11 - ما بين الربيع والخريف


- هل مُت؟

قلتُ مجيلاً ببصري حول المكان متستغربا.

- اين..أنا...؟

كانت هذه المرة الاولى التي ارى بها مثل هذا المكان.
كانت الزهور البيضاء تحيط بي في هذا الحقل الشاسع، كما لو لم تكن له اي حدود.
السماء صافية والجو دافئ، حتى النسيم كان منعشا يداعب شعري بلطف، كان الجو هنا تماما كالربيع.

- جميل...

رددت بهذا مبتسما وقد احمرت وجنتاي وتلألأت عيناي.
اشعر بالدفء والارتياح بمجرد رؤية هذا المكان المسالم، الامر اشبه بحلم.

«من هنا ايتها الروح الضالة...»

التفت الى يميني على إثر هذا الصوت الرقيق المغري، كانت انسة شقراء جميلة، بملابس بيضاء واجنحة على ظهرها مبسوطة، تغطي المنظر خلفها.
ان كنت ساختار كلمة لوصفها فستكون "ملاك".

«اتبعني...»

قالت الآنسة هذا بصوتها اللطيف ثم سمعت صوت جرس اختفت على اثره المرأة وضهرت في مسافة ابعد فلم اجد شيئا افعله سوى تتبعها.
لا اعرف كم مرّ من الوقت وانا الحق بتلك الملاك. لقد مشيت لمسافة طويلة لكن لا اشعر باي تعب، بل احس بانني اخف من المعتاد.
توقفت الملاك فجأة عن الاختفاء وبقيت تطوف في الهواء بعيدا عني، كنا قد وصلنا بالفعل لحدود حقل الزهور هذا.
لقد كان جرفا، او بالاحرى هذه الارض التي اقف عليها كانت تطوف في السماء.
نظرت حولي، لا عجب ان السماء كانت صافية بلا غيوم، جميعها كانت اسفل هذه الارض وخلف الملاك.

«هيا...امسك يدي...»

قالت الملاك ومددت يدها نحوي، لكن لن استطيع الوصول اليها بما انها تطفو بعيدا عني، علي القفز اليها.

« تعالي معي ايتها الروح الضالة..دعيني احرركِ من انياب الظلام قبل ان يلتهمكِ الى الابد...»

ياله من صوت مطمئن يتذبذب في اذني، ويبث الدفء داخلي كما لو انها تهويدة الام الحنون لطفلها الرضيع.
تقدمت للامام اكثر حتى وصلت الحافة، لم اكن خائفا او قلقا.

« ----ـكس...»

اقشعر بدني للحظة، اشعر و كأني سمعت صوت مألوفا لكن سرعان ما تجاهلت هذا ومددت يدي نحو الملاك مترددا.

« ---ـيكس...!»

سمعت ذلك الصوت مجددا فنظرت حولي.
لا يوجد احد هنا.
انا متأكد انني سمعت صوتا مألوفا، وكأن احدهم ينادي بإسمي.
التفت نحو الملاك فابتسمت لي،
وماذا ان كان احدهم يناديني؟
اريد الذهاب لجانب هذه الملاك.
اغلقت عيني وابتسمت، رفعت قدمي وقدّمتها، شعور غامض داخلي يجعلني أؤمن ان بامكاني المشي نحوها فقمت بخطوتي الاولى.

- ليكس! هل تسمعني!

فتحت عيني على صوت الصراخ منصدما برؤية الارض تحتي بعيدا كثيرا عن منصب أقدامي، شعرت بالغثيان والتوتر الفجئيّ، الامر اشبه بالنظر لاسفل الجرف من على جسر قديم، وقد زاد صوت تهاطل الامطار سوءا.

- ليكس! مدّ لي يدك الاخرى! ارجوك...

نظرت فوقي بسرعة فوجدت أكيرا تمسك يدي اليسرى وتحاول سحبي بكل طاقتها.
مددت يدي نحوها فامسكتها أكيرا وبدأت تسحبني و تتراجع للخلف رويدا رويدا حتى انقذت.
لقد كنا على سطح القصر، انهرت في مكاني واخذت التقط انفاسي من الصدمة.

- ليكس ايها الغبي! ماكان هذا؟! لماذا حاولت القفز من السطح في منتصف الليل هكذا؟!

سألت أكيرا صارخة، كانت مبللة، ترتدي ملابس نومها والقلق بادٍ على وجهها.
لماذا حاولتُ القفز من السقف؟
لكني متأكد انني كنت اتتبع الآنسة الملاك في حقل من الزهور البيضاء، اصلا، كيف وصلت للسقف؟
سمعت صوت ذلك الجرس.

«...ايتها الروح الضالة.....»

اقشعر بدني للحظة، اضن انني سمعت صوت الملاك للتو.

- ليكس..هل من خطب ما؟ لم اقصد ان اصرخ عليك لهذا....

قالت أكيرا مواصلة كلامها، لكني لم اتمكن من سماع صوتها، لم اتمكن من سماع صوت اصطدام المطر بالارضية حتى.
التفت الى يميني ويساري كالمجنون، احسست بسكون قاتل يطغي في الجوّ و بدأ المكان يزداد بردا وظلمة، سمعت الصوت يناديني مجددا لكن تحول تدريجيا لصوت رجل.

«...يبدو ان الظلام قد التهمك بالفعل...»

انتابني صداع مفاجئ وتسارعت دقات قلبي.
احسّ بأعين باردة حقودة تحملق بي.
وكأن نفس أعين صاحب القناع توجد أمامي، تنظر الي كما تنظر لقمامة ما.
كان احساسا مألوفا. احساسا كأن احدهم يحاول سلب عقلي ونزع روحي من جسدي بكل هدوء.

- لـ..لا...ابتعد عني...! توقف!

صرخت مضطربا، امسكت برأسي من شدة الالم و اخذت انبث شعري واحكّ بقوة وجهي.
اشعر وكان تلك الاعين تسحب روحي ببطء لتعذبني للموت.

- ليكس! مالذي تفعله؟! اهدأ! توقف الان!

بدأت بالكاد اسمع صوت أكيرا، لكن كان خافتا جدا كأن المسافة بيننا أميال.
لم استطع التوقف، لقد استولى الالم علي كليا، اشعر وكأني ان توقفت الان فتلك الاعين الباردة ستقضي علي.

- كف عن النظر الي بتلك الأعين!

جرحت خدي حتى احمرّ وكاد الدم يسيل منه، حاولت التفكير بشيء أخر لكن لم استطع، اغلقت عيني ولم اكف عن الصراخ والتأوه.
احسست بارتطام رأسي بالأرض، كبلت يدي بعيدا عن وجهي، بدأت اتخبط واركل بارجلي في كل مكان حتى احسست بثقل علي حاصرني ولم اتمكن من الحراك من جديد.

- ليكس..ارجوك..لاتؤذي نفسك أكثر من هذا..خذ نفسا عميقا وإهدأ..كل شيء بخير الآن...

سمعت كلمات أكيرا بكل وضوح، كانت نبرتها مختلفة عن العادة، صوتها الهادئ واللطيف داعب اذني وكسر ذلك الفراغ القاتل الذي كنت فيه. عضضت شفتي فسال الدم منها، لازالت دقات قلبي متسارعة، ولايبدو انني هدأت تماما.
اشعر انني سارى تلك الاعين مجددا حالما افتح عيني.
احسست بقطرة ماء باردة تقع على وجهي، بدأت بسماع قطرات المطر تصطدم بالارض مجددا رغم هذا لا اشعر وكانها تسقط علي مباشرة، فقط قطرة بقطرة.

- هل هدأت الآن؟

فتحت عيني ببطء، أكيرا كانت فوقي مباشرة ممسكتا يديّ وتضغط بقوة على جسدي بهالتها السحرية حتى لا اتحرك، كانت قريبة جدا.
نظرت الى السماء، القمر مختبئ خلف السحاب المثقل بأمطار الخريف.
كانت قطرات المطر تسقط على أكيرا وتسيل ببطء على خصلات شعرها ثم تسقط علي، كنا مبللين بالكامل.

- ليكس؟ هل انت بخيرٍ حقا؟

سألت أكيرا بكل لطف، لكني لم اجبها.

- هل حدث شيء ما؟ هل رأيت او تذكرت شيئا..لارغبة لك برؤيته؟

سألت أكيرا مجددا. صمتت للحظات ثم فتحت فمي محاولا اجابتها، لكن الكلمات لم ترغب بالخروج، لازلت خائفا.

- ليكس..لايمكنني فعل شيء ان لم اعرف مايحدث معك

لم يكف جسدي من الارتعاش لكني كنت احاول، كنت احاول تجميع شجاعتي والنطق. اخذت نفسا عميقا وقلت بكلمات متقاطعة.

- لقد..رأيت تلك الأعين..مجددا...

- أعين؟

- أجل...اعين صاحب القناع الابيض..كان الامر مخيفا حقا...لقد رأيت الكثير من نظرات الناس الحاقدة، نظرات دائسة على كرامتي، نظرات عائلتي تتساءل لماذا لازلتُ حيًا، نظرات تملؤها نية القتل...لكن..هذه المرة الاولى التي ارى فيها نظرات كتلك...كان الامر اسوء من مواجهة الموت نفسه..

لطالما ظننت ان لا وجود لشيء اسوء من الموت، فطوال حياتي هذه اضطررت لمواجهة الموت عدة مرات؛ الموت فقرا، الموت جوعا، الموت ضربا، الموت خوفا، والموت في ساحة الحرب.
لم اتوقع الوصول الى مرحلة كهذه ابدا.

- ماذا عن عينيّ؟

سألت أكيرا واحكمت امساك يديّ بقوة اكثر.
كنت دوما خائف من الحدة و نية القتل في عينيها لهذا كنت احاول تجنب قدر الإمكان النظر الى عينيها مباشرة، هما فارغتان وميتتان تماما.
نظرت الى عينيها، لم الاحظ هذا من قبل، هما يشعان في الظلام، مثل اعين الوحوش.
رغم هذا، اشعر بالطمأنين والهدوء كلما ادققت النظر بهما. تجعلني اشعر وكأني اسقط اعمق فاعمق داخل محيط احمر لاحدود لقاعه.
محيط من الدم لاكون اكثر دقة.
ابتسمتُ بينما انهالت الدموع من عيني، تركت أكيرا يدي ونهضت من فوقي وسحبتني بين أحضانها تعانقني حتى أهدأ.

- أكيرا..أعينكِ الحمراء..جميلة حقا...

***


جلست على الكرسي قرب النافذة في غرفتي واخذت اترشف كوبا من الحليب الساخن بعد تغيير ملابسي المبللة.

- اذن هل كنت في وهم ما من صنع صاحب القناع الابيض؟ مالذي حدث به؟

قالت أكيرا واضعة المنشفة على رأسها وانحنت على النافذة تراقب هطول المطر من خلالها.

- وجدت نفسي في حقل زهور بيضاء مع أنسة ذات أجنحة تشبه الملاك، طلبت مني اتباعها ففعلت، كان الجو هناك دافئا ومطمئنا وكانني جنين داخل رحم أمي، فلم افكر كثيرا عند اتباعها. ثم وصلنا لمنحدر وهي طلبت مني ان امسك بيدها فخطوة للامام وسمع صوتكِ و افقت لاجد نفسي اتدلى على السطح.

- هكذا اذن..وهل قالت تلك الملاك اي شيء؟

صمتت قليلا، ضغطت على الكأس بين يدي ثم أجبت أكيرا.

- أيتها الروح الضالة..دعيني احرركِ من انياب الظلام قبل ان يلتهمكِ الى الابد...

لاح على وجه أكيرا الانزعاج واردفت.

- الظلام..بمعنى أخر أنا..يجعلونني ابدو كالشخص السيء الذي جعلك عبدا له...اذن ما عنته الملاك بتحريرك للابد هو انهاء حياتك من هذا العالم دون تلويث ايديهم بدمائك، او بكلمة ادق جعلُك تنتحر.

- جعلي انتحر اذن...بعد ان قمتِ بانقاذي، رأيت اعين صاحب القناع وشعرت بالم وصداع شديد، وكانه يتم العبث بعقلي او ماشابه..اصلا هل هذا نوع من السحر؟ تنويم مغناطسي ربما؟

- بل اسوء، انه غسيل مخ.

التفتت نحوي أكيرا وواصلت كلامها بنبرة جدية.

- يمكن القول ان هذا هو اسوء انواع السحر المستعمل في التاريخ، فهي تسبب دمارا نفسيا على المستعمل عليه. ومستخدموا هذا السحر هم الاسوء، مجانين يتسببون في دمار العالم ويفرضون مبادئهم وآراءهم على الاخرين وكانهم الحق..اعني، لقد رأيت الكثير من الاشخاص اضحو ضحية لهذا السحر ومعضمهم من الوحوش وجميهم في النهاية لاقوا حدفهم.

- اذًا انا...

- لا تقلق...طالما انا هنا، لا احد سيؤذيك.

خفضت رأسي وشعور الذنب لايفارقني. لم اتحمل رؤية أكيرا تحاول مواساتي اكثر من هذا.

- انا اسف أكيرا، انتِ دائما تبذلين جهدكِ، بينما انا -فارسكِ الذي يفترض ان يحميكِ- اختبئ في ظلكِ وابكي من الخوف، انا جبان وضعيف.

اقتربت مني أكيرا وربتت على رأسي بلطف.

- وبعد؟ هل علي ان اطردك او ماشابه؟ فقط لانك اضهرت جانبا بسيطا لانسانيّتك؟

رفعت رأسي ونظرت اتجاهها متعجبا.

- مالذي تعنينه...؟

- هل تعرف ما يؤكد على كون الانسان حيا؟ انه ذلك الألم عندما تتأذى، تلك الدموع المنهالة في سبيل احدهم، ذلك القلق والندم عند ارتكاب خطأ، ذلك الخوف عند الخطر، ذلك الغضب عند الخسارة، و تلك الوخزة في قلبك عند وقوعك بالحب. لا توجد اي فرصة ان آمرك بان تتخلى عن مشاعرك، بل على الارجح انا اشعر بالغيرة لان بامكانك اضهار مشاعرك بكل هذه البساطة. لا تنسى ان مشاعر الغضب والخوف تلك تجعلك اقوى عندما تحاول تخطيها.

ابتسمت لي أكيرا، لكن لم اتمكن من رؤية اي نية جيدة بها، كانت ابتسامة مزيفة كليا. كدت ان انسى للحظات اي نوع من الاشخاص هي أكيرا.

- أكيرا..لاتقلقي، ضعفي هذا اصبح تحت امرتكِ بالفعل وسيكون مصدر قوتكِ، أنا مجرد بيدق لكِ في النهاية.

محيت تلك الابتسامة من وجه أكيرا كليا وعادت ملامحها الباردة المعتادة.

- يبدو ان الفكرة قد وصلت اليك حقا، كما هو متوقع منك. تحكم بضعفهم، تتحكم بهم. ليس بالامر الصعب

أكيرا هي ذلك النوع من الاشخاص، الفائدة عندها هو ما يأتي اولا. التفكير بانها قد تهتم بشيء آخر لايصب بفائدتها لهو امر مستحيل.
رغم هذا لازلت ارغب بأن ٱؤمن ان قلقها الذي ابدته قبل قليل كان حقيقيا.

- لقد تأخر الوقت كثيرا و انا علي العودة للنوم فلدي الكثير لفعله غدا، انت ايضا عليك ان ترتاح اكثر ليكس، لقد كنت غائبا عن وعيك ليومين بالفعل ولم تسترد كامل المانا خاصتك.

قالت أكيرا هذا وهمّت بالمغادرة.
اشعر وكانني نسيت امرا غاية بالاهمية، ماذا كنت افعل قبل ان اضهر في ذلك الوهم؟ لماذا كنت غائبا عن الوعي ليومين اصلا؟
تذكرت فجأة كل شيء و انتفضت من مكاني والتفت الى أكيرا مناديا بها:

- هل انت بخير أكيرا؟! الانفجار..مالذي حدث بعد الانفجار في القرية؟!

التفتت نحوي أكيرا للحظات ثم همّت بالخروج قائلة:

- لاتقلق بشأني، لقد قمت بحمايتي جيدا، سيخبرك بيثريون بكل التفاصيل غدا عندما يعود...

2020/08/19 · 206 مشاهدة · 1734 كلمة
KiraSama9
نادي الروايات - 2024