لماذا لا تبكي؟

سؤال يداعب جفونها ليلا دائماً، و ينقض مضجعها، محلقا في سماء فكرها دون أن تجد إجابة لتلجمه، فقط علامات إستفهام مزعجة و أحلام مريبة عن كونها اسيرة في دَيجُور.


هي الطفلة التي لم تبكي حتى في يوم مولدها، لدرجة أن الجميع إعتقد بإنها بكماء لتدهشهم فجأة بالتحدث و هي أبنة الستة أشهر.


"كيريت" كانت تلك الكملة الهندية كلمتها الأولى و التي لم يفهمها سوى خادم هندي كبير في السن كان يعمل في قصر والدها


"كيريت تعني العظيمة" أخبر والديها و على وجهه ارتسمت تعابير الدهشة التي كاد أن ينساها، لقد ظن بإنه و في عمره هذا قد شاهد من الدنيا ما يكفي و أرتوى، العجوز المسكين، لم يعرف بعد بأن تلك الدنيا كمثل موجة غادرة، تنجح دائماً في إدهاشك.


"نصيحتي لكم أن أسموها بذلك الإسم المبارك" أخبرهم و هو ينظر بعينيه التي سكنت جفونها التجاعيد الغائرة لتلك السمراء التي تنام بين يدي والدتها بِدَعَة.


هندية الملامح و الجذور زرقاء العينين كيمامة العرب، غجرية الشعر طويلة الأهداب، و كأنها قد خرجت من قصة قديمة.


كتب لها أن تكون إبنة عائلة ذات نفوذ و سلطة، أم أسترالية من أصول هندية و أب كندي الأصل، و أحد أغنى رجال الأعمال في أمريكا و رغم ذلك كانت شابة بسيطة، نباتية قليلة الكلام، تحب الغناء و الطبيعة، حادة الملاحظة و إنطوائية، لكن كل تلك المعلومات عنها لا تجيبنا على السؤال المهم صحيح ؟


إذا أخبروني هل لديكم فكرة لماذا لا تبكي؟


لماذا لا تبكي حتى و إن شعرت بالألم؟

من يدري؟ و من يهتم؟ أساساً متى كان البكاء ضرورة ؟


رغم ذلك هي تشعر أحياناً بحاجة إلى أن تفرغ مشاعرها المكبوتة على شكل دموع، لكن لمَ لا تستطيع؟


ألا يعني عدم بكائها كونها قوية؟


أو ربما هذا عيب خلقي؟ او مرض في عينيها؟

أليست فائدة الدموع هي ترطيب العنين و تنظيفهما؟

إذا لمَ عينيها رطبة و نظيفة بلا دموع ؟


زفرت بضيق و هي تنهض من على فراشها الوثير بعدما تكاثرت أسئلتها و فاضت، بخطوات حافية توجهت صوب مكتبها الخشبي الأبيض عند زاوية الحجرة هناك حيث يتربع ذلك الحاسوب.


دخلت الى موقعها المفضل حيث وجدت المكان منقلبا بسبب موضوع جديد قام شخص مجهول بنشره..


بداية كان العنوان بسيطاً، أكثر عشرة أماكن مرعبة و مهجورة في العالم..


مرت مقاتليها الزرقاء على المقالة ببطء و تمركزت على كلمة فريدة في أخر التعداد كلمة كولدلهارا


لسبب ما أشعلت تلك الكلمة الغامضة حماستها، صور ذلك المكان و الكلام الغامض الذي تبعه جعلها متحمسة لمعرفة أراء اصدقائها المقربين الثلاثة الذين يشاركونها نفس الإهتمامات، و بالفعل وجدتهم مجتمعين في غرفة محادثة جماعية خاصة.


"إنها مجرد تراهات ترسخت في عقول البشر ضيقي الأفق" اندفع روني في الكلام كعادته محاولا إثبات صحة معتقداته و في مخيلة كيريت ظهرت جوليان و هي تقلب عينيها بضجر.


"روني هل لك أن توقف أسلوبك المتعنجه هذا؟، لا يمكنك ان تقول ذلك جازماً و تطلق الأحكام عن هذا المكان دون ان تذهب اليه بنفسك" ارسلت جوليان بسرعة و ارتفعت أطراف ثغر كيريت راسمة ابتسامة لطيفة، هؤلاء الإثنين من المحال ان تجدهما متفقين على موضوع ما، فروني شاب يؤمن بالعلم و المنطق أما جوليان على عكسه تؤمن بالروحانيات و الماورائيات.


"هذا لأنك سريالية التفكير!" رد روني و قهقت كيريت فجوليان سريالية حتى النخاع بلا شك


"و ما العيب في السريالية ؟! على المرء الإبتعاد عن الواقع، فالواقع كذبة مريضة أعاقت طبيعة الإنسان المتفكر" اجابته جوليان و هزت كيريت راسها موافقة على كلامها الذي اقنعها نوعاً ما، بالفعل ما العيب في التفكير الفريد المتجدد؟


"هي يا رفاق يكفي أنا لم افهم ثلث محادثتكم عن السريالية هذه، أوه أهلا كريت" تدخل ستيف في المحادثة مغيرا الدفة صوب كيريت و التي حركت اناملها برشاقة على لوحة المفاتيح لتجيبه


"اهلا بك و بالجميع، دعوني احزر تتحدثون عن الكولداهارا صحيح؟"


"بالطبع إنه موضوع الساعة" سخرت جوليان


"كولداهارا... كلمة آسرة صحيح؟" علق ستيف و هزت كيريت راسها موافقة من وراء الشاشة


"حاولت الوصول الى عنوان المعرف الرقمي الخاص بكاتب الموضوع و لكنه مخفي" اخبرهم روني


"غريب لماذا يخفي نفسه هكذا؟" تساءلت جوليان و هي ترسل رمز تعبيري متعجب


"لا اعلم، بعض الأشخاص يحبون الغموض" ارسلت كيريت


"على فكرة أستطيع الوصول إليه لو أردت و لكنني أكسل من أن اتعب نفسي" نبه روني

"روسي أمهق لعين!" ردت جوليان

"ممن تحاولين السخرية أيتها المسترجلة الحمقاء" رد روني بسرعة

"يكفي يا رفاق" تدخلت كيريت في محاولة لإيقاف استمرار تلك المحادثة لانها تعرف بأنها لن تنتهي على خير و بالفعل التزم كلاهما الصمت

"حسنا على اي حال لقد كنت أفكر بشان تلك القرية الغريبة.. و المعبد و افكر في الذهاب إلى هناك و تصوير مغامرتي، ربما حينها سأحصل على عمل في قناة ديسكفري" ارسل ستيف و أرتفع حاجباها


"ستيف عزيزي هل انت بخير؟" ارسلت بسرعة


"لا بد و انه ثمل" سخرت جوليان


"لا لا ليذهب و يكشف حقيقة هذا الخداع!" ارسل روني بسرعة


"انا لا امزح... أريد الذهاب الى الهند و تصوير ذلك المعبد من الداخل، تخيلوا ذلك يا رفاق ساكون اول انسان يصور ذلك المكان الغامض الذي لم يدخله احد لعقود، و سأصبح مشهور و اخوض المغامرات في كل أصقاع العالم" بدأ ستيف يخبرهم عن أحلامه الجامحة


"لكن يا ذكي كيف ستذهب الى هناك؟! انت لا تملك ممول لن تستطيع الذهاب إلى المدينة المجاورة لمدينتك مع وضعك المالي البائس هذا، تذكر المال هو السبيل لتحقيق الأحلام لا الخيال!" اخبرته جوليان و مرت بعدها دقيقة من الصمت


"سأحاول البحث عن ممول و سوف أجده و سوف سترون" أخبرهم و خرج من المحادثة على الفور


"أيتها البغيضة لقد أزعجته!! تعرفين ان ستيف ينزعج من ذلك" تذمر روني و خرج لتبقى جوليان وحيدة مع كيريت


"أنا لم اقصد إزعاجه" ارسلت جوليان


"لا بأس ستيف حساس قليلاً عندما يتعلق الأمر بأحلامه" أجابتها كيريت في محاولة للتخفيف عنها


"سوف أعتذر منه غداً، لقد تأخر الوقت سوف أخلد إلى النوم الآن، يستحسن أن تفعلي أنت كذلك" أرسلت جوليان ثم غادرت غرفة المحادثة لتبقى كيريت وحيده في الظلام تحدق بالمحادثات امام شاشة الحاسب و تعيد قرائتها.


سراً تمنت ان تطول المحادثة لوقت أطول، لإنها لم تتمكن من النوم، ببساطة بسبب تلك الكوابيس..


رغم انها لم تكن كوابيس فعلياً، ففي كل يوم منذ أبعد يوم تستطيع تذكره كانت تحلم بالظلمة...


الناس تحلم أحيانا باشياء مختلفة، مضحكة، ربما غريبة، او مخيفة، و احيانا هم لا يتذكرون احلامهم مطلقا، و لكن كيريت تحلم فقط بالظلام، النوم عندها يشبه وضعها في حجرة مظلمة حتى الصباح، لا شيء اخر، و الأسوء أنها تتذكر ذلك الحلم المظلم جيداً و كانها عاشته سابقاً.


تنهدت و هي تغادر حجرتها متوجهة صوب مكتبة الأفلام في المنزل، تتقافز قدميها برشاقة على درجات السلم و هي تتندن بلحن من إختراعها.


وجدت سلسلة افلامها المفضلة مرتصة على احد الرفوف كالعادة لتأخذ منها و تعود إلى غرفتها.


(indiana Jones junior)


سلسلة أفلام من الثمانينات أشبه بمسلسل يحكي قصة المغامر جونز جونيور المعروف بإنديانا جونز و كلبه إنديانا منذ الطفولة، كيف كان ياخذه والده معه الى رحلاته الاستكشافية، من حقول السافانا في افريقيا الى حياة العبودية في المغرب و المومياء الغامضة في المقابر المصرية و من ثم الترحال عبر روما و الوقوع في حب أميرة روسية، مغامرات مذهلة زرعت في الطفل إنديانا حب المغامرة و الاستكشاف، لطالما كانت شخصية إنديانا المفضلة لديها و تساءلت دائما كيف سيكون الامر لو كنت مكانه؟.


و بينما هي تتابع حال الصغير هو يباع في سوف الرق في المغرب القديمة و تتخيل حالها هناك سرعانما تثاقل جفناها و غطت في النوم بينما ظل الفلم يعمل امامها، و في تلك الليلة و لأول مرة حدث امر مختلف.


حلم.. حلم حقيقي!


على أرض قاحلة كانت تقف و منازل محطمة قديمة تحيط بها و بناء عظيم يتوسط كل ذلك يقف شامخاً نصب عينيها الزرقاء، و امام ذلك البناء وقفت تلك السمراء ذات الشعر الاسود السلسبيلي الذي تداعبه النسائم لتدفعه صوب اليمين و اليسار بسلاسة كطفل تداعب انامله الحرير، بدت كشخصية مهمة تلك السمراء التي تحدق بذلك البناء الشاهق و تقابل كيريت بظهرها، ثوب أبيض وشاحه التف حولها، تقف ساكنة تحدق و النسائم تتراقص من حولها.


تقدمت كيريت صوبها ببطء، لسبب ما شعرت بأنها تعرف تلك المرأة و أرادت النظر لوجهها، و لكن و مع كل خطوة تتثاقل أنفاسها و تتعالى اصوات اشخاص يتلفظون بكلمات غريبة بلغة لا تستطيع فهمها على الإطلاق من اللامكان، و لكن رغم ذلك اكملت طريقها صوب تلك السمراء، تريد النظر إلى وجه تلك المرأة الغامضة بأي ثمن و كان حياتها تعتمد على ذلك، و أخيرا عندما وصلت إليها وضعت كفها على كتف تلك السمراء ذات الوشاح الأبيض لتنبها بوقوفها خلفها..


الغريب هو ان تلك السمراء لم تتحرك قيد أنملة، و وسط تعجب كيريت فجأة شعرت بيدين تطبقان على عنقها بقوك خانقه إياها.


شعرت بالم فظيع و كان حنجرتها تتحطم، و بروحها تُلفظ من خلالها، سوف تموت ستموت بلا شك هي ستموت، اطرافها اصبحت مخدرة و ضعيفة و عينيها على وشك الخروج من محجريهما


هي ستموت هكذا فقط؟!


فكرت و هي تحاول جاهدة من اجل الحصول على جرعة من الهواء بينما يرتفع جسدها الضئيل في السماء و هي تركل الهواء في محاولة يائسة للمقاومة، و لمحت ذات الوشاح الأبيض من الأعلى واقفة بنفس وضعيتها في نفس المكان تحدق للبناء الغامض بسكون مريب و تساءلت من اذا ذاك الذي يحاول خنقي؟


بدأت رؤيتها تظلم ببطء و النعاس يزحف الى عينيها و كفت قدميها عن الركل و جسدها عن المقاومة رغم انها كانت تردد بداخل قلبها قائلة بأنها لا تريد الموت


هي تخاف الموت أكثر من الحياة، لأنها لا تعرفه، و لأنها لا تستطيع العودة منه، لذلك هي لا تريد ان تموت ليس الان، ليس هكذا.. لا.. ليس الان، ليس هكذا.. لا.. ليس الان، ليس هكذا.. لا!!

"ماناماكا" صوت كفحيح الأفعى تردد صداه من حولها قبل أن...


شهيق!


إندفعت بمقدمة جسدها الضئيل من على الأريكة بأعين جاحظة و سرعان ما رفعت يديها لتلمس عنقها، لتكتسحها موجة من الألم و كان أحدهم كان يخنقها بالفعل!


ما كان ذلك ؟

حركت عينيها حول المكان متذكرة أحداث ذلك الحلم لتنهض بعدها متوجهة نحو المرآة المعلقة على احد الجدران.


و قفت امامها تحدق بعنقها الذي ظهرت عليه اثار كدمات ليدي شخص ما بارزة بلون قرمزي قاتم على بشرها السمراء، أقتربت أكثر من المرآة و هي تمرر أناملها بخفة عليها و تجفل من الألم، انها لا تتوهم!.


كيف ظهرت تلك الكدمات على عنقها؟ سألت نفسها و هي ما تزال تتحسسها بفم فاغر رغم الألم.


و للأسف دهشتها أشغلتها لدرجة أنها لم ترى ذلك الطيف الأسود الضاحك الذي كان يقف في أحد زوايا الغرفة بينما يحدق بها و يردد بصوت هامس كالفحيح.


"ماناماكا!"


❇❇❇❇


ما رأيك بأن تترك تعليق لطيف هنا؟

أطلعني على ما احببت و ما لم تحب و ساكون سعيدة بالعمل عليه و تحسينه.


2017/10/22 · 355 مشاهدة · 1667 كلمة
Jska12
نادي الروايات - 2024