أصناف مختلفة من البيلسان على الطاولة داخل غرفة النزل الذي باتت فيها نورس تتفحص العينات التي يحضرها مارون هنا وهناك، كان لابد أن تغلق على نفسها لتجنب فضول سيدات النزل هناك، فهن لا ينكفئن يسألنها عن آخر التطورات، لكن لا فائدة، لا يوجد أي أثر لأي تلوث في النباتات، الأمر الذي يزيده ريبة.
سأل روهان مارون بنفاذ صبر:
- هل حقاً هناك من يشتكي من تسمم جروحه بعد استخدام هذه الأعشاب.
انحنى مارون وقال بهدوء:
- رأيت بعضاً من المصابين الذين لا يزالون يعانون من تسمم وتلوث الجروح، كما توفي عدد لا يمكن تجاهله بسبب ذلك.
تردد روهان قليلاً، ثم نظر نحو نورس التي بدت مذهولة، ثم قال يخاطب مارون:
- لكن علينا إعادتها إلى الأكاديمية قبل أن يكتشف الحاكم الأمر.
حرك مارون مقلتيه بعدم اكتراث، ثم قال:
- الأهم من ذلك، لا يمكننا الخروج من هنا!
بتذكر فتيات النزل المزعجات، طرق الباب فجأة، فحرك روهان عينيه بانزعاج وتنهد، ثم هم مارون يفتح الباب، خرج صوت السيدة التي رافقتهم طوال فترة مكوثهم، والتي تبدو صاحبة النزل:
- أعتذر عن التطفل، ولكن هذه بعض العينات من النزل أيضاً.
أخذ مارون العينات وشكرها، ثم أغلق الباب، واقترب من الطاولة ليضع العينات، نظرت نورس نحوه عيناها شاردتين في عالم آخر، لم يفت ذلك روهان والذي سألها مقاطعاً:
- هل تريدين التحقق من أمرٍ ما؟
نظرت نحوه بدهشة، كيف أمكنه قراءة أفكارها، إلا أن مارون قال معارضاً:
- لا، لا، لا ... إياكم فعل شيء مجنون آخر!
- لكننا نريد أن ننهي الأمر بسرعة.
علق روهان بانزعاج:
- ألا ترى أن بقاءنا مقيدين هكذا لن يأتي بأي نتيجة!
زم مارون شفتيه باضطراب، ليحاول روهان اقناعه:
- ربما يعرف أهل القرية ان فتاة عالجت رجلاً يعمل في نزل ما، ولكن هل يعلمون من هي حقاً؟
بت كلمات روهان منطقية، من سيعلم من هي الفتاة المنشودة التي تحدث عنها النزل ما داموا لم يروها حقاً، لذا اكتفى مارون بالتحذير:
- حسناً، لكن كونا حذرين!
ربت روهان على كتف مارون، ثم أشار لنورس بالتحرك.
...
السماء صافية، ونسائم الهواء لطيفة على الوجه، بينما يبدو السوق في القرية نشيطاً، المحال مرتبة بطريقة أنيقة رغم عتق جدرانها، والباعة المتجولون أقل من المعتاد، لكن رائحة الخبز الطازجة تفوح في الأرجاء تعطي شعرواً جميلاً ومنعشاً.
بدت نورس مستمتعة، لم تكن هذه المشاهد مألوفةً لها، فها هي تحدق في عربة البائع في الزاوية ممتلئة بالتفاح الطازج، وبعربة مفرشة بأقمشة بألوان زاهية، ومتجر يبدو عالمقصورة يعلق أصناف مختلفة من اللحوم، رؤية عيونها المتلئلئة بتلك المشاهد، لا يستطيع روهان سوى الابتسام.
كانت تنظر في المجوهرات الأنيقة والمصنوعة يدوياً، حين شد انتباهها قلادة بلؤلؤة فريدة في شكلها، رأى البائع شرودها فصفق يديه وقال بمرح:
- يبدو أن لآنستي الصغيرة ذوقٌ مميز، فهذه القطعة من أندر القطع.
حدقت نورس نحوه بدهشة، حين أردف موضحاً:
- هذه القلادة صنعت من لؤلؤة فاخرة، تحضرها النوارس معها خلال ترحالها، ويحدث أن نحصل عليها مرة كل ستين عاماً.
لمعت عيناها بإعجاب، ثم ابتسمت للبائع ابتسامة لطيفة وشدت على ذراع روهان بأن يتحركوا، لكن جسد روهان كان ثقيلاً كالصخر لا يتحرك، ابتسم البائع بعفوية، كاد يفتح فاه ليتكلم حين قال روهان يخاطبها:
- اذهبي أنتِ، سأوافيكي بعد قليل.
نظرت نحوه باستغراب، ثم نظرت نحو البائع الذي لا يزال مبتسماً، ولكنه سرعان ما حثها على التحرك، ما إن ابتعدت عن المكان حتى التفتت نحوه بدهشة، لتجدها تبعها مباشرة، نظرت نحوه مستفهمة، فرفع حاجبيه باستفهام، ثم قال بنبرة مؤنبة:
- علينا أن نركز الآن في انهاء الأمر والخروج من هنا، سيكون هناك وقت للتبضع لاحقاً.
هزت رأسها بتلقائية، ابتسم روهان بلطف ثم أمسك ذراعها وسحبها معه حتى لا تركض هنا وهناك. حتى خرجا من السوق نحو أرضٍ شاسعة ممتلئة بالحقول المزروعة بالبيلسان. وقف كلاهما في ذهول، المكان أشبه بجنة من البيلسان، المزارعون منهمكون في عملهم، يظهر عليهم العناية الفائقة في رعايتها، بعد وجوهم لبعض لحظات، اقترب روهان من أحد الزارعين، فتبعته نورس بدورها.
- مرحباً!
حاول روهان لفت انتباه مزارع عجوز والذي كان منغمراً في نكش الأتربة، حين رفع قبعته ونظر نحو روهان، لم يعرف روهان عن نفسه، ولكن ما إن رأى زيه حتى أفلت ما بيده وهم نحوه ينحني باحترام:
- عذراً سيدي، لم أنتبه لذلك، أرجوك أن تعفو عن وقاحتي سيدي!
نظر كلاً من روهان ونورس نحو بعضهم بدهشة، عدم تجاوبه معه جعله يرفع رأسه وينظر نحوه بفضول، ثم سأل روهان:
- سيدي، هل لديك معرفة برتب الحرس الملكي؟
رفع المزارع ظهره، وأخذ يحك رأسه بتوتر، وقال:
- آه، أنا آسف، كنت أعمل في الحرس الملكي من قبل، لكنني متقاعد الآن.
ابتسم روهان ابتسامة باردة، ثم انحنى باحترام، وقال:
- سيدي، هذا الحارس من يجب أن ينحني احتراماً لحضرتك!
رفع المزارع كلتا يديه وأخذ يلوح بعصبية، وصرخ:
- آه، لا، لا، لا داعي لكل تلك الرسمية.
رفع روهان رأسه، تغير الجو المحيط به فجأة، ثم قال بنبرة باردة حازمة:
- الأهم من ذلك سيدي، لم تعمل الآن مزارعاً؟
تردد المزارع قليلاً، ابتلع رمقه ثم قال:
- أدعى كيفن، كنت حارساً متواضعاً في القرية، بعد الحرب الأخيرة تعرضت لمرض خطير عدت في أثره إلى القرية التي أنتمي إليها.
شعرت نورس بمعدتها تؤلمها، يبدو أنها تعرف تماماً ما الذي يتحدث عنه هذا العجوز، التمس روهان اضطرابها، فخاطبه:
- وها أنت تكرس حياتك في زراعة هذا النبات.
وأشار نحو البيلسان، فهز الرجل العجوز رأسه، وقال:
- قريتي تزرع هذه النبتة منذ آلاف السنين، إنها عشبة أسطورية مقدسة تطرح البركة لأهل القرية.
- وتعالج الجروح؟
حدق المزارع العجوز في وجه روهان الصارم، ثم حدق حوله قبل أن يخفض صوته ويهمس:
- هلا تحدثنا عن هذا في المنزل؟
نظر روهان نحو نورس التي نظرت نحوه بدورها، بدا أنه يحاول الحصول على الموافقة منها، لكنه سرعان نظر نحو المزارع العجوز، وقال:
- أرشدنا الطريق!
...
في غرفة خشبية، يجلس كلاً من روهان ونورس على حصيرة، نظرت نورس حولها بعض الأوسمة علقت على الحائط، هناك يوجد فرو لحيوانات مختلفة، يبدو من وفرة الكوخ بأن العائلة تعيش بدخل جيد. دخلت عليهم فتى صغير، قدم لهم كوباً فخارياً من الشاي الساخن، رائحته منعشة ذكرته تلك الرائحة بالشاي الذي شربه في النزل، أطرق هنيهة مفكراً عندما قطع شروده دخول العجوز وقد خلع عنه ملابسه المتسخة، وتربع على الحصيرة قبالتهما.
- هل أعجبكم الشاي؟
هزت نورس رأسها، فابتسم المزارع بلطف وخاطبها:
- إنه من خلاصة أزهار البيلسان ...
لم يكمل كلماته حتى أخذ روهان يسعل من هول الصدمة، نظرت نورس نحوه بذعر وأخذت تربت على ظهره، بينما بدا المزارع مندهشاً، فسأل:
- هل هناك خطب ما؟
تمالك روهان نفسه، وأخذ يمسح وجهه بمنديله، ثم قال:
- اعذرني سيدي، ولكن أليست هذه العشبة لعلاج الجروح؟
- أجل، لكنها أزهارها مستخلص جيدً للاسترخاء.
- سيدي، أليست القرية تعاني الآن بسبب هذه العشبة؟ لمَ لا زلتم تستخدمونها؟
تغيرت تعبيرات العجوز كيفين، ترك كوبه، واعتدل في جلسته ما جعلهما ينظران نحوه بترقب، ثم قال:
- أجل، فالخطأ ليس بالعشبة حقاً.
- ليس بالعشبة!
نظر نحو نورس وسأل:
- هل لاحظت الآنسة ذلك؟
نظر روهان نحو نورس التي نظرت نحوهما بدهشة، ثم هزت رأسها، ابتسم العجوز ثم قال:
- نحن نستخدم هذه العشبة منذ آلاف السنين، لكن منذ أنزلت اللعنة على هذه القرية والجميع يظن أن العشبة هي السبب.
- كيف ذلك؟
سأل روهان بدهشة، فاستطرد العجوز كيفين:
- بعد الحرب، اندلعت حريقً كبيرة في القرية، أدت إلى افساد جميع محاصيل البيلسان المقدس، ولم تعد الأرض صالحة للزراعة منذ ذلك الوقت، حاول القرويون إيجاد الحلول، حتى أتى رجل غريب، قال أنه يمكنه مساعدة القرية فالحريق الذي نشب كان ممتلئٌ بسحر منع الأرض من الإنبات، خاف القرويون أن عدم زراعة البيلسان لوقت طويل سيغضب الأجداد ولن يستطيعوا علاج جراح المصابين والحرس الناجين من الحرب، لذلك طلبوا منه المساعدة، لكنه طلب مقابلاً أن نقدم له من البيلسان كل شهر، وافق القرويون وعادت الأرض للإنبات وعاد القرويون لزراعة البيلسان، ولكن ...
حاول روهان التخمين:
- لم توفوا بوعدكم للرجل.
أخفض العجوز كيفين رأسه، وقال:
- كنا نفعل ذلك، كان يحضر امرأة لتستلم العشبة، ولكن يبدو أن هذه الإمرأة لم تكن تسلم ما نرسله له، لذا غضب الرجل وألقى لعنته على القرية، ومذ حينها ونحن ملعونون ولم نستطع إنقاذ المصابين منذ ذلك الوقت.
- إذاً أنت تقول بأنكم ملعونون بعدم القدرة على الشفاء وليست بالعشبة نفسها.
- أجل، هذا ما أظنه.
دب الصمت الغرفة، بدا روهان شارداً، حين خاطب نفسه بصوتٍ عالٍ:
- هذا يفسر سبب استمراركم بزراعتها، ويفسر سبب قدرة نورس على علاج ذلك الرجل في النزل!
- هل استطاعت الفتاة الصغيرة علاج أحد الرجال هنا؟
سأل العجوز كيفن مستغرباً، ما جعل روهان يستيقظ بذعر، ثم هز رأسه بارتباك وقال:
- آه كان هذا مصادفة!
- أعتقد لأنها لم تصب باللعنة مثلنا، لذا هذا يفسر الأمر.
- فهمت!
ثم نظر نحو العجوز كيفن وسأل:
- ولكن ما الذي فعلتموه بعدها، ألم تجدوا حلاً؟
- الحقيقة أن الرجل اختفى بعدها، ولم يستطع أحدٌ إيجاد الإمرأة.
فهتف روهان:
- إذاً علينا فقط إيجاد تلك الإمرأة، أليس كذلك؟
هز الرجل العجوز رأسه بحزن وقال:
- مع الأسف لم يرى أحدٌ شكلها، كانت تعطي وجهها بوشاح أسود، لذلك لو بحث عنها أحد لن يعرفوا من هي.
أمعن روهان التفكير في كلمات الرجل، كلماته منطقية، لكن لابد من وجود طرف للخيط، ثم سأل:
- هل تظن أن تلك الإمرأة عادية؟
ومضت عينا العجوز كيفن عدة ومضات، ثم قال:
- يظن القرويون أنها شيطان.
- هذا متوقع!
ثم نهض ونظر نحو نورس وقال:
- إذاً علينا فقط إيجاد تلك المرأة ومعرفة أين تضع الأعشاب التي من المفترض أن ترسل لذلك الرجل.
نهض العجوز كيفن بدوره، وسأل:
- هل يستطيع سيدي فعل ذلك؟
خرجت ابتسامة خافتة ساخرة على وجه روهان، وقال بثقة:
- بالتأكيد!
اقترب العجوز كيفن منه وأخذ ينحني:
- سيدي، سيكون أهل هذه القرية ممتنين حقاً! شكراً لك سيدي!
- لا عليك، هذا واجبي!
أخذ العجوز كيفن يشكره ويدعو له طوال طريقه إلى الخارج، حتى ابتعدوا عن الكوخ، نظر روهان نحو نورس التي بدت شاردة الذهن فسأل:
- هل يخطر ببالك أمرٌ ما؟
هزت نورس رأسها بالإيجاب، حركة رأسها البطيئة تلك يعرف تماماً ما تفكر فيه، إن كل شيء يدور حول الإكسير، ما يجعلها تشعر بالذنب الشديد، تنهد روهان بانزعاج، حاول كبت مشاعره وأخذ نفساً عميقاً ثم قال:
- تبدين متعبة بعد هذا اليوم الشاق، لنعد!
لم تعترض، هزت رأسها مجدداً.
...

2020/05/23 · 164 مشاهدة · 1607 كلمة
بيان
نادي الروايات - 2024