4 - في قرية أشباه البشر

- "يمكنك المشي من هنا، ان واجهت صعوبة فامسك يدي وحسب."


قالت أكيرا وقد انزلتني من على ظهرها. لقد ذكرت اننا سنرتاح بمكان ما لكن لم اتوقع الوصول الى قرية وسط هذه الغابة. اجلت ببصري مندهشا.

ياله من مشهد غير إعتيادي.

الاشجار العملاقة كثيفة تحيط بهذه القرية وتخفيها عن الانظار. منازل واكواخ معدودة، بئر وإسطبل للحيوانات، إضافة إلى اماكن زرعت فيها الخضر ونمت. من الوهلة الاولى بدت كقرية بشرية لكن...


- "أكيرا!؟ جميعكم! أكيرا قد عادت!"


اذنيّ ثعلب على الرأس وذيل في الخلف، صرخت هذه الفتاة الصغيرة منبهة بعودة أكيرا. تنهدت هذه الأخيرة وفتحت ذراعيها في الهواء مبدية ملامح من الإنزعاج.

فتحت الابواب وخرج الكبار يهنئونها بعودتها من الحرب، بينما إندفع الصغار نحونا وقفزوا بين احضان أكيرا.

من الوهلة الاولى بدت كقرية بشرية لكنها كانت قرية أشباه البشر.


- "حسنا إبتعدو الأن، هذا مزعج."


رددت أكيرا هذا بدم بارد ومع ذلك ضحك الأطفال وكان إنزعاجها مجرد كلمات بلامعنى.

انتبه احدهم الى وجودي وصرخ:


- "انه بشري! أكيرا جلبت شابا بشريا!"


نظر الجميع قلقين الى أكيرا، فتنهدت وقالت:


- "انه صديق لنا، لاشيء للقلق منه."


اندفع القرويون نحوي واحاطوا بي، البعض يسألنني بتحمس والبعض الاخر يراقبني ويعاينني.


- "ماهو إسمك؟


- ماعلاقتك بأكيرا؟!


- يالها من أعين سوداء تملكها


- انها المرة الاولى التي ارى فيها بشريا خلاف أكيرا


- هل ستتزوج أكيرا؟


- لا لا، انه قصير. من الواضح انه لازال طفلا


- كم هو عمرك؟ إثنى عشر؟ ثلاثة عشر؟


- من الأفضل الا تكون في علاقة رومانسية مع صغيرتنا أكيرا! انت عادي على ان تستحقها


- اجل! شعر بني واعين سوداء، انت عادي.


- ذراعيك هزيلتين والمانا خاصتك عادية.


- عد مجددا لطلب يدها حين تصبح بجمال أمير!"


شعرت بالحرج من كلام اشباه البشر وإلتفت نحو أكيرا طالبا النجدة، شقت طريقها نحوي وسحبتني ثم نادت على احد من اشباه البشر الشباب و قالت له التالي:


- "اذهب الى القصر واعلن بيثريون بمجيئي ليأتي الى هنا بالاحصنة ويأخذنا، انا تعبة على ان اكمل كل الطريق الى هناك مشيا. وانتم رفاق، لقد فقد ليكس الكثير من المانا لهذا دعوه يرتاح قليلا واجلبوا له بعض الطعام."


انطلق الشاب مع مهب الريح وتركت أكيرا أمري لاحد اشباه البشر البالغين وذهبت لمداعبة الاطفال.

ساعتان قد مرتا بلمح البصر امضيتهما بالإستماع الى قصص القرويين عن أكيرا، بتّ الان اعرف سر قوتها الجسدية والسحرية، اشباه البشر يمتلكون قوة بدنية تفوق الانسان العادي وبما ان أكيرا عاشت معهم كل هذا الوقت وصارت معتادة على رفع الاثقال و استعمال السحر بسهولة اضافة الى قوة تحمل مذهلة.

يمكنني التصور بسهولة قبول الوحوش بها -وهي من البشر- كملكة عليهم.

الجميع هنا يعاملها كواحدة منهم بالفعل، ساكذب ان قلت انني لم اشعر بالخوف منها ولم ارها كوحش لكن، لا يمكنني ان انكر ببساطة ان ذلك الجو البارد والغامض حولها لم يجذبني إليها و لم يثر الفضول الي.

هذا غريب، أكيرا اخبرتني بكل ما يمكنها اخباري، من موت عائلتها وعيشها مع الوحوش الى اهدافها لخلق عالم جديد وحتى مرضها النفسي، مع هذا لازلت اشعر ان الامر لايختصر على ماقالته وحسب وان الامر اعمق من هذا بكثير.

فقط من تكون أكيرا؟

انا ارغب بمعرفة المزيد عنها.


- "يبدو انك مرتاح اكثر من الازم."


دخلت أكيرا الغرفة حاملة كأسا كبيرا وجلست بجانبي.


- "يؤسفني قول هذا لكن استراحتنا في هذه المحطة تكاد ان تنتهي، يفترض ان يأتي احدهم بالاحصنة لاخذنا في اي لحظة الان. هيا، اشرب هذا، سيساعدك كثيرا."


- "ماهذا؟ دواء؟ ماء مقدس؟ لا تقولي لي انه ترياق ليعزز قوتي؟!"


- "انه حليب."


شعرت بالإحباط والإحراج في الوقت نفسه، رغم ان وجه أكيرا لم يتغير الا ان جزءا مني واثق انها تسخر مني.

اخذت كأس الحليب من يدها واخذت رشفة منه، لذيذ وحلو، كان مختلفا عن ما كان الخدم يقدمونه لي حين عشت في قصر الدوق، ليس الحليب وحسب، حتى الطعام الذي قدمه لي اشباه البشر كان شهيا.

هممت بشربه دون التوقف لاخذ نفسٍ حتى تركت الكأس فارغا، بقيت اكيرا تحدق بي ثم قالت:


- "يبدو انه كان بذوقك، كنت قلقة من الا تحبه في حالة ان كنت لا تحب الطعام الحلو، اضن انني اخطأت. لازلت في مرحلة النمو لهذا تناول الطعام جيدا واشرب الحليب دوما. من المزعج كيف انك اقصر مني مع ان الفرق بيننا اشهر وحسب، ناهيك عن التفكير بكونك فارسا..."


التفت نحو أكيرا فتلاقت اعيننا، لاحت على عينيها نظرة مألوفة، كانت نفس النظرة التي تبديها عندما تداعب الوحوش وتربت على رأس اطفال اشباه البشر.

مدت يدها وداعبت شعري بلطف قائلة:


- "صدقا...كيف استطعت النجاة طوال سنتين من الحرب بهذا الجسد الهزيل؟ انت بطول فتاة وبقوة فارس عادي، لكن ان كنت قد اهتممت بجسدك اكثر فعلى الارجح ستكون اطول واقوى. فقط مالذي جعلوك تأكله في قصر الدوق؟"


- "لا اعرف حقا، لقد اعتدت على البقاء جائعا او تناول طعام العبيد. أنا مصدر عار لأبي وأخي الأكبر ولم امتلك كرامة حتى مع الخدم، لكني سعيد انهم لم ينهوا حياتي."


ابتسمت بعفوية ونظرت للارض.

لأقول الحقيقة، لم ارد تذكر اي من تلك الاوقات لكني اشعر بسعادة اني تحررت الان من كوني جزءا من تلك العائلة.

ببطء لامست ايدي أكيرا وجهي ثم بسرعة سحبت رأسي للاعلى حتى لاقت عينانا من جديد وقربت وجهها مني.


- "الى متى ستضل تدعوهم ابي واخي؟ امحو هذه البسمة السخيفة على وجهك وكأنك لا تعطي اي اهتمام لما فعله اولائك الاوغاد بك. انت تكرههم، صحيح؟ الحقد، الغيرة، الكراهية، لا يمكنك اخفاء هذه المشاعر الى الابد. انت تريد الانتقام، اقتلهم او عذبهم اولا، لا يجب ان تكون انت من يفعلها، فقط قل لي وسافعلها انا برحابة الصدر."


لاحت نية القتل في اعين أكيرا ، هي لم تكن تمزح، ولم تكن تكذب ايضا.

لا استطع مسامحة تلك العائلة ببساطة لما فعلوه لي ومع هذا لايمكنني فعل اي شيء حيالهم غير نسيانهم ولا يمكنني جعل أكيرا تلوث يديها اكثر لاسباب سخيفة مثل الإنتقام.


- "لا اريد فعل شيء حقا، حتى لو لم اكن احبهم الا اني اضل من دمائهم، يمكنني تفهم الامر، لكن كل شيء من الماضي الان. ايضا على الارجح اخي سيموت على يد الجيش والخدم سيعودون الى منازلهم وينسون هم ايضا عن تلك العائلة نهائيا. اشياء مثل الإنتقام لاتولد سوى المزيد من الكراهية وتورط حتى ابرياء فيها. ايضا، اليست قوتكِ تتغذى على المشاعر السلبية؟ يمكنكِ فقط استغلال مشاعري لاجل اهدافكِ، انا لا امانع ابدا."


تركت أكيرا وجهي ونهضت وقد بدى عليها القلق، اتجهت الى النافذة قبالتنا ثم قالت:


- "لم اخطئ الاختيار حين عرضت عليك مساعدتي، انت تملك قلبا نقيا. انت منفتح للاخرين عكسي تماما، ان كان انت من معي فسيكون التواصل مع البشر اسهل وبالتالي فرصة نجاح خططنا سترتفع. انت طيب حقا."


- "لست طيبا ابدا!"


رددت صارخا ثم تابعت كلامي.


- "انا فقط ادعي هذا، طوال الوقت، انا لا امتلك قلبا نقيا حتى. في جميع القصص التي قرأتها، البطل والبطلة طيبوا القلب ويعاملون الاخرين بإحسان وفي الأخير يحضون بنهايات سعيدة. ان كنت طيبا فستعيش في سعادة. انا فقط اطبق ما إستنتجته، طيبتي وهذه الابتسامة اللطيفة مزيفة، مجرد اكاذيب لاجل انانيتي وحسب."


خفضت رأسي والخيبة تملؤني، فلم اتجرأ على النظر الى أكيرا.


- "حسنا، اي شيء هو افضل من اللاشيء. لا اهتم ان كانت طيبتك مجرد انانية ام لا، هذا لايغير واقع انها جعلت الاخرين سعداء او انها مفيدة لي. غيرت رأيي...إبتسم، لاتدع اي احد يرى هذا الجانب منك."


عم الصمت بعد قول تلك الكلمات، انا حقا لايمكنني فهم أكيرا.

مرة توجه هالة القتل نحوي ومرة تعاملني بلطف مثل اصدقائها من الوحوش، مرة تحاول دفعي للانتقام ومرة أخرى تهدئني وتدعوني للإبتسام. فقط اي واحدة هي حقيقة أكيرا؟ أشعر وكأنني لن أعلم أبدا.

كسر صوت وصول الخيول هذا الصمت في الغرفة، حاولت النهوض من مكاني لكن رجلي اليسرى كانت مخدرة، على الأرجع بسبب الجلوس في نفس المكان لساعتين دون حراك.

اعلمت أكيرا وطلبت منها الخروج اولا وسالحق بها لكنها اقتربت مني وجلست على ركبتها بتعابير جدية وقالت لي:


- "ليكس، هذه فرصتك الأخيرة للتراجع. ان اتيت معي الان فلا مجال للرجعة ابدا، حتى انا لا اعرف ما قد يحدث لك. ساقوم باستغلالك وستصبح اداة لا اكثر، بيدق قد اتخلص منه ان سئمت منه. قد تتعرض للموت او التعذيب، وقد ينتهي الامر بك قاتلا مثلي. انا لا اهتم لما يحصل لك طالما ان الامر لا يعيق خطتي لكن شخصيا لا اتمنى الشرّ لك. الأن بعد امضاء يوم كامل معي ومع الوحوش، من المفترض ان تصبح متأكدا اكثر من قرارك، انت لا تريد ان تندم، صحيح؟"


في البداية لم افكر سوى بفرصة نجاتي بأنانية وعيش حياتي كما اريد.

في المرة الثانية كنت مترددا، فقط جزء مني اراد المساعدة بسبب فضولي وشفقتي على الوحوش وربما رد جميلي لأكيرا على انقاذي في ساحة الحرب.

لكن الان الامر مختلف، لن اساعد الوحوش بسبب شعوري بالشفقة عليهم، لن اساعد أكيرا لرد الجميل او بسبب فضولي، لن اخذ جانب الظلام لان جزءا مترددا مني شعر برغبة في ذلك، بل لأنني اريد تغيير العالم.


- "هذا قراري ولاسبب لي للندم من اختياراتي، انا سارافقكِ!"


- "اذن ساغير السؤال، ليكس، هل ستعيرني قوتك وتصبح فارسي، فارس ملكة الظلام؟"


علت على وجهي ضحكة عريضة ورددت عليها دون تأخير:


- "بكل سرور، ملكتي."


- "حسنا اذن، لنذهب من هنا."


كانت الاحصنة تنتظرنا في مدخل القرية، بجانبها وقف شاب بملابس كبير الخدم، انتبه لمجيئنا فتقدم نحونا بغضب، لكن استوقفته أكيرا بسرعة وسحبته للمقدمة بعيدا عني ثم نظرت الي وهزّت رأسها، على الارجح ترغب مني ان انتظر قليلا بينما تفسر هي له الوضع. بيقي الخادم يلقي بانظاره علي ويحملق بي، الان حين عاينته قليلا، يبدو انه لا يمتلك اي شيء تمتلكه الوحوش، كأنه بشري حقيقي. بقية الناس لن يستطيعوا ادراك الامر بسهولة خاصة في حالة انهم لم يروا احد هذه المخلوقات ولو مرة واحدة، لكنني امضيت يوما كاملا محاطا بالوحوش و يمكنني ان استشعر ان حضوره يشبه اشباه البشر كثيرا، اضافة الى كون هذا الخادم غير مرحبٍ بي. يبدو ان اول شيء في القائمة علي فعله بعد الانضمام الى أكيرا هو كسب ثقة هذا الخادم وبقية الوحوش.

نظر الي الخادم مرة اخيرة ثم التفت وصعد على الحصان ولحقت به أكيرا بعد ان لوّحت لي للمجيء.

هممت بالذهاب نحوهما غير ان فتاة صغيرة من اشباه البشر استوقفتني بسحب طرف ملابسي، قدمت الي زهرة صغيرة فاخذتها شاكرا رحب الصدر و ربّتت على رأسها ثم التفت لاجد بقيت اشباه البشر ينحنيون اتجاهي بينما وقف احدى شيوخهم وقال لي:


- "سيد ليكس...بناءا على جميع افراد القرية والوحوش الاخرى، نتمنى ان تقبل هذا الطلب البسيط منا. أكيرا عاشت حياة رهيبة مليئة بالمخاطر والتضحيات، لقد رأت اعزّ الناس اليها يقتلون امامها، اصدقاؤها منّا اما ان اصطيدوا او ذبحوا من قبل البشر..لا...هي حتى رأت وحوشا تعمل بجانب البشر للتجارة ببني جنسها. لقد فقدت ثقتها بكل من حولها و اغلقت قلبها وتركت مسافة مع الجميع خاصة مع البشر. عند وصولكما الى هنا، قامت أكيرا بدعوتك صديقًا لنا. ربما نحن نبالغ بالتفكير لكن ان كان هناك مجرد بصيص أمل واحد فقط، فلا رغبة لنا بتضيعه. نرجوا ان تبقى صديقا وفيا لأكيرا وأعتني بها، هذا هو طلبنا."


ارتسمت ابتسامة مشرقة على وجهي والقيت نظرة قصيرة على أكيرا و اجبته:


- "أجل...سأفعل."


ثم هممت بالإنصراف حيث تنتظرني اكيرا ومرافقها الخادم وركبت الحصان.

لقد انتهى وقت اللعب والان بدأت الرحلة الحقيقية.


2020/08/12 · 248 مشاهدة · 1746 كلمة
KiraSama9
نادي الروايات - 2024