سار مع الفتاة عبر دهليز طويل، مغطى بسجاد من نوع فاخر بالنسبة لمكان صغير كهذا، قوارير من تلك النباتات التي كانت تلتطقتها نورس عند دخولهم القرية، لاحظ روهان وجودها بجانبة عتبة كل غرفة، وعند وصولهما، طرقت الفتاة الباب، وقالت:
- أحضرت السيد!
ثم فتحت الباب، وهمت نحوها فتاة أخرى دموعها تترقرق من مقلتيها:
- آه، حمداً لله أنتِ هنا!
وقبل أن يدرك أي شيء، وجد نورس تسحبه نحوها، وقبل أن يدرك خلعت قميصه وأظهرت الجرح والندبات التي على ظهره، صرخت الفتيات من هول الصدمة، وشعر روهان بوجهه ساخناً كالجمر، أشارت نورس إلى الجرح، ثم أمسكت الأزهار التي بحوزتها ووضعتها أمام الجرح، وأخذت تشير بيدها إشارات غريبة، حين صرخت الفتاة بالفتاة الأخرى:
- بسرعة، اذهبي واحصلي على العدد الطبية الموجودة في المخزن.
وأخذت تدفعها نحو الباب، تغمض عينيها، بينما اعترضت الأخرى:
- لكن ...
- دون لكن، ليس لدينا وقت ...
بدا روهان محرجاً حد الموت:
" ألم تجد وسيلة غيري لتشرح الأمر!!"
لكنها أدركت الأمر فوراً، وهمت أمامه صفقت يديها بقوة وأخفضت رأسها تطلب العفو، تنهد ثم رفعت عينيها ببطء لتجده يحدق بها فعادت تخفض رأسها، إلا أنه لم يقل شيئاً، وهم يجلس على الكرسي المقابل للسريع، في هذه اللحظة دخلت الفتاة مع فتاة أخرى يلهثان من شدة التعب، ووضعن العدد على المنضدة الخشبية الصغيرة، قالت الفتاة لاهثة:
- هل هذه الأشياء تفي بالغرض سيدتي؟
أخذت نورس تتفحص الأدوات بعيون متلألأة بحماس، يبدو كل شيء رائعاً بالنسبة لها، بينما نظرن الفتاتين نحو بعضهما البعض لا يفقهان شيئاً. وما إن رأين روهان الجالس يواجههما بظهره، حتى احمر وجههما، واستأذنتا بالانصراف.
أخذت نورس تغلي الأوراق في الماء الساخن وباشرت في عملها بينما تراقبها السيدة الوحيدة التي أصرت البقاء لتراقب ما تفعله تلك الفتاة "غريبة الأطوار" كما سمينها، ثم انضمت إليهم الفتاة التي حثتها على الذهاب لاحضار العدد بعد أن جمعت شجاعتها، ولكنها شهقت بصوت واضح حين رأتها تمسك الاوراق وتطحنها في وعاء خشبي.
- سيدتي!
علقت بفزع، وجهها يتحول من الازرق للأخضر:
- ألا ترين ماذا تفعل بالبيلسان المقدس؟
ثم اصفر وجهها حين أمسكت نورس قطعة قماش غرسته في الماء المنقوع بالأوراق، وأخذت تمسح به على ظهر وصدر روهان الممتلئ بالندوب. شهقت:
- آه
شعرت بساقيها لا يقويان على حملان، فهمت تصرخ السيدة بالفتيات المختبآت خلف الباب:
- أحدكم!
نظرت نورس نحو الفوضى التي أمامها بدهشة، حين قالت السيدة:
- لا عليكِ، إنها فقط حساسة أكثر من اللازم.
وأشارت بيدها أن تتابع عملها، بينما حملن الفتاة خارجة الغرفة، نظرت نورس نحوهن حتى أغلقن الباب وبقيت مع روهان وحدها، ومضت عدة ومضات، وأخذت تتساءل:
"هل ربما ... فعلت شيئاً خاطئاً؟"
ثم نظرت نحو الأعشاب المطحونة في الوعاء الخشبي المجوف الذي بين يديها، وتذكرت أن عليها وضعه على الجرح. اقتربت من روهان الذي يجلس مستسلماً على الكرسي، وحين شعر بدفء الاعشاب على جلده، خرج صوته هامساً:
- أتمنى أنكِ لم تفعلي شيئاً مجنوناً!
ابتسمت نورس بحياء، هي تدرك تماماً أن ما تفعله مجنون بحد ذاته، لكن كيف يمكنها الشرح؟ ضمدت الجرح بعض أن غطته بالأعشاب، وأشارت له بأن يستلقي على السرير حتى يستمر مفعول الأعشاب على جلده، راقبها وهي تحمل العدد بهدوء، ثم خرجت من الغرفة.
...
أشرقت الشمس على ستائر الغرفة التي يقطن فيها روهان، يقف أمام مرآة طويلة بينما تقوم نورس بنزع الضمادات، يقفن الفتيات خلف الباب بترقب شديد، ثم شهقن، روهان أيضاً نظر نحو المرآة بدهشة، تجمد جسده وحجظ عيناه بعد تصديق! صدره وظهره الآن خالٍ تماماً، حتى الجرح الذي على ظهره التأم واختفى كالسحر! أصبحت همسات الفتيات مسموعة فارتدى قميصه على عجل وقطب حاجبيه بانزعاج، ابتعدت نورس عنه بضع خطوات، اعتقدت أنه غاضب منها فلم تتجرأ على الاقتراب منه أو حتى النظر إليه. دخلت السيدة من البارحة وهتفت بمرح:
- آنستي، وصلنا أنكِ استطعت شفاء جروح هذا الشاب باستخدام البيلسان المقدس.
ثم أمسكت بكتفيها بقوة، عيناها تتقدان حماساً:
- لم يسبق أحد أن تجرأ على فعل ذلك، لكن جروحه شفيت تماماً دون أي أثر.
ثم جثت أمامها، وتوسلت:
- هل تسمح سيدتي بعلاج جروح أحد العاملين هنا؟ حاول الكثير من الاطباء علاجه، ولكن لم يستطع أحد ذلك.
نظرت نورس نحوها بذعر، وازدادت ذعراً حين دخلت خمس فتيات أخريات وجثين متوسلات.
- لا..
خرج صوت روهان رافضاً بشكل قاطع، حين نظرن الفتيات نحوه كم لو أصابتهم صدمة كبيرة.
- أنتِ تتعدين حدودك.
- سيدي!
همست بصوت ضغيف مذعور، اقترب روهان من نورس ووقف أمامها كحاجز بينها وبين السيدة التي تبدو المسؤولة عن هذا النزل، نظرت نحوه بعينين بريئتين ثم أحنت رأسها انحنت برشاقة وقالت بحذر:
- اعذرني سيدي، كان يجب أن أطلب منك ذلك أولاً. اعذر وقاحتي.
- الأمر ليس كذلك.
أجابها ببرود بملامح لا تظهر أي مشاعر، يجعلك لا تعرف ما الذي يفكر فيه، أمعنت النظر فيه، ثم نظرت نحو نورس التي تنظر إليهما ببلاهة، ثم انحنت برشاقة مجدداً، وقالت:
- سيدي، إن تركت الآنسة تعالج المريض الذي لدينا، فنحن سنكون سعيدين بأن تكون استضافتك هنا مجانية.
"هل هذه صفقة تجارية؟"
شعر بالاشمئزاز من الأمر، لكن في حالتهم تلك لا يوجد خيار، نظر نحوها بازدراء، لكنه سرعان ما تمالك نفسه، ثم نظر نحو نورس التي أصبح ثوبها رثاً بشكل يرثى إليه، شعر لوهلة بأنه سيستخدمها لكن ... هو على الأقل يريد أن يعيدها إلى القصر بمظهر لائق.
- حسناً.
انفرجت أسارير السيدة، حين تابع:
- إذاً عليكِ أن تجدي للآنسة ثوباً ملائماً.
تلألأت عينا السيدة بالأمر، بينما نظرت نورس نحوهما بدهشة:
"ماذا"
همست في نفسها، لكن لا أحد يستطيع سماعها، بدت السيدة سعيدة وكأن اختيار الملابس لآنسة هوياتها المفضلة، هزت السيدة رأسها بثقة، فأمسك روهان سترته التي تركت على ظهر الكرسي، وقال:
- اذاً أعتمد عليكِ.
انصرف وترك الفتيات تهتم بأمرها، ألقى نظرة أخيرة يتفح الوضع، ما هي إلا ثواني حتى عدن الفتيات بأثواب من مختلف الألوان، وانقضضن عليها بحماس، ابتسم روهان ابتسامة جانبية خافتة، وهم خارجاً.
...
بعد بضع ساعات، جلس خلالها روهان مع مارون في الحانة المرافقة للنزل، حيث يجلس القليل من الناس، قدمت الفتاة ذاتها، وانحنت بوقار، فنظر مارون نحوها بدهشة، حين قالت:
- سيدي، الآنسة تتوجه الآن إلى غرفة المريض، أردت إعلامك ظناً أنه ربما تريد مرافقتها.
- أجل، هذا جيد.
ثم سار يتبعها، بينما عينا مارون المتسائلة لا تنكفئ تنظر إلى روهان والفتاة بدهشة. همس:
- ما الذي فعلته من خلف ظهري؟
- لا شيء ..
همس بلامبالاة:
- حصلنا على اقامة مجانية مقابل علاج أحد العاملين هنا.
توقف مارون عن السير من اثر الدهشة، ثم عاد يتبع سيده وهمس:
- هل جننت؟ ماذا لو كشف أمرنا؟
- ليس باليد حيلة.
- أهذا ما تجيني به؟
- مارون، أعدك بأننا حالما ننتهي من هذا سنغادر حالاً.
تنهد مارون بعدم رضا، ولكنه لا يستطيع إيقاف ذلك الآن، فها هي الفتاة تعلن أنهم وصلوا. فتحت الباب ودخلا نحو غرفة صغيرة ذات إضاءة خافتة تأتي من انكسار أشعة الشمس على ستائر الغرفة الكبيرة، ما تعطي ضوءً دافئاً، العدد الطبية مصطفة بانتظام على منضدة خشبية عالية نسبياً بحيث يسهل الوصول إليها، سرير صغير مغطى بالستائر بجانبها، يستلقي عليه رجل عجوز بالكاد يستطيع التقاط أنفاسه، يتعرق بشدة، وصدره يصعد ويهبط بسرعة، بينما تتفحص نورس جروحه بعناية. وقف روهان كالتمثال عندما رأى تلك الدمية الملائكية التي تسير بكل ليونة ورشاقة بين تلك الأدوات، بثوبها الأبيض الناصع، وشعرها المسدل على جانبها مشبوك بأناقة، بدت كجنية تعيش في حدائق الزهور، أهذه هي الفتاة التي كانت معه قبل بضع دقائق؟!
بعض أن تفحصت الرجل، هزت رأسها، وهمت نحو العدد تعد الخليط بالنباتات التي أحضرت لها، نبات البيلسان المقدس كما يسمونه أهل هذه القرية، ثلاث فتيات يقفن على الجانب الآخر من السرير يترقبن ما تفعله بدهشة وإعجاب، كما لو أنها مرتهم الأولى التي يرون فيها طبيب أعشاب.
خلطت نورس أوراق البيلسان ودمجتها بأوراق نباتات أخرى، ثم وضعتها على الجرح الذي يشق كتفه، وضمدته بعناية، ثم مسحت وجهه من العرق وغرست قطعة قماش في إناء من الماء الدافء بخلاصة الأعشاب مسحت وجهه ووضعته على جبينه، بعد بضع دقائق هدأ الرجل العجوز وغط في نوم عميق.
- هل سيكون على ما يرام؟
سألت إحدى الفتيات، فأجابت السيدة:
- لا تقلقي، سينجو هذه المرة، فهذه الآنسة ماهرة حقاً.
- لم أكن أعرف أن البيلسان المقدس الذي نزرعه في أنحاء القرية مفيد لعلاج الجروح.
قالت احداهن، فأجابت الفتاة:
- أجل.
فانتهز مارون الفرصة وسأل:
- البيلسان المقدس؟
فأجابت السيدة:
- أجل، اعتاد أجدادنا على زراعته، تقول الأساطير أنه يعالج الجروح بشكل سحري، ولكننا حين حاولنا استخدامه لم ينجو أحد، بل ازدادت حالتهم سوءً.
نظر الجميع نحو نورس، التي نظرت نحوهن ببلاهة، ثم سألت السيدة:
- لكن كيف لتلك الفتاة الصغيرة أن تعرف كيف تستخدم هذا النبات القديم؟
هزت الفتيات الثلاثة رؤسهن، بينما نظر روهان نحو نورس وابتسم لها بفخر، عيناه تتلألأ باعجاب، كيف لا وهي أعجوبة القصر، كلما اكتشف شيئاً جديداً عنها زاده ذلك اعجاباً بها.
بدت نورس شاردة الذهن، تنظر نحو نبات البيلسان الذي أمامها بتركيز تام، وكأنها تفكر بما تقوله السيدة بجدية، التمس روهان شرودها، ولكنه لم يحرجها بالسؤال.
...
في اليوم التالي، شفي العجوز من إصابته وعاد لأموره الاعتيادية، إنه الرجل المسؤول عن الاسطبل، هتفت الأحصنة بسعادة عندما عاد إليها، شكر الرجل العجوز روهان ونورس ومارون على مساعدتهم له، وسرعان ما انتشر صيت نورس في الأرجاء. ما جعل الأمر أكثر صعوبة عليهم الثلاثة.
انشغلت نورس بتفقد النباتات في فناء النزل، يقف روهان على مقربة منها، فهو لا يستطيع أن يدعها بمفردها كونهم لا يعلمون ما اذا استطاع سيراف وأعوانه كشف مكانهم. رؤية نورس بهذا التركيز لا يستطيع روهان سوا الابتسام، يبدو أن حديث السيدة أشغل بالها، فكيف يمكن أن تستخدم نبات معالج فتصبح الاصابة أسوأ؟ بالتأكيد هناك خطأ ما، وبطبيعة الحال لا يمكن لروهان أن يخرج من هذه القرية حتى يحل الأمر، ففي النهاية هذا المكان تابع للمملكة وبالتالي حل تلك القضية من مسؤوليته.
عاد مارون بسرعة، كان من الصعب التنقل أمام العامة، كونهم انشهروا بعلاج الجروح، وسيجعل ذلك أسهل على مطارديهم من ملاحقتهم، لذا أرسل روهان مارون إلى الخارج ليتفقد الامر، بينما يقف هنا يحرس نورس من أي مباغتة.
- ما الذي توصلت إليه؟
- سيدي، الجميع يتحدث عن الآنسة لافرتين وعلاجها لذلك السياس ... إن خرجنا على الملأ سيصبح الوضع أسوأ.
فكر روهان ملياً، ثم قال:
- وهل عرفت سبب عدم كفاءة تلك العشبة؟
حك مارون رأسه، وقال:
- لا أستطيع فهم الأمر، الجميع يقول إنه جرب استخدام العشبة ولكنها تسمم الجراح بدلاً من علاجها.
- تسمم.
نظرت نورس نحوهما بترقب، عيناها تشعان فضولاً، نظرا نحوها بدهشة وتجمدا مكانيهما، ثم تنحنح روهان، وعاد يسأل مارون:
- لكن هذا غير منطقي، استخدمتها الآنسة لافرتين علي وعلى السياس وكان كل شيء على ما يرام.
عادا لينظران نحوها، ثم نظر روهان نحو مارون وسأل:
- هل ربما يستخدمونها بطريقة خاطئة؟
هز مارون رأسه نافياً، وقال:
- الجميع يعلم أن أوراقها فقط ما يستخدم للعلاج.
أطرق روهان رأسه مفكراً، ثم سأل:
- ألم تستخدم الآنسة لافرتين النباتات الموجودة هنا؟
- أجل سيدي، استخدمت النباتات المزوعة عند مدخل القرية.
- فهمت!
نظر نحو نورس نظرة عميقة، وقال:
- أحضر للآنسة لافرتين بعض العينات لتفحصها.
عينا نورس احتدت بجدية، يبدو أنها فهمت ما يرمي روهان إليه، كلاً منهما يبادل الآخر بنظرات ذات معنى، هناك أمر واحد يمكن أن يحصل، نظر مارون نحوهما باضطراب، وقال بتردد:
- أجل، سيدي!
...

2020/05/23 · 175 مشاهدة · 1749 كلمة
بيان
نادي الروايات - 2024