عند وصولهم النزل، رحبت بهد رئيسة النزل بحرارة، ثم سألت:
- هل هناك أي تقدم بشأن البيلسان المقدس سيدي؟
نظر روهان نحوها بدهشة، ثم قالت:
- أشعر كسيدة لهذا النزل بالمسؤولية كوني ورطتكم بهذا الأمر، وأود أن أقدم المساعدة الممكنة.
- شكراً لكرمك سيدتي!
خاطبها روهان بلباقة:
- لكنني لا أستطيع ترك الأمر كونه من واجباتي.
- شكراً لك سيدي، نحن محظوظون لوجودك هنا.
انحنت وقدمت احترامها، كاد روهان يلتفت حتى فاجأه امساك نورس لقميصه، نظر نحوها بدهشة أخذت تنكمش على نفسها خلفه، كاد يفتح فاه عندما رأى عيناها تحدقان بذعر شديد، سأل:
- ما خطبكِ فجأة؟
دفعت به باتجاه الممر الذي عبرت خلاله السيدة، ما إن نظر في أثرها حتى تجمد مكانه، السيدة تسير بشكل طبيعي تماماً، لكن في يخرج من ظلها ذيل طويل، عجز روهان عن تفسير الأمر، وقف مشدوهاً لبعض الوقت، حين أيقظته نورس مجدداً تدفعه ليتبعها، لكنه أوقفها بإشارة من يده، وهمس:
- لا، انتظري قليلاً.
لمس جانبه ليتأكد من وجود السيف معه، أخذ نفساً عميقاً، حدقت نورس نحوه بدهشة:
" هل هو خائف أيضاً؟"
ثم أشار لها بأن تتبعه، سارا بهدوء كما لو يروا شيئاً، ثم تتبعوا السيدة، الذيل في ظلها لا يزال يرقص في الأرجاء ما جعل المشهد مثير للاشمئزاز، الأمر المربك في الأمر: ألم تنتبه السيدة بعد؟ ما إن دخلت السيدة الغرفة حتى تحرك الظل بعيداً واختفى من النافذة، هرع روهان نحو النافذة وفتحها، لكنه لم يجد أثراً لأي شيء سوا الحديقة الهادئة المطلة على الشارع، احتدت عيناه، وفكر في نفسه:
"يا له من أمر مثير للاشمئزاز!"
استدار، وواجه نورس، بسرعة سحب يدها وسار بها حتى آخر الممر، وقبل أن يتحرك:
- علينا أن نبحث عن مارون، ربما الظل يلاحقه.
جحظت نورس عيناها على واسعهما، هل ربما لاحظت السيدة التي لعنت القرية بأن مارون يبحث عنها؟ لكن من تكون؟
وقبل أن تفكر بإجابة وجدت روهان يسحبها معه مجدداً، ذهب بها إلى الحانة، لكنه لم يجده هناك، ثم توجه إلى غرفته، ما إن اقترب من الباب حتى خرج مارون، ليجد روهان يمسك بكتفيه بقوة.
- مارون! هل أنت بخير؟
نظر مارون حوله بذعر، وهتف:
- سيدي ما الخطب؟
تنفس روهان بعمق، وأفلت عن قبضته، ثم نظر مارون نحو نورس متسائلاً، حينها خرج صوت روهان وبنبرة غامضة:
- لنتحدث في الداخل.
فتح الباب ودلف، تبعاه، بينما يبدو على مارون الحيرة، لم ينتظر كثيراً حتى نظر روهان نحوه بجدية مخيفة وقال:
- جنيات الهيكب تسكن هذا المكان!
تجمد مارون مكانه من هول الصدمة، ودب في الغرفة الصمت، الجو أصبح بارداً وقاتماً، ما إن سمعت نورس بالاسم ارتعد جسدها على الفور، وأحكمت على قبضتها الصغيرة المرتجفة بقوة، وما هي إلا لحظات حتى حلق ظلٌ كالسهم على الحائط وما إن اقترب من النافذة حتى انفجر الزجاج نحو الداخل، تأهب كلاً من مارون وروهان بسل سيفهما، حين أخذ الظل يتشكل بهدوء كسائل لزج يتمدد ويتقلص حتى حتى تشكل جسد امرأة ذو قرنين صغيرين وذيل طويل ينتهي برأس رمح كبير، ما إن فتحت عيناها حتى سطع شعاع ذهبي ابتلع الغرفة، ثم ظهرت عيناها الذهبيتين المرعبتين بين جسدها الأسود اللزج، ما غن اكتملت هيئتها حتى نظرت نحو نورس التي تجمدت من الذعر، عيناها تتلألآن بدموع مكبوتة، كشفت عن أسنانها الذهبية اللامعة، اقتربت منها ورفعت يدها التي أخذت تقطر من ذلك السائل الأسود اللزج، وضعت يدها على وجه نورس الشاحب، وهتفت:
- عزيزتـــــــي! مضى وقت طويل!
بدا على كلٍ من مارون ورهان الذهول، احركت يدها اللزجة نحو عنقها، ولمست بأصابعها اللزجة مكان حنجرتها، بينما انكمش وجه نورس من الألم، ابتسمت وسألت ساخرة:
- هل تبلين جيداً دون حنجرتك؟
أخذت تضغط على جيدها، حتى أتى سيف روهان وفصل بينهما:
- ابتعدي عنها!
طارت بسرعة ككرة مطاطية ثم تشكل جسدها على الجانب الآخر، استعد مارون لمهاجمتها، حين هاجمته بكتلة لزة من جسدها، فاصطدم بالحائط.
- مارون!
صرخ روهان بذعر، ثم وجه سيفه نحوها، صك أسنانه بغضب وقال بعصبية:
- كيف لكِ معرفة نورس؟
رفعت يديها اللزجتين ورفعت رأسها وصدحت ضحكة هستيرية مرعبة، ثم نظرت نحوه بعينها الحادتين، وقالت ساخرة:
- هل تريد أن تعرف؟
ثم نظرت نحو نورس التي أصبحت شفافة من شدة شحوبها، وهتفت:
- ألا يجب أن تخبريهم بذلك يا عزيزتي؟ آه نسيت .. لم تعودي تملكين صوتاً!
وأخذت تضحك بجنون، اغرورقت عينا نورس بالدموع، وازداد غضب روهان، هرع نحوها بسيفه وصرخ:
- أيتها الـ ...
وبطرف عين كانت تحركت بعيداً، وفي رمشة عين كانت تقيد نورس من الخلف، عض روهان على أسنانه، وارتسمت على وجهها ابتسامة خبيثة وهي تمسك جيد نورس بأطراف أصابعها الطويلة، ثم قالت:
- إن أردت يمكنني أن أعيد صوتها.
وقف كلاً من مارون وروهان مذهولين، كاد يمنعها لكن ضوءً ذهبياً شع من بين أطرافها منعهما من الرؤية، ما إن اختفى حتى سقطت نورس على الأرض وأخذت تسعل بقوة، هرع روهان نحوها، أخذت يهزها، وصرخ بقلق:
- نورس!
لكنها استمريت بالسعال، أمسك بكتفيها وسحبها نحوه، شهقت من بين سعالها:
- قا .. ئد ... رو ... ها ... ن!
ثم بصقت من السائل اللزج من فمها، تجمد مكانه من هول الصدمة، استمرت نورس بتقيؤ المادة اللزجة خرجت ضحكة الجنية الهستيرية مجدداً:
- هاهاهاها، هل تتذكرين الآن؟
ثم احتدت عيناها وخرجت منها صوت مرعب:
- أم ما زال علي تذكيرك؟
أمسكت نورس بعنقها، بينما أخذ ينتفخ وخرج منه ضوء ذهبي، ترآت أمامها صورة ذلك المشروب المخضر الداكن وفقاعات الهواء تخرج منه، ويدا والدتها وهي تقترب بالكأس من الفتاة التي تجلس على السرير يمتلئ وجهها بالعرق وهي تشهق من الخوف، ثم خرجت صرخة مدوية تماشت مع الضوء الذهبي يشع في الغرفة وينطلق نحو السماء ثم يتلاشى، ليجد روهان نورس بين ذراعيه جثة هامدة، جسدها شاحب رقيق كورقة في مهب الريح. دوت ضحكت الجنية بالأرجاء، ما زاد من غضب روهان، شعر بدمه يغلي داخله، كشر عن أسنانه، وميض أحمر خرج من عينيه، وأحاطت بجسده هالة حمراء تتقد شراراً، جعلت محيط الغرفة مرعباً، تجمد كلاً من مارون والجنية مكانهما من هول الصدمة، هالة مرعبة تسري في جسديهما، رغبة قوية متعطشة للدماء. همس مارون:
- سيدي!
وبسرعة البرق هم روهان نحوها وبضربة واحدة شق جسدها نصفين وتلاشى السائل اللزج في الاتجاهين كينبوع حار، ركض مارون بسرعة نحو نورس، وأخذ يحملها بعيداً، تناثر السائل اللزج في الأرجاء ولكن سرعان ما تحركت كل بقعة منه لتتجمع، وقبل أن يتكون جسدها، ضرب روهان سيفه المثقل بالهالة الحمراء الدامية وتمزق جسدها إلى كومات أصغر من السائل اللزج وسرعان ما أصبحت حمراء مضيئة وتلاشت بعيداً، حتى أثقل الهواء بيراعات حمراء مضيئة ملتهبة واختفت.
اقترب روهان من مارون الذي يمسك بنورس بين ذراعيه، خطواته ثقيلة، عيناه فارغتان، جثى وأمسك نورس من بين ذراعيه وحملها، جسدها ناعم غض، والدفئ الذي يخرج منه يشير أنها لا زالت على قيد الحياة، لكنها خفيفة كالريشة بالكاد يشعر أن بين ذراعيه شيئاً.
بقي مارون صامتاً طوال الطريق، امتطى روهان خيله وأسند رأس نورس على صدره، وضرب لجام الحصان ليركض الحصان على عجل، وما إن خرجوا من القرية تهادت خطوات الحصان، ولكن الصمت يخيم بينهما، أراد مارون أن يتحدث ولكنه كلما فتح فمه ورأى تعبير وجه سيده الفارغ تراجع للخلف، وشعر بالحزن، حتى خرج صوت روهان أخيراً وقطع الصمت:
- سنعود إلى الأكاديمية!
مسحة حزن على نبرته الباردة، لكن ما إن سمع مارون كلماته حتى فتح عيناه على واسعهما، وسأل بعفوية:
- أمتأكد من ذلك؟
لكن عدم إجابته جعلته يتراجع ويقول:
- أجل!
...
عودة للوراء

في حديقة غناء، ترصع الأزهار أرجاء المكان، الشمس مشرقة، وفراشات ملونة تطير في الأرجاء، بينما أصوات العصافير تعزف ألحاناً متناغمة، تتربع طاولة خشبية من الفضة، وحولها تجلس سيدة جميلة، تجلس قبالتها فتاة صغيرة بوجه بشوش، بينما تشير نحو الكتاب الذي بينهما.
- ماما!
هتفت الطفلة متسائلة:
- هل حقاً سنحتظ بالأزهار إن وضعتها داخل الكتب هكذا؟
ضحكت السيدة ثم صفقت يديها بمرح، وقالت:
- لمَ لا نجرب!
دهشت السيدة لعبوس الفتاة، فسألت:
- ما الخطب؟
فقالت الفتاة:
- لكنها لن تكون جميلة كما كانت وهي متفتحة.
ارتسمت على السيدة ابتسامة خفيفة تلقائية، ثم اقتربت وأمسكت بيدا الفتاة الصغيرة، وهمست:
- لكنها ستحمل الرائحة نفسها وهي متفتحة.
هتفت الفتاة بذهول:
- حقاً!
فأرمأت السيدة بإيجاب، وربتت على رأس الطفلة، حين ظهر ظل وأعتم المحيط، لتظهر سيدة رزينة، تبدو على ملامحها الوقار والجلاء، نهضت السيدة الشابة بسرعة وانحنت احتراماً، وفعلت الفتاة الصغيرة المثل، نظرت السيدة نحو السيدة الشابة ثم نظرت نحو الطفلة الصغيرة، بدت السيدة الشابة متوترة لتحديق السيدة بالفتاة الصغيرة، ثم قالت:
- صاحبة الجلالة، متى سوف تباشرين بالأمر؟
ارتعدت شفتيها، ثم تمالك نفسها وأخفضت رأسها:
- ألا يمكننا أن ننتظر حتى تكبر الفتاة قليلاً؟
- أكثر من ذلك؟
تساءلت باندهاش:
- الكونتيس على وشك لفظ أنفاسها الأخيرة، إلى متى يجب أن ننتظر، ألم تنسي أن ذلك الدواء هو السبب في وصولك لهذا المكان.
أشاحت السيدة الشابة نظراتها في محاولة للتهرب، فتنهدت السيدة وقالت:
- تذكري ليس لدينا الكثير من الوقت! علينا أن نحافظ على إرث العائلة.
- فهمت!
خرج صوتها بارداً، وانطفئ بريق عينيها، انحنت السيدة وانحت السيدة الشابة بدورها، بينما تجمدت الفتاة الصغيرة مكانها مندهشة، وسألت:
- ماما!
استقيظت السيدة على صوت ابنتها، فعادت الابتسامة على وجهها، حين أردفت الطفلة:
- ما الأمر؟ لم خالتي روزي غاضبة؟
تلاشت ابتسامة السيدة، ثم نظرت نحو الطفلة، ثم صفقت بيديها بمرح وهتفت:
- لا عليكِ يا صغيرتي، ربما هي متوعكة، من يريد أن يتناول المثلجات الآن؟!
انبسطت ملامح الفتاة وقفزت نحو والدتها بسعادة، وهتفت:
- أريد مثلجات! أريد مثلجات!
وأمسكت بيد والدتها وهمتا نحو الداخل.
...
ركضت نتالي على عجل عندما وصلتها الأخبار بأن القائد الأعلى للجيش وصل، تجمعت الفتيات على الشرفات بفضول، بينما كانت كلاً من كاثرين وجولييت والقائد روهان بانتظارها.
ترجل روهان عن حصانه، حاملاً نورس بين ذراعيه، فهمت الفتيات الثلاثة نحوه:
- سيدي القائد، شكراً لك!
- هل هي بخير؟
- هل أصابها مكروه؟
- هل قبضتم على الفاعل؟
تجمد روهان بذعر من هذا الهجوم المفاجئ، ولم يعرف كيف يحمي نفسه، حتى أتى مارون وأخذ يهدأ الفتيات:
- مهلاً، مهلاً آنساتي، سنشرح الأمر بالتفصيل، الأهم من ذلك، يجب أن نسعف الآنسة.
وكأن ذلك أيقظ نتالي أخيراً، فهتفت:
- آه، احترامي سيدي، أجل رجاءً تفضل من هنا.
وأرشدهم إلى غرفتها بينما عيون الفتيات تتبعهم، مر روهان من ليون ومساعديه لكنه لم يعرهما اهتماماً وتابع المسير مع جعل ليون يكشر عن أسنانه بغضب.
في غرفة نورس، وضع روهان نورس على سريرها بلطف، ثم همت كريستينا تتفحصها، فسأل:
- هل ستكون بخير؟
- أجل سموك
انحنت باحترام:
- هي فقط تحتاج لقسط من الراحة.
لم تتغير ملامح روهان الباردة، أخرج قلادة جيب بنطاله، ثم قدمها لها، وقال:
- أعطيها هذه حين تستقيظ، يبدو أنها سقطت منها.
أخذت كريستنا القلادة، لم تجد الفرصة لتستوعب ما يحصل حتى غادر الغرفة. سار نحو قاعة الاستقبال، تبعته نتالي على عجل، لكنه امتطى حصانه، وقال مخاطباً ليون:
- سأترك الباقي لك.
- سموك!
هتف ليون:
- هل تحاول جعلني مديناً لك!
لم تتغير ملامح روهان الباردة، وقال بالبرود ذاته:
- لولا منع الحاكم لي من التدخل، لما تركت الأمر لك، اعتبره من حسن حظك.
لم يترك له مجالاً للاعتراض حتى ضرب اللجام وأطلق العنان لحصانه، ألقى خلالها مارون نظرة خاطفة نحو ليون وتبع سيده. حينها عم الهدوء وبدأت الثرثرة تصبح مسموعة:
- آه، أليس هذا القائد الأعلى! ألا يزال شاباً!
- أخيراً سنحت لي الفرصة لرؤية القائد الاعلى!
- آآآه، أليس وسيماً~ كما تقول الشائعات!
- حمداً لله لولا أن القائد الأعلى حل الأزمة وإلا لطال الأمر.
- أجل أنت محقة!
تلك ثرثرة عفوية، لكنها جعلت ليون يشتاط غضباً.
...

2020/05/23 · 195 مشاهدة · 1784 كلمة
بيان
نادي الروايات - 2024