟"
"هممم، ليس تماماً. إجابتي مشابهة لكنها مختلفة قليلاً."
"حسنٌ، دور فلورينتيا الآن، فهل ستخبرينني بإجابتك؟"
فوجئت قليلاً، وحككت خدي بخجل.
لم تكن هناك إجابة واحدة صحيحة لهذا السؤال، فلكلّ شخص قيمه الخاصة.
"أعتقد أن أثمن ممتلكات التاجر هي ’الناس‘."
قد تبدو إجابة تقليدية، لكنني أؤمن بأنها الأكثر دقّة.
"في النهاية، كل شيء يقوم به الناس. كل قرار مهم أو خيار صعب يتخذه إنسان."
وقد أدركت ذلك بوضوح وأنا أراقب والدي وهو يعمل هذه الفترة.
فحينما تعرّضت تجارة أقمشة الكوروي للضرر في السابق، كانت الخسارة فادحة على لومباردي.
ورغم أن لومباردي استطاعت التعافي بسرعة، إلا أن الضرر الحقيقي كان في فقدان ثقة من اشتروا القماش بناءً على اسم لومباردي.
حينها، تولّى جدي المسؤولية، وعوّض عن جميع الخسائر باسم لومباردي، مما سبّب ضررًا ماليًا أكبر للعائلة.
لكن هذه المرة، أنا تدخّلت.
ورغم أنني لست خبيرة في المنسوجات، فإن التغيير الوحيد الذي قمت به كان تغيير الشخص المسؤول عن المشروع من فييز إلى والدي.
هذا التغيير البسيط أحدث فرقًا كبيرًا.
"وكلما ازدادت أرباح التاجر، ازدادت حاجته لمن يثق به ويعتمد عليه. أليس ذلك يجعل ’الناس‘ أغلى ما يملك؟"
في الحقيقة، الأمر لا ينطبق على التجارة فقط.
الإمبراطور نفسه أسّس الأكاديمية برغم ضيق الموارد، وزوّج أفراد العائلة الإمبراطورية من نبلاء ذوي نفوذ.
كل ذلك ليجمع حوله الموالين.
الأمر ذاته مع جدي؛ كان شديد الحرص على جمع أصحاب المواهب من كل مكان، فأسّس نظام المنح الدراسية في لومباردي لاكتشاف العقول النابغة وضمّها إلى العائلة.
كل هذه الاستثمارات هدفها النهائي هو كسب الناس.
وهكذا قرّرت أن أسير على النهج ذاته، لكن باختلاف واحد فقط:
الاحتمالات.
الاحتمال بأن لا يفي أولئك الذين استثمر فيهم جدي بوعودهم.
أو أنهم لن يكونوا منتمين حقًا إلى لومباردي.
فرغم أنّ نظام المنح الدراسية لا يُعدّ عقد عبودية، فإن عددًا لا بأس به من الحاصلين عليه انتهى بهم المطاف للعمل لدى عائلات أخرى.
جدي لا يُبدي اعتراضًا علنيًا على ذلك، لكنه بالتأكيد يشعر بالمرارة في كل مرة.
أما أنا، فمختلفة.
فالناس الذين سأكوّن معهم صداقات وأستثمر فيهم هم أشخاص سيؤدّون أدوارًا عظيمة في المستقبل.
وأنا أعرف جيدًا ما يريدونه وما يحتاجونه، لذا في نهاية المطاف، سيكونون... لي.
ليسوا للومباردي، ولا للأمير الثاني. لي أنا وحدي.
وراحت وجوه من أنوي تجنيدهم تمرّ أمام عيني.
كم كنت أتمنى لو لم تكن تحرّكاتي محدودة بعد، لكنني مضطرة لأن أبدأ بأولهم.
نظرت إلى ذلك الشخص وسألته:
"ما رأيك، سيد كليريفان؟"
ذلك العبقري في التجارة، الذي بدأ من لا شيء، وأسّس في بضع سنوات واحدة من أكبر الشركات في الإمبراطورية: كليريفان بيليت.
سأقنعه، وأضمه إلى جانبي.
ابتسمتُ له بابتسامة طفولية ذكية مليئة بالبراءة، كجزء من خطة التجنيد.
فقال:
"إنه رأي ممتاز."
"هيهي، شكرًا لك."
إنه يحب تعليم من يكون ذكيًا، لطيفًا، مؤدبًا، ويتعلم بسرعة.
"همم..."
كما توقعت.
ابتسم قليلاً من زاوية فمه، وسعل وهو يغطي فمه بقبضته، كمن يحاول التخلّص من تأثره.
ثم التفت إلى اللوح ليعود إلى أجواء الدرس، ولوّح بيده قائلًا:
"إذاً، دعينا ننهي اليوم باكرًا عن المعتاد."
"واو! أخيرًا!"
"لقد تحررنا!"
قفز جيليو ومايرون من مقعديهما وركضا نحوي.
لم أكن متحمسة جدًا لذلك.
لكن، ولسببٍ ما، لم يقل كليريفان شيئًا، بل راح يرتب كتبه.
قال وهو يهمّ بالمغادرة:
"نلتقي في الحفل بعد قليل."
وما إن أنهى كلامه، حتى أمسك كل من التوأمين بإحدى ذراعيّ وسحباني.
"هيا يا تيا! لنذهب!"
"أنا جائع! دعينا نصل قبل أن تنفد الأطعمة الشهية!"
وهل هناك طعام يمكن أن ينفد في حفل تستضيفه عائلة لومباردي؟
لكن جوع صبييْن في العاشرة يجعلهما مثل ثيران صغيرة متحمسة.
قلت لهما محذّرة:
"لن يبدأ تقديم الطعام قبل أن أصل، فأنا الشخصية الرئيسية!"
"آه، صحيح؟ إذاً علينا أن نسرع أكثر!"
"نعم! علينا أن نأكل كل ما هو لذيذ!"
"آه، يا إلهي..."
وانتهى بي الأمر أجري معهما، نصف راكضة، نصف مُسحوبة.
ومع تسارع أنفاسي وخفقان قلبي، بدأ شعوري يتحسن.
ضحكتُ من أعماقي وأنا أركض في أروقة قصر لومباردي الشاسعة، كطفلة حقًا.
صرخ التوأمان بفرح:
"عيد ميلاد سعيد، تيا!"
نعم.
اليوم هو عيد ميلادي الثامن.
---
كانت قاعة "إلينور"، المخصصة للحفلات، تعجّ بالمدعوين.
كانت الفرقة تعزف أنغامًا مرحة، ورائحة الطعام الشهيّ المنبعث من المطبخ تدغدغ الأنوف.
من السجاد على الأرض، إلى الستائر الطويلة، إلى الزينة على الطاولات — كل شيء كان من أرقى الأنواع.
وكان هناك عدد من الحاضرين يزورون قصر لومباردي لأول مرة، وقد ظهر عليهم الانبهار وهم يحدقون في الرسوم والنقوش المذهّبة التي تزيّن السقف العالي.
دخلت قاعة الحفل برفقة التوأمين، ونظرتُ حولي كما لو أنها المرة الأولى التي أراها فيها، وتمتمت دون قصد:
"إن لومباردي حقًا عظيمة..."
أي عائلة هذه التي تُقيم حفلًا بهذه الفخامة من أجل طفلة في الثامنة؟
في حياتي السابقة، لم يكن عيد ميلادي الثامن مميزًا على الإطلاق.
قضيت نهاري برفقة والدي، ثم تناولنا العشاء مع باقي أفراد العائلة.
وعندما عدت إلى غرفتي، وجدت بعض الهدايا بانتظاري.
صحيح أن الهدايا كانت فاخرة مقارنةً بالأسر الأخرى، لكنها لم تغيّر حقيقة أن اليوم مرّ عاديًا.
"واو، كم هو مثير!"
"انظري، هناك مهرّج أيضًا!"
ولأنه عيد ميلاد لطفلة، فقد دُعي الكثير من أطفال العائلات النبيلة، وكان هناك مهرّجون بالفعل، لإسعادهم.
قلت: "بالمناسبة، كم عدد الحاضرين اليوم؟"
لا بدّ أن كثيرين منهم لم يأتوا فقط من أجل تهنئتي بعيد ميلادي.
رغم أن الناس يتوقون لحضور أي حفل تقيمه لومباردي، إلا أن هذا النوع من الحفلات لا يدفع النبلاء المتعالين للحضور برفقة أطفالهم لمجرد التسلية.
وأنا أحدّق في القاعة متسائلة عن السبب الحقيقي لحضورهم، ربت أحدهم على كتفي.
"تيا، عيد ميلاد سعيد."
"لاران!"
كانت قد سرّحت شعرها بطريقة أنيقة، مما جعلها تبدو أجمل اليوم.
قالت:
"العائلة هناك في الأعلى. هيا بنا."
أمسكت بيدي وبدأت تمشي نحو الاتجاه الذي أشارت إليه.
"سنذهب معك!"
وكان التوأمان يتبعاننا سريعًا بعد أن التهموا ما قُدّم لهم من فواكه.
لكن التقدّم وسط هذا الحشد لم يكن سهلًا علينا كأطفال.
ومع ذلك، حدث أمر غريب.
فالناس الذين كانوا منشغلين بالكلام والضحك، ما إن رأونا نتحرك، حتى فتحوا لنا الطريق مثل انشقاق البحر.
كان واضحًا أن الجميع يلاحظ وجودنا.
أما لاران والتوأمان، فقد بدوا معتادين على هذا النوع من الاستقبال.
لكنني، بسبب والدي الذي لا يشارك كثيرًا في المناسبات الاجتماعية، نادرًا ما حضرت مثل هذه الحفلات.
رأيت عائلة لومباردي من بعيد، كما قالت لاران.
شانيت، وفييز، وعائلة لوريل، جميعهم مجتمعون.
كم يبدو المشهد مثيرًا للإعجاب من بعيد.
كان حضور عائلة لومباردي، وهم مجتمعون معًا، كافيًا ليشعر الآخرون برهبة لا توصف.
شعورٌ بالقوة والعظمة، لا يمكن التعبير عنه بكلمات.
"فلورينتيا، تعالي."
ناداني جدي وهو يضحك، فتركت يد لاران وركضت نحوه مبتسمة.
"ما رأيك في حفل عيد ميلادك؟"
لا يجب أن أكون صريحة جدًا الآن...
لكني كنت حفيدته الطيبة، لذا اخترت الإجابة الأفضل.
"أنا مندهشة! لم أكن أعلم أن هذا العدد الكبير من الناس سيأتي لحفل عيد ميلادي، جدي!"
"هاهاها..."
ضحك جدي وربّت على رأسي بلطف.
"لقد دعوتُ بعض المعارف. جاؤوا ليباركوا لفلورينتيا عيد ميلادها."
"رائع!"
قال:
"قد لا تعرفين هذا بعد، لكن عند البالغين، أحيانًا يكون ’من حضر للاحتفال‘ أهمّ من المناسبة نفسها."
لا أفهم تمامًا بعد يا جدي...
لكنني نظرت حولي مجددًا، ولاحظت أن أغلب الحاضرين من كبار النبلاء.
وهذا يدلّ على مكانتي ومكانة لومباردي.
قال:
"بل إن عدد الضيوف الذين جاؤوا بدعوة من والدك يساوي تقريبًا من دعوتهم أنا."
بعبارة أخرى، جاء كثيرون أملاً في التقرب من والدي.
فمشروع المنسوجات الذي يقوده قد حقّق نجاحًا باهرًا.
قلت: "لكن أين أبي، جدي؟"
أجاب جدي، وقد بدا محرجًا قليلًا:
"تأخر قليلًا. مرّ على مشغل النسيج وقال إنه سيأتي فورًا."
"حسنًا، فهمت."
فنجاح والدي في عمله أهمّ ألف مرة من أي احتفال بعيد ميلاد.
ابتسم جدي لي ورفع كأسه، وفجأة عمّ الهدوء القاعة.
قال بصوت عالٍ:
"الآن، بما أن بطلة الحفل وصلت، فلنبدأ..."
لكن قبل أن يُكمل، فُتح باب القاعة، ودخل شخص ما.
ظننت في البداية أنه والدي، لكنه لم يكن هو.
الشخص الذي دخل كان يمشي على السجادة الحمراء بثقة، وكأن نظرات المئات المعتادة عليه.
تمتمت بذهول:
"ما...؟"
تقدّم نحوي، وقال بصوت واثق:
"مرحبًا، فلورينتيا."
قال جدي إن أهمّ ما في الحفلات هو "من يحضر".
نظرت إليه ورغبت بسؤاله:
"جدي، إذا كان ضيف الحفل غير المدعو هو وليّ العهد الأول... فماذا سيحدث؟"