سارا بين الأشجار، لحظات واجتمعا بمارون الذي كان يمسك لجام حصان بيد ولجام حصان آخر بيد أخرى، لا عجب بذلك وسيده هم مسرعاً تاركاً حصانه حراً في الهواء الطلق. عينا مارون الحادتين تتوعدان بغضب شديد، لكنه حين رأى نورس، انحنى وقال بلطف:
- يسعدني أن الآنسة لافرتين بخير.
قدمت نورس احترامها، ثم قال روهان يخاطبهما:
- لننزل في مكانِ ما.
- ألن نعود إلى القصر؟
سأل مارون، صمت روهان لبعض الوقت ثم أخذ لجام حصانه من يد مارون وامتطاه، ثم قال:
- لست بمزاج جيد لأجادلك.
ثم رفس الحصان، وقال:
- أسرع.
نظر مارون ملياً في أثر سيده، ثم عاد ينظر إلى نورس التي كانت تبادله نفس نظرات الاستفهام، ابتسم ثم ساعدها على امتطاء الحصان وامتطاه بدوره، ثم ضرب اللجام وتبع سيده.
- إلى أين نحن ذاهبين؟
- إلى أقرب حانة
قال دون أن يلتفت برأسه، ففتح مارون عيناه على مصرعيهما، وأعاد كلماته بدهشة:
- حانة؟
- أجل.
نظر كلاً من مارون ونورس نحو بعضهما البعض متسائلين عن تقلب مزاج روهان المفاجئ، ثم أدار مارون عينيه، وقال:
- لكن ... أعتقد أن الحاكم قلق .. أليس كذلك؟
- سيكون أكثر قلقاً إن رآنا بهذه الحالة.
بدا روهان محقاً، فثوب نورس متسخ بشكل فظيع، وروهان مصاب، ولا تزال جروحه السابقة في حالة سيئة، لكن مارون علق ساخراً:
- ألا يحاول سيدي أن يحصل على بعض الوقت مع الآنسة؟
شد روهان على لجام حصانه، فوقف الحصان على رجليه الخلفيتن وصهل، ما جعل حصان مارون في حالة غير مستقرة فأخذ يتراجع إلى الوراء، حين عاد يستقر حصان روهان على الأرض والتفت يعيق بحصانه طريق مارون، وقال بحزم:
- لا، ليس هذا ما أقصده.
ثم دار حصانه وعاد يسير ببطئ، حين نظر مارون نحو نورس وابتسم ابتسامة ماكرة ذات معنى، وهمس:
- يبدو أن ذلك ما يقصده.
زمت نورس شفتيها بخجل، وأخفضت رأسها، حين صرخ روهان:
- مارون!
- حسناً، حسناً.
وضرب لجامه كي يواكب تقدم سيده.
...
مساحة شاسعة من المزروعات إلى جانب برك صغيرة متفرقة، يتوسطها طريق ترابي مغطى بالحصى، يسير على طولها حتى يصل إلى مجموعة من الأكواخ الخشبية الأنيقة، عندما ظهرت هذه الأكواخ عبر الأفق شعروا ببعض الراحة، ترجل كلاً من مارون وروهان عن حصانه، وتابعا المسير سيراً على الاقدام. نظر مارون خلفه بتردد وسأل:
- هل ربما تعقبوا أثرنا؟
- لا أعتقد أنهم بهذا الذكاء ليفعلوا ذلك!
علق روهان بلا مبلاة، ثم سحب حصانه باتجاه إحدى البرك الصغيرة التي يستخدمها القروييون للزراعة، وتركه ليشرب ويرتاح، ترجلت نورس عن حصان مارون ليتاح للحصان الراحة، ثم أخذت تحدق حولها بإعجاب، تسير باتجاه النباتات ببهجة، عندما سأل مارون مستنكراً:
- هل من خطب معها؟
- دعها
هتف روهان، لكن مارون أصر:
- لكن ما زال من الخطر تركها ...
قاطعه بشكل قاطع:
- هي تعرف ما تفعله.
أمسك لجام الحصان ربت على رأسه ثم تابع المسير، نظر مارون نظرة أخيرة نحوها بينما انغمست في قطف بعض النباتات، تبدو كلوحة بديعة بين تلك الحقول الكثيفة المثقلة باللون الأخضر، تقف هناك بثوبها الأبيض الملطخ بالدماء كزهرة حمراء وحيدة. نظر نحوها لعدة دقائق بقلق قبل أن يعود ويسير بجانب روهان ويحاول اقناعه بإعادة النظر في قراره.
- سيدي، نحن لا نعرف بعد إن كانوا في الأرجاء.
نظر روهان نحوه، عيناه تحدقان بعمق وكأنه يرى أبعاد مارون الداخلية، ثم همس:
- إن ظهروا فسيلقون حتفهم.
أشعت عيناه بنظرة متعطشة للقتل، ارتجف مارون مكانه، وحين استيقظ وجد أنه فوت سيده، فعاد يهرول نحوه، وهمس:
- هل أنت متأكد من أنك تريد كشف هويتك الحقيقية أمامها؟
رفع حاجبيه بلا مبالاة، وقال ساخراً:
- ببساطة، سالقي اللوم عليك.
- سيدي!
اعترض مارون، فابتسم روهان ابتسامة خبيثة، ثم التفت وتابع سيره بهدوء بينما ارتسم على وجه مارون الغضب. ما هي إلا لحظات حتى تقاطع كلاً من طريق روهان ومارون وطريق نورس، تنهد مارون بارتياح، فنظرت نحوه بعينيها البريئتين باستفهام، تحمل بيديها أعشاباً تحمل أزهاراً بيضاء جميلة تبدو كقرص أجوف، تتوسط تلك الاقراص مسحة طفيفة من اللون الأصفر كقصعة فضية يانعة ممتزجةً بالذهب الخالص.
- آنستي!
تذمر مارون:
- هل يمكنك أن تبقي بالقرب؟
ومضت عدة ومضات، هي تتسائل: "هل ابتعدت كثيراً؟" لكن روهان أتى بالإجابة سريعاً:
- لا عليكِ، هو يبالغ في قلقه فحسب.
ابتسمت نورس ابتسامة لطيفة فأشرق وجهها بوداعة، كانت تقصد بذلك الامتنان، لكن تأثيرها عليهما كانا أكبر مما تصورته، فها هما يشيحان بوجههما بعيداً، ويتجه كلاً منهما بجهة حتى تجاوزاها. نظرت نحوههما بدهشة، ظهرا حصانهما اللذان يواجهانها، تساءلت ما إذا أخطأت في شيء ما؟ لا يزالان ليسا مفهومان بالنسبة لها، لكن صوت روهان قاطع تفكيرها:
- إلى متى ستبقين واقفة هنا؟
تنبهت لتفويتها خطواتهما، فضمت النبتة إلى صدرها، ورفعت ثوبها قليلاً وهرولت نحوهما حتى أصبحت في مسافة آمنة، لكنها لم تقترب كثيراً ظناً منها بأنهما يتحاشانها.
...
المكان ليس مكتظاً، الغرفة واسعة ويشغل الطاولات مجموعة قلائل من القرويين، سلالم حلزونية قليلة تصل إلى الطابق الثاني المطل على الطابق الأرضي يشغله بعض الحرس، شعار المملكة واضح على صدورهم وسيوفهم مثبت بدبابيس ذهبية ناصعة، لوهلة تشعر بأنهم رجال من الطبقة الأرستقراطية بملابسهم الأنيقة.
يجلس كلاً من مارون وروهان على إحدى الطاولات، يحتسي كلاً منهما مشروباً ساخناً من الشاي المعطر، رائحته وحدها تعيد النشاط إلى جسدك، شكر كلاً منهما النادل، وعادا إلى نقاشهما، همس مارون بحذر:
- أيعني ذلك سيدي؟
- أجل، رأيت ذلك بوضوح، سيفه يحمل شعار مملكة الحاكم.
أطرق مارون مفكراً، ثم أتى سؤال روهان:
- ألم تقل أنك رأيته على سيف المدعو جاك أيضاً؟
- ذلك الهمجي ..
أمعن مارون التفكير:
- أظن ذلك.
- أعتقد أن سيراف متورط أيضاً.
نظر مارون نحو روهان بنظرات حادة، وهمس بشيء من الشك:
- هل يظن سيدي أن كل تلك الخيوط مرتبطة بالحرب القادمة؟
- أجل
ثم ضم ذراعيه، واتكأ بذقنه على إحدى يديه:
- أعتقد أن علينا البحث بشأن سيراف والأميرة السابقة.
- تقصد الآنسة لافرتين.
عينا روهان التقت بعينا مارون، صمت متوتر أحاط المكان لبعض الوقت، ثم همس:
- أعتقد ان هناك سوء تفاهم، لذلك أريدك أن تبحث بالامر.
- سوء تفاهم؟
تساءل مارون بدهشة:
- لكن، أليس ذلك الملف الوحيد الذي منع الحاكم من التحقق منه.
ثم نظر مارون نحو روهان بحدة وقال:
- ألا تظن أن الحاكم لا يرغب منك أن تحقق بشأنه؟
أجاب روهان بهدوء:
- هذا ما يجعلني أريد معرفته.
ثم اضيقت عيناه بمكر، تذمر مارون:
- سيدي، ألا تظن أننا تورطنا بما يكفي من المشاكل!
ثم قال مذكراً:
- المرة السابقة، فضولك هذا جعل السيدة لافرتين تنفصل عن ابنتها، ألا تتذكر؟
- أتذكر ذلك جيداً، لكنني يجب أن أعرف ..
هتف روهان بحزم:
- ماذا الذي يبقيه الحاكم طي الكتمان؟ ولماذا؟
- سيدي
حاول مارون أن يمنعه:
- ألا تعتقد أن الأسرار سميت أسراراً حتى لا نكشفها، ما الذي ستجنيه من ذلك؟
بدا روهان شارداً، فألقى مارون بورقته الرابحة وقال:
- ألست تؤذي الآنسة لافرتين بفعلك ذلك؟
اكفهر وجه روهان، بقي صامتاً لبعض الوقت، ثم رفع رأسه ليتكئ على ظهر الكرسي وأغمض عينيه، ثم همس:
- أنا أفعل ذلك لأجلها.
جحظت عينا مارون بدهشة، ثم سأل:
- لـ ... لأجلها؟
أنزل رأسه، ونظر نحوه بعينين جديتين، ما جعل مارون متوتراً، ثم قال:
- الحاكم يستخدم الاكسير ليضيق على السيدة لافرتين وابنتها، إن عرفت السبب فيمكنني استخدامه لتحريرها.
ساحت ملامح مارون لتظهر علامات الازدراء، فنظر روهان نحوه بدهشة:
- ماذا؟
- أحمق!
ثم نهض وغادر، ينظر روهان على أثره بدهشة، بقي مشدوهاً لبعض الوقت حتى لاحظ فتاة خجولة تقف بالقرب منه، يبدو عليها التردد، ربما رأت شجارهما فشعرت بالقلق من الاقتراب، لكنه نظر نحوها متسائلاً، فاقترب خطوتين وهمست:
- سيدي، بشأن الفتاة، لا أحد يستطيع التواصل معها، هلا أتيت من فضلك؟
ومض عدة ومضات حتى استوعب الأمر، ثم هز رأسه بالايجاب وتبعها.
...

2020/05/23 · 190 مشاهدة · 1199 كلمة
بيان
نادي الروايات - 2024