كان الظلام يخيم على المدينة، ليلاً بلا قمر، والنجوم تومض بضعف عبر غيوم كثيفة، كأنها تتحاشى الشهادة على ما سيحدث. هشام، الذي لم يعد يشبه نفسه القديمة، كان يخطو بخطوات ثقيلة إلى منزله، وكأن كل خطوة كانت تُقربه من مصير لا يستطيع الفرار منه. ظن أن عبء هذا اليوم العادي في ظاهره، والذي حمل في طياته أحداثاً غير عادية، كان سيُخفف عنه بمجرد دخوله إلى المنزل. لكنه لم يكن يدرك أن هذا اليوم كان بداية لما هو أخطر.
عندما وصل هشام إلى عتبة منزله، وقف للحظات، مستجمعاً قوته لفتح الباب. لم يكن الأمر بهذه السهولة كما كان في السابق. كل حركة الآن كانت تعني أكثر مما تعنيه في العادة، وكل قرار كان يحمل وزن مستقبل غير معلوم. دفع الباب ببطء، ودخل إلى منزله الذي كان يُفترض أن يكون ملاذه الآمن. لكن بمجرد دخوله، شعر بشيء غريب يلف المكان. كان الهواء ثقيلاً، وكأن جدران المنزل قد امتصت التوتر والرعب اللذين عاشهما في الشوارع.
رائحة رطوبة غريبة كانت تملأ الأجواء، مختلطة بعطر خفيف من عشب نادر، لم يتذكر أنه قد أحضره إلى منزله من قبل. الضوء الخافت الذي كان يتسلل عبر النوافذ المغلقة بالكاد كان يكشف معالم الغرفة. ألقى هشام نظرة سريعة على الساعة المعلقة على الحائط، التي بدت وكأن عقاربها تتحرك ببطء غير طبيعي، وكأن الوقت نفسه كان يتآمر ضده.
جلس هشام على كرسيه المعتاد في الزاوية، محاولاً أن يستعيد هدوءه، لكن الأفكار كانت تتزاحم في رأسه. تذكر تلك السيارة السوداء التي كانت تلاحقه، وتذكر ذلك الرجل الغامض الذي اختفى أمام عينيه كما لو كان دخاناً. كان يحاول تفسير ما حدث، لكن لا شيء كان منطقياً. كلما حاول أن يجد تفسيراً، كانت الأمور تتعقد أكثر. لم يكن يعرف من يمكنه الوثوق به الآن، أو حتى ما إذا كان يمكنه الثقة بعقله.
بينما كان يجلس محاولاً التوصل إلى إجابة، شعر بوجود شيء ما في الغرفة. كان إحساساً غامضاً، كأن أحداً كان يراقبه. التفت هشام بسرعة، محاولاً اكتشاف مصدر هذا الشعور، لكن الغرفة كانت فارغة. حاول أن يقنع نفسه بأنه مجرد وهم، لكن الإحساس لم يختفِ. كان هناك شيء غير طبيعي، شيء يكمن في الظلال.
نهض هشام من كرسيه، متجهاً إلى المطبخ بحثاً عن كأس من الماء لتهدئة أعصابه. لكن بمجرد دخوله المطبخ، لاحظ شيئاً غريباً على الطاولة. كان هناك ورقة صغيرة، لم تكن هناك في الصباح عندما غادر للعمل. التقط الورقة بيد مرتعشة، وقرأ الكلمات المكتوبة عليها بخط متعرج:
"ما تبحث عنه هو أقرب مما تظن. لكن الحذر واجب، فالظلال لا ترحم من يسير بينها دون حذر."
شعر هشام بصدمة تجتاحه. من وضع هذه الورقة هنا؟ ومن يعرف بما يحدث له؟ حاول أن يربط بين الأحداث، لكن عقله كان يتعب من كثرة التفسير. كان واضحاً أن هناك شيئاً أكبر يجري، شيء يتعدى فهمه. كانت هذه الكلمات كأنها تحذير، أو ربما تهديد. ولكن من؟ ولماذا؟
بينما كان يفكر في الورقة، سمع صوتاً قادماً من الخارج. كان صوت خطوات تقترب من باب منزله. تجمد هشام في مكانه، غير متأكد مما يجب أن يفعله. أخذ نفساً عميقاً، ثم توجه ببطء نحو الباب. كل خطوة كانت تزيد من توتره. عندما وصل إلى الباب، توقف للحظة ليستمع. كان الصوت الآن أقرب، واضحاً بشكل لا يمكن تجاهله.
فتح هشام الباب ببطء، متوقعاً الأسوأ. لكن ما رآه أمامه كان أشد مما كان يتخيل. كان هناك شخص يقف أمامه، لكن لم يكن كأي شخص عادي. كان يرتدي معطفاً طويلاً أسود اللون، ووجهه مغطى بوشاح أسود. لم يستطع هشام أن يرى ملامحه، ولكن عينيه كانتا تلمعان في الظلام، كأنهما تعكسان ضوءاً غير مرئي.
"من أنت؟" سأل هشام بصوت مبحوح، يحاول أن يخفي خوفه.
لم يجب الشخص، بل تقدم خطوة نحو هشام. كان هناك شيء في حركته يجمد الدم في عروق هشام. بدا وكأنه لا ينتمي لهذا العالم، وكأنه جاء من مكان آخر، من عالم آخر. بدأ هشام بالتراجع إلى الخلف، ولكن الشخص استمر في الاقتراب منه ببطء.
"ما الذي تريده مني؟" حاول هشام مرة أخرى، هذه المرة بصوت أكثر قوة.
توقف الشخص على بعد خطوة واحدة من هشام، وأخذ نفساً عميقاً، ثم تحدث بصوت خافت لكنه كان يحمل في طياته شيئاً مرعباً:
"أنت متورط في شيء أكبر مما تستطيع فهمه. لقد بدأت اللعبة، ولا يوجد طريق للعودة الآن."
شعر هشام بأن كلماته كانت تحمل وزناً كبيراً، وكأنها ختمت مصيره. حاول أن يفكر في حل للخروج من هذا المأزق، لكنه كان عالقاً. كان يشعر بأن كل شيء حوله كان يتلاشى، وكأن العالم كان ينهار أمام عينيه. كان عقله يعج بالأفكار المتناقضة، وكلما حاول التفكير بوضوح، كان الأمر يزداد تعقيداً.
في تلك اللحظة، سمع صوتاً غريباً قادماً من خلف الشخص المجهول. كان صوت خشخشة، كأن شيئاً كان يتحرك في الظلام. التفت الشخص بسرعة، محاولاً أن يحدد مصدر الصوت، ولكن فجأة، اشتعلت الأضواء في الشارع، وكشفت عن مجموعة من الأشخاص يقفون في الظلام.
كانوا يرتدون ملابس سوداء مثل الشخص المجهول، ولكنهم كانوا يحملون أسلحة. أحدهم كان يمسك بسكين طويل، وآخر كان يحمل عصا خشبية مزودة بمسامير حادة. شعر هشام برعب لم يشعر به من قبل. كان يعلم أن هؤلاء الأشخاص لم يأتوا للحديث، بل كانوا هنا لسبب أكثر خطورة.
قبل أن يستطيع هشام التحرك، اندفع الشخص المجهول نحوهم، وكأنه لم يعد يخاف منهم. كان القتال سريعاً وعنيفاً. كان هشام لا يستطيع أن يصدق ما يحدث أمامه. بدا كأن الشخص المجهول كان يقاتل بقوى غير طبيعية، وكأن كل حركة كانت محسوبة بدقة. لكن الأعداء كانوا أكثر عدداً، وكانوا يستغلون كل فرصة للهجوم.
في خضم المعركة، شعر هشام بأنه يجب أن يفعل شيئاً. لم يكن يستطيع الوقوف مكتوف الأيدي بينما تجري هذه الأمور أمامه. بدأ يبحث عن شيء يمكنه استخدامه كسلاح، وعندما وجد عصا معدنية في أحد الزوايا، أمسك بها وتقدم ببطء نحو المعركة.
كانت الفوضى تحيط به من كل جانب. أصوات الصراخ والضرب كانت تملأ المكان. حاول هشام أن يضرب أحد الأشخاص، لكنه كان بطيئاً جداً. قبل أن يصل إليه، شعر بيد قوية تمسك به من الخلف وتطرحه أرضاً. سقط على الأرض بقوة، وبدأ يرى النجوم تدور حوله.
لكن قبل أن يفقد وعيه، رأى الشخص المجهول يقترب منه بسرعة البرق، ويدفع المعتدي بعيداً عنه. كان هناك شيء في هذا الشخص يجعله مختلفاً عن الجميع، شيء لم يكن هشام قادراً على تفسيره.
ذهب هشام للنوم بعد معركة طويلة ، و جسده قد أصبح سائلا من شدة التعب .
استفاق هشام ببطء على صوت زقزوق الطيور الذي يخلل هدوء الصباح. كان جسده كله يؤلمه، وكل حركة كانت تسبب له الألم. فتح عينيه بصعوبة، ورأى نفسه ممدداً على الأرض في زقاق مظلم. كانت الأضواء في الشارع قد بدأت في العودة إلى طبيعتها، والمكان الذي كان يشهد معركة دامية الآن يبدو هادئاً وموحشاً.
نهض هشام ببطء، محاولاً أن يستوعب ما حدث. كانت أصوات الصراع قد تلاشت، لكن الغموض الذي عصف به لم يكن قد اختفى. كان يراقب بحذر حوله، وتلمس جروحه بيدين ترتعشان. شعر بمرارة الفشل والإرهاق. كان يعرف أن هذه المواجهة لم تكن سوى بداية لحالة أكثر تعقيداً.
من بين الأطلال المبعثرة، لاحظ هشام آثاراً غريبة على الأرض. كانت علامات أقدام وأثار دماء غير مألوفة، وكأن هناك شيئاً غير طبيعي قد وقع. كان هذا التباين بين الهدوء والدمار يثير تساؤلاته، ويزيد من شعوره بالقلق. ركز نظره على بقعة دماء كبيرة، واكتشف ما بدا أنه رمز محفور في الأرض.
بينما كان يراقب الرمز، كان هناك شعور بارد يتسرب إلى قلبه، كأنه لم يكن وحده في هذا المكان. استدار بسرعة، وقابل نظرات الشخص المجهول الذي كان يقف في الظلام، لكن الآن كان يتدلى بجانبه ما يشبه سيفاً طويلاً. كانت تعابيره غير واضحة، لكنه كان يراقب هشام بصمت، وكأن الأحداث السابقة لم تكن سوى عرض جانبي.
"هل أنت بخير؟" سأل الشخص المجهول بصوت منخفض، لكن نبرته كانت تحمل قسوة لم تعتد عليها آذان هشام. كان صوت الرجل مزيجاً من القلق والقوة، وكأن الكلمات كانت تحاول تفسير الكثير مما يحدث.
"ما الذي يجري هنا؟" حاول هشام أن يسأل، لكن صوته كان ضعيفاً، وكأنه كان يخرج من أعماق بئر مظلم. "من أنت، ولماذا تتبعني؟"
لم يرد الشخص المجهول على الفور. كان ينظر إلى الرمز المحفور في الأرض، وكأنه يحاول أن يفهم شيئاً أعمق. ثم قال، "هذا الرمز ليس من هذا العالم. إنه يشير إلى وجود قوة قديمة تتداخل مع واقعنا. نحن في وسط شيء لا يمكننا تخيله."
كان هشام يحاول أن يستوعب ما سمع. "لكن ما علاقة هذا بي؟ ولماذا تهاجمنا تلك الجماعة؟"
أجابه الرجل، "أنت لم تكن مجرد هدف عشوائي. يبدو أن هناك شيئاً ما يربطك بتلك القوى القديمة. ما رأيته الليلة لم يكن إلا بداية. هناك أحداث أكبر تتشكل، وأنت ستكون جزءاً منها."
انتاب هشام إحساس بالصدمة. كل شيء كان يتجاوز تصوره. "ماذا يعني ذلك؟ وما هو دوري في كل هذا؟"
أجاب الشخص المجهول، "عليك أن تجد الإجابات بنفسك. سأبقى في الظل لمساعدتك عند الحاجة، لكن هذه الرحلة ستكون لك وحدك. ما رأيته من معركة وتهديدات هو مجرد جزء من شبكة أكبر."
ثم اختفى الرجل في الظلام مجدداً، تاركاً هشام وحيداً مع ألغازه. شعر هشام بالارتباك، وكان يعلم أن عليه العودة إلى منزله لمعالجة جروحه وتحديد خطواته القادمة. ومع ذلك، لم يكن قادراً على تجاهل الرمز المحفور في الأرض. كان يبدو كأنه يحمل سرّاً غامضاً.
عاد هشام إلى منزله، وبدأ في معالجة جروحه. كان جسده يؤلمه، لكن عقله كان مشغولاً بالبحث عن أي خيوط قد تربطه بما يحدث. أخذ ورقة وقلماً وبدأ في رسم الرمز، محاولاً فهم معناه. كما كان يحاول التركيز، لاحظ أن هناك تفاصيل صغيرة غير واضحة، وكأن الرمز كان يحمل أكثر مما يظهر للوهلة الأولى.
بعد ساعات من البحث والقراءة، شعر هشام بالإرهاق الشديد، لكنه لم يستطع التوقف. كان يقرأ عن الرموز القديمة والأساطير التي تتعلق بالقوى المظلمة. اكتشف أن هذا الرمز كان مرتبطاً بعبادة قديمة، تحمل معها أساطير عن قوى تتحكم في مصير البشرية.
في خضم بحثه، وجد هشام كتاباً قديماً تحدث عن الطوائف السرية التي كانت تتبع تلك القوى. كانت تلك الطوائف تعرف بقدرتها على السيطرة على الأرواح والأجسام المادية. وكان يعتقد أن تلك الطوائف كانت موجودة في عالمه، وأنهم كانوا يسعون إلى استخدام تلك القوى لتحقيق أهدافهم الخاصة.
أصبح من الواضح لهشام أن هؤلاء الأشخاص، الذين كانوا يلاحقونه، كانوا جزءاً من هذه الطوائف السرية. كانوا يسعون للوصول إلى هدف معين، وكان هشام قد أصبح عنصراً رئيسياً في خطتهم. كان عليه أن يتعامل مع كل هذه المعطيات وأن يحمي نفسه من هذه القوى التي لا يمكن تصورها.
مع مرور الأيام، أصبح هشام أكثر يقيناً بأن حياته لن تكون كما كانت. كل خطوة كان يتخذها، وكل قرار كان يتخذه، كان يتخذ من منطلق الحذر واليقظة. كان يبحث عن طريقة لكشف الغموض وراء الطوائف والقوى القديمة التي أصبحت جزءاً من حياته.
وصل هشام إلى نقطة كان فيها جاهزاً لمواجهة أي تحديات قد تواجهه. كان يعرف أنه لم يكن بإمكانه العودة إلى حياته السابقة، وأن عليه مواجهة هذا المجهول بجرأة وذكاء. كان مصمماً على أن يكشف كل الأسرار التي تحيط به، وأن يضع حداً لهذه القوى التي تهدد وجوده.
أصبح الآن، في قلب الظلام الذي يحيط به، هشام عازماً على كشف الحقائق المخفية وراء الرموز القديمة، والتصدي للقوى التي تسعى للسيطرة على مصيره. كان يعلم أن رحلته لن تكون سهلة، وأن كل خطوة قد تكون مليئة بالمخاطر. ولكنه كان عازماً على أن يكون قوياً، وأن يواجه أي شيء يقف في طريقه.