«أشعر أنّ أحدهم قال شيئًا مزعجًا عني»، تمتمت هيتاغي سنجوغاهارا فجأة.
كان التعليق مفاجئًا وغير مبرَّر إلى حدٍّ جعل قلم الرصاص يتجمّد في يدي فوق دفتري من شدّة الدهشة.
ومع ذلك بدا أنها تتمتم مع نفسها تمامًا، إذ بدّلت الموضوع قائلة:
«ومع ذلك، فالتعليم صعب للغاية».
بعد ذلك عدتُ إلى البيت بصحبة هاتشيكوجي، نتبادل الحديث عن شتّى الأمور، بما في ذلك كانبارو، إلى أن افترقنا حين وصلتُ. كانت تلك الطفلة تتجوال هنا وهناك على الدوام، لذا كنت واثقًا من أنّني سألتقيها مجددًا في مكان ما. ثم، بعد أن نزعت حقيبتي المدرسية، وبدّلت ثيابي، وحشوت كتبي المدرسيّة وملاحظاتي وأدوات المذاكرة في حقيبة بوسطن، استبدلت الدراجة العجوز التي أذهب بها إلى المدرسة بدراجتي الجبلية وانطلقتُ إلى منزل سنجوغاهارا. كانت شقيقتاي قد عادتا بالفعل وكادتا تبدآن استجوابي، لكنني لحسن الحظ تمكّنتُ من الفرار.
كما أخبرتُ هاتشيكوجي، كان منزل سنجوغاهارا بعيدًا نسبيًّا عن منزلي، مسافة لا أسافرها عادةً على الدراجة. لكن استقلال الحافلة يعني في الواقع اضطراري للمشي أكثر، لذا بدا لي أن الدراجة أسرع ــ وهذا شعور ذاتي ــ وبما أنّ هذه هي زيارتي الثانية فحسب إلى منزل سنجوغاهارا، والأولى مباشرةً من منزلي، فلم أكن متيقّنًا تمامًا.
شقق تاميـكورا ــ مبنى خشبي ذو طابقين. الغرفة 201. نحو مئة قدم مربّعة، وحوض غسيل صغير. كان المكان ضيّقًا إلى درجة أنّ اثنين من طلاب الثانوية ذوي البنية المتوسطة، إذا جلسا متقابلين إلى طاولة منخفضة تحيط بها مواد الدراسة، ملآ الفراغ بالكامل. كان المنزل ما يُسمّى بيتًا لأبٍ وحيد، وكانت سنجوغاهارا الابنة الوحيدة، وكان والدها ممسوكًا في العمل حتى ساعة متأخرة من الليل، لذا كنّا بطبيعة الحال وحدنا.
كيوومي أراراغي وهيتاغي سنجوغاهارا. مراهقان يانعان وحدهما في غرفة ضيّقة. رجل وامرأة. وهما رسميًّا على علاقة. حبيب وحبيبة. ومع ذلك...
«...لِمَ أدرس الآن؟» قلتُ. فأجابت: «هم؟ لأنك غبي؟»
«يا لها من طريقة قاسية للتعبير!» كانت محقّة تمامًا. لكن... لم يكن ليضر لو كان ثمة شيءٌ أكثر إثارة يحدث.
بدأنا مواعدتنا في اليوم نفسه الذي تورّطنا فيه مع مايوي هاتشيكوجي، في عيد الأم، الرابع عشر من مايو. مرّ حوالي أسبوعين منذ ذلك الحين، ولن يكون مبالغة القول بأنّ شيئًا ذا طابع جنسي على الإطلاق لم يحدث بيننا خلال تلك الفترة.
………
تمهّل، لم نخرج حتى في موعد واحد بعد، الآن بعد أن فكّرت في الأمر. كنّا نلتقي صباحًا في المدرسة، نتحدّث خلال الاستراحة... نتناول الغداء معًا... ثم نسير معًا في طريق العودة إلى منتصفه... ونقول «أراك غدًا». هذا كل شيء. ذلك ما يفعله الطلّاب الأكثر شعبية، بصرف النظر عن الجنس، إذا كانوا أصدقاء... لا أستطيع القول إنني أتوق بشدّة إلى تطورات جنسية، لكن كان من اللطيف حدوث شيء ما يتوقعه العشّاق فيما بينهم.
«في حياتي حتى الآن، أراراغي، لم أجد صعوبة قط في أي شيء يتعلّق بكلمة ’دراسة‘، لذا ليست لدي أدنى فكرة عمّا يعذّبك أو عمّا علقتَ فيه... لا أفهم ما لا تفهمه».
«هكذا إذن...»
كانت تعرف حقًّا كيف توجّه إليّ كلمات تحبِط عزيمتي. إلى أي حدّ هو الفارق بين قدراتها الأكاديمية وقدراتي؟ هل هو وادٍ سحيق لا يُرى الجانب الآخر منه؟
«هل تتظاهر بعدم الفهم»، سألت سنجوغاهارا، «فقط لتجعلني أضحك؟»
«وكأنني سأكلّف نفسي ذلك... لكنك لم تولدي ذكية، أليس كذلك، سنجوغاهارا؟ أليس بفضل الدموع والعرق تحافظين على موقعك قرب قمة الصف؟»
«أتظن أنّ هذا ما يقلق الأشخاص الذين يعملون بجدّ؟»
«...حسنًا».
«أوه، لكن لا تفهمني خطأ. هناك أشخاص لا تؤتي جهودهم ثمارها أبدًا، أو حتى لا يعرفون كيف يبدأون العمل بجدّ، مثلك، وأنا أشفق عليهم».
«من فضلك لا تشفق علينا!» — «إنني أُصاب باليأس من أجلك».
«غ-غاه! هل القاعدة أن كلما رديتُ بنكتة تزدادين قسوة؟! حتى التوسّل بالرحمة خطوة خطرة!»
يا للعبة العجيبة التي كنّا نلعبها.
«لا يوجد عشبة تحمل هذا الاسم حقًا»، قالت، «لكن ’صغار السمك‘ نوع حقيقي من الأسماك...»
«ولا يوجد مثل هذا السمك أيضًا!»
«لا توجد عشبة بهذا الاسم، لكن هناك أناس يحملونه...»
«فقط إذا كان الآخرون يصفونهم به!»
«على أية حال، أشعر بالدافع لأن مساعدتك على اجتياز اختبار المهارات هذا سيتيح لي أن أتقدّم خطوة أخرى كشخص».
«لا تتعاملي مع علاماتي وكأنها طقس عبور بالنسبة لك... وهناك أشياء أخرى عليكِ الاهتمام بها أولًا إذا أردتِ أن تنمو شخصيتك».
«اصمت. لقد خنقتك حتى الموت».
«بزمن المضارع التام؟! أأنا ميتٌ بالفعل؟!»
ربما كان جعلها تدرّسني خطأً... همم، هل كان ينبغي أن أطلب من هانيكاوا فحسب؟
على أيِّ حال، رغم احتجاجاتي أمام هاتشيكوجي، كان عليّ الاعتراف بدافع لطيف إلى حدٍّ يبعث على الخجل حتى من تسميته خفيًّا؛ وهو أنّ شيئًا ما قد يحدث إذا كنتُ وحدي مع سنجوغاهارا في منزلها... رفعتُ بصري عن ملاحظاتي لأتفرّسها. بدت غير مبالية كعادتها. لم يتغير تعبيرها قط. لم تكن لتكشف لي وجهًا خاصًا لا تُريه لأحد غيري فقط لأننا نتواعد... من هذه الناحية، لم تكن تسونديري البتة. ولم يتغيّر موقفها قيد أنملة كذلك. همم. أم أنني أبالغ في توقعاتي، كما أفعل عادةً؟ كنتُ أتصوّر بشكل مبهم أن الأحاديث تصبح أكثر خصوصية حالما تبدأ المواعدة، لكن ربما لا يتغيّر ما تتحدث عنه مع الآخر كثيرًا أيًّا كانت العلاقة؟ هل كانت أفكاري عن حديثٍ مُسكر بين العشّاق مجرد خيال أحمق؟
.........
على الأرجح. في ضوء تجارب سنجوغاهارا، الأحداث التي جعلت هيتاغي سنجوغاهارا ما هي عليه ــ كان لديها بالتأكيد مفاهيمها حول العفّة وما إلى ذلك، لكن بعيدًا عن ذلك، من المرجَّح أنها كانت راضية عن الحالة الراهنة لعلاقتنا. كانت قد أخبرتني أنّها لا تحب «الشراكات الصامتة». وبما أنّها قالت ذلك، فعلى الأرجح أنّها لا تحبها حقًا.
...لا. مع ذلك... كان من الصعب تخيّل أنّ سنجوغاهارا لا تشعر بشيء في هذا الوضع. ففي المرّة السابقة التي زرتُ فيها شقق تاميكورا تطوّر الأمر بطريقة أكثر جنسية بكثير... ولم تكن جاهلة بالعالم إلى درجة ألا تفهم ما يعنيه أن تدعو حبيبها المزعوم إلى بيتها دون وجود وليّ أمر... وعندما نظرتُ إلى الأمر من هذه الزاوية، بدا أنّ سنجوغاهارا بذلت بعض الجهد في الزيّ الذي ترتديه وهي جالسة قبالتي عبر الطاولة المنخفضة، لكن التنّورة الطويلة جدًّا علقت في ذهني. كانت ساقاها العاريتان بلا جوارب، لكنني بالكاد استطعت رؤيتهما بسبب تلك التنّورة الطويلة. شعرتُ أنّ ما زرعته في لباسها هو الحذر لا التأنّق.
فُو. أو لعلّ الدور يقع عليّ كالرجل لأُبدي بعض المبادرة؟ بطبيعة الحال، لم أخرج مع فتاةٍ من قبل، لذا بالكاد كنت أعرف كيف تبدو المبادرة أساسًا.
«ما الأمر، أراراغي؟ توقّفتَ عن الكتابة». — «لا شيء... كنتُ أفكّر في معدل التحدّي المرتفع». — «لكن هذا ليس صعبًا إلى هذا الحد. ماذا سأفعل بك؟»
دون أن تبدي أدنى اهتمام باستجلاء مزاجي، رمقتني سنجوغاهارا بنظرة استهجانٍ تامّ. بدا أن عينيها اعتادتا توزبع الاستعلاء. ثم تمتمت بأسى: «أظن أنّ هذا هو الحال».
«هاه؟ مهلاً، سنجوغاهارا، أنتِ تضعين قلمك الميكانيكي جانبًا كما لو أنّكِ ضقتِ ذرعًا وتبثّين جوًا متعبًا، لكن هل التخلي عني خيار متاح لك؟»
«لن أقول إنه ليس كذلك»، صرحتْ. «ستون لأربعين... لا، سبعون لثلاثين ربما؟» — «أيًّا كان جانب السبعين، فهذه نسبة واقعية بشكل مقلق...»
كان سيهون عليّ الأمر لو قالت تسعين لعشرة. حقًّا، أيهما كان جانب السبعين؟
«أنا في حيرة، كما ترى. المحاولة والفشل ستؤذي كبريائي أكثر من عدم المحاولة والفشل».
«أرجوكِ لا تتخلّي عني...»
إذا فعلتِ، سأضطر لطلب المساعدة من هانيكاوا في النهاية. وفي نهاية المطاف، لم يكن ذلك شيئًا أرغب فيه.
«حسنًا، إذا بلغتَ هذا الحد، فلن أتخلّى عنك». — «حقًّا ستساعدينني كثيرًا». — «لا على الإطلاق. أقبل جميع القادمين ولا أترك أحدًا يرحل». — «يا لها من فلسفة مرعبة!»
«لا تقلق. ما دمتُ أفعل هذا، فقد أموت وأنا أفعله».
«لا داعي لأن تموتي! ربما يكفي أن تُنهكي نفسك! ما الذي تخططين له بحق الجحيم؟!»
«...ثم مجددًا، أراراغي. أظن أنك جيد في الرياضيات على الأقل؟» — «هاه؟ أوه، نعم».
كيف عرفت؟ قبل أن أوجّه السؤال إليها، قالت سنجوغاهارا: «هانيكاوا أخبرتني». كان ذلك منطقيًّا، فهانيكاوا تعرف درجاتي أفضل من أيّ شخص.
«همم»، تمتمتُ. «لم أظنّ هانيكاوا من النوع الذي يتحدث عن درجات الآخرين».
«أوه، ربما لم أصغ الأمر جيدًا. لقد كنت أتسمّع خلسة عندما كنتما تتحدثان أنت وهانيكاوا في ذلك اليوم».
«...لم تصيغي الأمر جيدًا بالتأكيد».
كان السماع بالنقل سيئًا بما يكفي، وها نحن نصل إلى التنصت. ــ «أترى ذلك؟» ردّت سنجوغاهارا ببرود. كانت حقًّا صعبة المراس.
«أُبلِي بلاءً حسنًا في الرياضيات لأنها ليست كلّها حِفظ»، شرحتُ. «أليست الصِيَغ والمعادلات أشبه بالحركات الخاصة؟ شعاع فائق أو كاميها ميها أو شيء من هذا القبيل. لو أنّ باقي المواد لديها ما يشبهها أيضًا...»
«لو كانت الأمور بهذه السهولة، لما عانى أحد. لكن بعيدًا عن تعلّم المواد ذاتها، هناك تقنيات مجرّبة وموثوقة، وإن لم تكن حركات خاصة، عند الاستعداد للاختبارات». تناولت سنجوغاهارا قلمها الميكانيكي مجددًا. «إحداها محاولة تخمين ما سيأتي في الاختبار، وهو أمر لا ينبغي أن تعتاده لأنه أشبه بالمقامرة. وعلى الرغم من أنني لا أوصي به عادةً، قد تكون الإجراءات المؤقتة خيارنا الوحيد في هذه المرحلة. في النهاية، ما عليك سوى تجنب الحصول على تقدير F. إذا افترضنا أنّ خطّ القطع هو نصف متوسط الدرجات...»
شرعت تكتب أرقامًا في دفترها على عجل. متوسط الدرجة المتوقع، ورقم يساوي نصفه. كان عليّ الاعتراف بأنه عندما عرضت الأرقام بهذا الشكل بدت في متناول اليد ــ باعتبارها علامتي الكاملة، أعني.
«في المواد التي تعتمد على الحفظ، يملك المعلمون ’أسئلة لابدّ من طرحها‘، لذا علينا أن نوجّه أنظارنا إليها. بعبارة أخرى، سنتبع نهجًا مركزًا بالليزر بدل التخمينات العشوائية. لا تريد أن تغرق في أسئلة لا تستطيع الإجابة عنها فتفوّت فرصة الحصول على نقاط من الأسئلة التي يمكنك حلّها. هل تفهم ما أقوله حتى الآن، أراراغي؟»
«...نعم، أفهم».
ومع ذلك، فإن التلاميذ الأذكياء يرون الاختبارات بطريقة مختلفة تمامًا... لم يخطر ببالي قط عقل المعلّم أثناء إعدادها. في الواقع، ربما فعلتُ ذلك في الإعدادية حين كنتُ أحصل على درجات لا بأس بها... لكن ذلك بدا فيلًا منسيًّا. في أيام الإعدادية. لا أحنّ إلى تلك الأيام على الإطلاق.
«إذًا»، قالت سنجوغاهارا، «لنبدأ بمادة سهلة. التاريخ العالمي». — «التاريخ العالمي مادة سهلة؟»
«نعم. كل ما عليك هو حفظ المصطلحات المهمة كلها».
«......»
«لكن كما قلت، لن أتوقع منك حتى هذا القدر. ومع ذلك، أراراغي. ربما ستنجح في اختبار المهارات هذا إن بدأت الدراسة الآن بمساعدتي، لكن ما الذي تنوي فعله بعد ذلك؟»
«بعد ذلك؟»
«بعد أن تتخرج»، ردّت سنجوغاهارا مُشيرة بطرف قلمها الميكانيكي نحوي.
«بعد أن أتخرج... هذا مفاجئ قليلًا».
«أنت في نهاية الشهر الثاني من سنتك الأخيرة في الثانوية. لا بد أنك فكرتَ في الأمر ولو قليلًا. أعلم أنك قلت شيئًا من قبيل أنك لا تهتم إلا بالوصول إلى التخرج، لكن هل يعني ذلك أنك ستجد عملًا فورًا؟ هل لديك خطة ملموسة ما؟ علاقة أو موطئ قدم في شركة ما؟»
«أم...»
«هل ستكون موظفًا مؤقتًا في البداية؟ أم لعلّك ستغدو عاطلًا مقيمًا في البيت؟ لا أحب أيًا من هذه المصطلحات لأنها تبسّط قضية حقيقية تبسيطًا مفرطًا، لكن بالطبع آراؤك ورغباتك أنت أولى. آه، لكن أظن أنه يمكنك دائمًا تعلّم حرفة في مدرسة مهنية كبداية؟»
«من أنتِ، أمي؟»
لقد دخلت في التفاصيل حقًّا. لن يستخلص مني جوابًا أن تُمطرني بكل هذه الأسئلة... أما كان باستطاعة سنجوغاهارا أن تدرك أني بالفعل غارق في اختبار المهارات الذي يحدّق بي؟
«أمك؟ عن أي شيء تتحدث. أنا حبيبتك».
«......»
الرد المباشر. حركتها الخاصة. من ناحية، كان ذلك أشد فتكًا حتى من لسانها اللاذع. بالنسبة لي على الأقل.
«بعد أن أتخرج... هممم. أنتِ محقّة، عليّ أن أقرّر قريبًا. حسنًا، ماذا عنك أنتِ، سنجوغاهارا؟»
«الجامعة. على الأرجح بترشيحٍ ومنحةٍ دراسية.»
«…فهمت.»
«هل كان قولي “على الأرجح” متواضعًا أكثر من اللازم؟»
«بحسب معاييرك، نعم.»
«على كلٍّ، الجامعة.»
«الجامعة، هاه.»
قالتها وكأن الأمر بديهي؛ ولعلّه كذلك بالنسبة لها. ومثلما حدث مع ما قالته من قبل، سيظلّ هذا لغزًا يلازمني ما بقيت حيًّا إن لم أدركه الآن؛ إذ كنتُ أتساءل: ما شعور الإنسان الذكي حين يكون ذكيًّا؟
وأضافت: «قضية الرسوم الدراسية تضيّق خياراتي بلا شك. قد يكون قول “لحسن الحظ” تقليلًا من الشأن، لكن ليس هناك شيء بعينه أطمح إليه، لذا أترك هذا الطريق يقودني.»
«حسنًا، أيًّا كان المكان الذي تذهبين إليه ستظلين أنتِ أنتِ.»
«صحيح. لكنني»، قالت سنجوغاهارا، «أودّ أن أسلك الطريق نفسه الذي ستسلكه إن استطعت.»
«آه… هذا أمرٌ قليلُ الصعوبة…»
سعدتُ حقًّا بسماع ذلك، لكن قوانين الفيزياء نفسها تكاد تحظر الأمر…
أومأت سنجوغاهارا: «الجهل جريمة، أمّا الغباء فليس كذلك. ولأنه ليس جريمة، فهو عقاب. لو أنّك كنتَ أكثر فضيلةً في حياتك السابقة مثلي، أيها المسكين أراراغي، لما آل بك الحال إلى هنا.
والآن أدرك تمامًا شعور النملة وهي ترى الجرادة تتجمّد حتى الموت. جعلتَني أُشبه نفسي بحشرة، وذلك إنجاز ليس هيّنًا، تذكر!»
«……» تحملْ…
فأي ردٍّ لن يزيد السكين إلا غرسًا…
«لِمَ لا تترك الأمر وتموت فحسب؟ حتّى الجرادة تصبح نافعةً حين تتلطف النملة فتغتذي بما في جثتها من غذاء.»
«في المرة القادمة سنلتقي في المحكمة!» لم أستطع الاحتمال.
تنقصني الصلابة الذهنية اللازمة.
«تقول هذا، سنجوغاهارا، لكن انشغال كلٍّ منّا بشيء مختلف بعد التخرّج لا يعني بالضرورة ألّا نسير في الطريق نفسه، أليس كذلك؟»
«صحيح. معك حق تمامًا. لكن ماذا لو تغيّر قلبي فجأة في الجامعة لأجل حفلات المزج المختلطة طوال الوقت؟ ماذا أفعل عندها؟»
«مستعدة تمامًا للاستمتاع بحياة الحرم إذن؟!»
«في هذه الحال، ما رأيك أن نعيش معًا بعد التخرج؟» اقترحتها بلا مبالاةٍ تُذكر. «بهذا، حتى لو انشغل كلٌّ منّا بأمر مختلف، قد نقضي وقتًا أكثر مما نفعل الآن.»
«حسنًا… ليست فكرة سيئة.»
«فكرة غير سيئة؟ نبرتك لا تعجبني.»
«…نعم، أودّ ذلك. فلنفعل.»
«أترى؟»
ثم عادت ببصرها إلى كتابها المدرسي بأكثر الأساليب تجرّدًا من الادّعاء. بدت لا مبالية، وقد جعل توقيت عبارتها الأمر يكاد يبدو هزليًّا، لكن حتى شخصًا غافلًا مثلي أدرك أنّها ليست من تمزح في مثل هذه اللحظات.
هذه هيتاغي سنجوغاهارا التي أتعامل معها.
…على أيّ حال، يبدو أنها تفكّر خطوتين إلى الأمام.
وربما يجب عليّ أن أعتبر ذلك علامةً على جديّتها في علاقتنا؛ فقلّة من ثنائيات المدرسة الثانوية تأخذ المواعدة بجدّيتها.
المواعدة، إذن. ما معناها؟
إنها وعدٌ شفهي بلا سندٍ ملموس. تنهد.
الأمر سيئ. لم أخرج مع فتاة من قبل، فلا أعرف كيف أبادر، ولا كيف أتصرّف في وضعي الحالي.
لا خيط يدلّني.
ربما كان عليّ أن ألعب بعض ألعاب المواعدة؛ على الأقل كانت ستشكّل مرجعًا.
لكن هزيمة لعبةٍ شيء، بينما «إتمام» الواقع أمر مستحيل.
«تتنهد كثيرًا يا أراراغي. أتعلم أنّ سعادة صغيرة تفلت في كل مرة تتنهد فيها؟»
«إن صحّ ذلك، فسأقيس خسارتي بالـK’s…»
«كم منها أفلتَ لا يعنيني، لكن أتمنى ألا تتنهد بقربي. يُصيبني بالغثيان.»
«أنتِ فظيعة.»
«ما أعنيه هو غثيان الحب.»
«لا أعرف حتي كيف ارد علي هذا بصفتي رجل سوي ...»
فخ بارع بالفعل , رجل سوي ..هه..
«بالمناسبة، أراراغي»، قالت سنجوغاهارا، «لم أُنهِ علاقةً مع فتىً من قبل.»
«……»
لا، هنا يتجلى أثر الألفاظ؛ بدا وكأنها فتاة مخضرمة ذات عشاق كُثُر، لكنها في الواقع تعلن أنّها لا تملك أي خبرة سابقة مع الرجال.
«ولذلك»، استأنفت، «لا أنوي أن أنفصل عنك أيضًا.»
ظلّ تعبيرها هادئًا؛ لم يتحرّك حاجب. جعلني أتساءل هل تملك مشاعر أصلًا. لكنها لا بدّ تفكّر في الأمر.
سنتان.
منذ الفترة الانتقالية بين الإعدادية والثانوية، حين لم تكن هذه ولا تلك ولا حتى إجازة، تهرّبت هيتاغي سنجوغاهارا من كل تواصل بشري. لو أنّها نسيت كيفية التعامل مع الآخرين، أو أصبحت مفرطة الحذر أو الخجل، لما أمكن لومها؛ كان الأمر أشبه بقطّة شاردة حذرة ─ مع أنّ هانيكاوا أنسب للقطط.
ربما لا أحدَ منّا يعرف كيف يبادر. «…هيه، سنجوغاهارا؟»
«ماذا؟»
«هل ما زلتِ تحملين الدبّاسات وما شابه؟»
«الآن وقد ذكّرتني… ليس في الآونة الأخيرة.»
«آه.»
«لابد أنني أصبحتُ مهملة.»
«إهمال، هاه؟»
حسنًا… يمكن اعتبار ذلك تقدمًا.
ليس تغييرًا يكفي لجعلها تسونديري، لكن لو كان هذا طبعها ─
…بالمناسبة، عن سنجوغاهارا قبل عامين ─
«ألم تكوني نجمة فريق الجري حين كنتِ في الإعدادية؟» سألتُ.
«صحيح.»
«ولا تمارسينه الآن؟»
«صحيح. لأنه لا سبب يدعو لذلك.» أجابت فورًا. «لا رغبة لي في العودة لتلك الفترة من حياتي.»
«همف…»
على ما يبدو، كانت سنجوغاهارا شخصًا طيبًا اجتماعيًّا، لطيفةً مع الجميع، مجتهدةً، متواضعةً، ونجمةً محترَمة في فريق الجري بالإعدادية ─ مرحةً مفعمةً بالطاقة. مجرد إشاعة، لكني وجدتها وجيهة.
كل ذلك تبدّل قبيل الثانوية.
وبعد عامين، عاد معظم ما تغيّر إلى طبيعته. عاد ─ لا كل شيء بالطبع. لا سيما إن كانت هي لا ترغب.
«لا أرى حاجةً أو ضرورة، وفوق ذلك، لا فائدة تعود عليّ الآن يا أراراغي؛ فهناك الكثير أحمله معي هذه الأيام. ثم أنا الآن في السنة الثالثة. لكن لماذا تسأل؟»
«أوه، اهتممتُ فقط بما كنتِ عليه حين تمارسين الرياضة… ونعم، مع هذا الانقطاع أفهم لماذا لا تكلفين نفسك العناء.»
كما أنّ القطط تعني تسوباسا هانيكاوا، صارت الرياضة مرادفًا لسوروغا كانبارو بالنسبة لي، فسألت وكنتُ أفكّر بها، لكن… هكذا تسمى الإجابة الجافة.
يمكن القول إنّ سنجوغاهارا تنظر للأمام ─ لكن هل رفض النظر إلى الوراء هو نفسه التطلّع للأمام؟
بدأتُ أعتقد أنّ سنجوغاهارا ما تزال…
«لا تقلق»، قالت. «لا أحتاج إلى الرياضة للحفاظ على قوامي.»
«…هيه، ليس لهذا سألت.»
«لقد جذبتك هذه الأطراف المرنة الهادئة التي لم تعرف الانفصال قط، أليس كذلك؟»
«كفّي عن افتراض أنكِ جسدٌ ألاحقه!» وتعبير «الأطراف الهادئة» هذا… مبالغ به قليلًا.
«أوه، إذن لم يكن جسدي؟» سألت ببراءة. «أظن أنّ هذا يعني أنك تستطيع الانتظار قليلًا.»
أهذا ما أرادت قوله؟
إن كان كذلك، فالأمر ملتفٌ للغاية ─ ومخادع على نحو غير معهود عن صراحتها.
العفّة، هاه؟
لكن لا بد أن الأمر أعمق من ذلك.
«أراراغي، أعلم أنك لست ذاك الوغد البخيل عديم الخجل الذي يدفع ثمن بوفيه مفتوح ثم يتساءل ما إذا كان قد ’أكل بقيمته‘ ويندفع ليجرب ’قليلًا إضافيًا كي لا يضيع المال‘ مع أنّ السعر ثابت على كل حال.»
«……»
لم أدرك تمامًا ما الذي ترمي إليه مجازاتها، لكنها لا بدّ حركة التفافية…
إنها خجولة مع الناس. حذِرة في علاقتها بي. حسنًا، أنا مستعد للمضي مع ذلك.
ما زلت لا أفهم تمامًا معنى «المواعدة» معها، لكن طالما أفعل ذلك، فسأمضي مع كل جوانبها.
«…أوه، صحيح»، تذكرتُ ─ ورأيت أنّ عليّ إبلاغ سنجوغاهارا بشأن سوروغا كانبارو. لم أتكتّم حرصًا على ألا أقلقها بلا طائل، بل تجنبًا لإزعاجها؛ لكن بعدما فسّرتُ دوافع كانبارو على ضوء وجهة نظر هاتشيكوجي الطفولية جدًا واحتمال ضئيل لصحّتها، بدا حجب الأمر عن ’حبيبتي‘ المفترضة غير منصف.
وكانت كانبارو تلوح في ذهني قبل لحظات. هناك شيء يثير فضولي أيضًا.
«هيه، سنجوغاهارا.»
«ماذا؟»
«هل تعرفين سوروغا كانبارو؟»
«……»
ردّت بصمت. أو بالأحرى، لم تردّ.
فيما يخص العدل، سؤالي نفسه ربما لم يكن منصفًا ─ فمَن لا يعرف نجمة المدرسة، سوروغا كانبارو؟ حقيقة أنها تتعقّبني ستصبح شائعة في بداية الأسبوع المقبل على أبعد تقدير، إن لم تكن قد انتشرت بالفعل. وسأطمئن لأنها ستُصنَّف شائعةً كاذبة ─ لكن لهذا بالذات اكتسب سؤالي دلالة غريبة. كنتُ أتحمّل الصمت الذي جلبته وأمنع نفسي من المتابعة حين ─
«نعم»، قالت سنجوغاهارا، «سوروغا كانبارو. هذا الاسم يعيد لي الذكريات.»
«…أوه.»
إذن فهما متعارفتان. توقعتُ ذلك.
حين ذكرتُ جلسة المذاكرة، سمّت كانبارو سنجوغاهارا مباشرةً لا هانيكاوا ذات أعلى الدرجات في دفعتنا ─ ولم يكن هذا كل شيء؛ فقد التقطت الإشارة نفسها من تعليقات أخرى لها. أما احتمال هاتشيكوجي فقد غاب عني بسبب شعوري الواضح بأن كانبارو لا تلاحقني أنا، بل غاية أخرى ─
«ألهذا سألتني عن الإعدادية قبل قليل؟» أضافت سنجوغاهارا.
«نعم، كانت تلميذتي الصغيرة في الإعدادية.»
«ما زالت كذلك. أنتما في المدرسة ذاتها، أليس كذلك؟ أو انتظري، أتعنين أنّ تلك الفتاة كانت في فريق الجري بالإعدادية؟»
«لا، كانت في فريق كرة السلة منذ الإعدادية. ’تلك الفتاة‘… تبدو على قرب وثيق منها.»
في لحظة، تحوّل بريق عيني سنجوغاهارا إلى عداء. عينان خاليتان عادةً من أي شعور، تألّقتا الآن بخطر. ولم تنتظر ثانيةً لترى إن كنت سأقدّم تفسيرًا، بل أخذت قلمها الميكانيكي بيمينها وطعنته نحو عيني اليسرى بسرعة مروّعة. أول رد فعل لي كان الابتعاد، لكن حتى وهي تحرّك يدها اليمنى، تسلّقت الطاولة المنخفضة على ركبتيها، غير عابئة بالأوراق المبعثرة، وأحاطت مؤخرة رأسي بيدها اليسرى لتمنعني.
كانت سن القلم قريبةً من عينــي بدرجة يُعدّ القول إنها توقفت قبل لمسها ضربًا من العبث؛ قريبة بحيث لم أستطع طرف الجفن، فتجمّدت في مكاني. بل وتساءلتُ إن كانت يدها اليسرى خلف رأسي لفتة رحيمة تُثبِّتني كي لا أفسد دقتها، إلى هذا الحد كان المشهد محكمًا.
…هـ-هيتاغي سنجوغاهارا.
لستِ تحملين دبّاسة الآن، لكنك لم تتغيّري قيد أنملة!
«ما أمر تلك الفتاة يا أراراغي؟»
«……!» مهلاً!
ألهذه الدرجة تشعر بالغيرة؟!
أمر مضحك تقريبًا مدى حماستها… وكيف بدا لي أننا مقرّبان أصلاً؟ لم أقل سوى «تلك الفتاة» عن تلميذةٍ أصغر. أهذا عقابي لمجرد معرفتي فتاة أخرى دون علم سنجوغاهارا؟ ماذا ستفعل بي لو خنتها حقًا؟
رغم فظاعة الموقف، شعرتُ بالارتياح لأني قرّرت إخبارها مبكرًا.
حمداً لله ─ تعرّفتُ إلى هذا الجانب من سنجوغاهارا في قضية أملك لها أعذارًا وفيرة!
«أنت تشفى من الإصابات بسرعة خارقة، أليس كذلك؟ إذن عين واحدة لن تكون سيئة للغاية، صحيح؟»
«توقفي، لا! لا، العين ستظل سيئة! لا ذنب هنا يجعلني أشعر بالعار، ولا أرى أننا مقربان البتة، أنتِ الفتاة الوحيدة في حياتي يا سنجوغاهارا!»
«أوه، حقًا؟ يعجبني وقع تلك الكلمات.»
ثم سحبت القلم الميكانيكي. دارت به مرتين في كفها، وضعته فوق الطاولة، وأعادت ترتيب الأوراق والكتب المتناثرة. حاولتُ تهدئة قلبي الذي ما زال يخفق بعنف وأنا أرقبها.
«ربما تحمّست قليلًا. هل أفزعتك يا أراراغي؟»
«…ستقتلين أحدًا يومًا ما، تعلمين ذلك.»
«وحين أفعل، سأتأكد أن يكون أنت. ستكون أول رجل لي، ولا أختار سواك. أعدك.»
«لا تطلقي عبارات مخيفة وكأنها كلمات حب! أحبك، لكن ليس حدّ أن تقتليني!»
«أن تُحَب حتى الموت، أن يقتلك من تحب… هل هناك موتٌ أروع؟»
«أفضل أن أتنازل عن هذا الحب الملتوي!»
«حقًا؟ هذا مؤسف. ولا أصدق أنك تقول ذلك. لو كان بيديك يا أراراغي ─»
«لن تمانعي أن أقتلك؟»
«…هم؟ آه، حسنًا، ربما؟»
«يا لها من إجابة مبهمة!»
«أم، أظن أنني سأمانع؟»
«تليها ممانعة مبهمة!»
«ما المشكلة الكبرى؟ تقبلْ الأمر كما هو. لو قَتلتك يا أراراغي، سأكون إلى جانبك في لحظاتك الأخيرة. أليس هذا رومانسيًّا؟»
«كلا. إن كان عليّ أن أُقتل، فأنت آخر من أختاره قاتلًا. أيًّا كان من سيقتلني وبأي وسيلة، فهو أهون من أن تقتليني أنتِ.»
«ماذا؟ لن أسمح بهذا. إن قتل أحدهم أراراغي، فسأقتل من قتله. أليست الوعود وُجدت لتُنكث؟»
«……»
حبّها معوّج بالفعل.
ومع ذلك شعرتُ بحبها…
«على أي حال، كنا نتحدث عن كانبارو.» تنحّت سنجوغاهارا عن مسار حديثنا المرعب وأعادته إلى سكته المعهودة ببراعتها المعتادة. «رغم أننا مارسنا رياضتين مختلفتين، كنتُ نجمة فريق الجري وكانت هي نجمة كرة السلة. ورغم اختلاف سِنّينا، كان بيننا تواصل ─ وأيضًا.»
«وأيضًا؟»
«حسنًا، لا يستحق الذكر الآن، لكن في حياتنا الخاصة بعيدًا عن الرياضة، يمكن القول إنني سبّبت لها بعض المتاعب، أو ربما أتعبت نفسي بسببها… انتظر، أراراغي.» حوّلتْ دفة الحديث إليّ. «ما ينبغي مناقشته الآن هو سبب إحضارك لأمر تلك الفتاة. إن لم تكن مذنبًا بشيء، فلن تمانع الشرح.»
«ب-بالطبع.»
«وطبعًا، إن كنت مذنبًا، سأجعلك تشرح على أي حال.»
«……»
قد تقتلني سنجوغاهارا فعليًّا لو حاولتُ إخفاء أسرار عنها، لذا أخبرتها أن سوروغا كانبارو تتعقّبني منذ ثلاثة أيام. طالبةٌ في السنة الثانية تركض نحوي بخطى سريعة متناغمة تب تب تب تب تب، تهذر قليلًا، ثم ترحل دون أن تفصح عن أي هدف ─ سوروغا كانبارو. لا بد أن لديها هدفًا، لكني أجهله.
وأنا أشرح ذلك، بدأتُ أفكّر.
كانبارو على الأرجح تختار لحظات غياب سنجوغاهارا لتقترب مني. باستثناء اليوم الذي ركضت نحوي فيه رغم وجود هاتشيكوجي، كانت في الأساس تترصّد خلوّ طريقي. أي إنّ جهل سنجوغاهارا بالملاحقة حتى الآن لم يكن محض صدفة.
وبدأتُ أفكّر في أمر آخر.
أليست سنجوغاهارا هي من تشير إلى كانبارو بلهجة ودّية؟ مناداتها «تلك الطفلة» رغم أنها كانت في سنة لاحقة بالإعدادية يبدو ودودًا أكثر مما يلزم ─ أو ربما مجرد أسلوب تعبير.
ومثلما لا تظهر عواطف سنجوغاهارا على وجهها، لا تتسرّب إلى صوتها؛ فكل ما تقول يُلقى بنبرة مسطّحة تقريبًا. ترتعش حين تفكر في قوة الإرادة التي تبذلها لضبط نفسها.
لكن ─ تلك الطفلة.
«أفهم»، أومأت سنجوغاهارا أخيرًا بعد سماع معظم القصة. نعم، ما زالت بنفس التعبير والنبرة. «أمْ، أراراغي؟»
«ماذا؟»
«ما هو مُغرَقٌ في أعلاه ومتأجّج في أسفله؟»
«…»
لِمَ اللغز فجأة؟
تساءلتُ متى صارت من طراز الشخصيات التي تطرح الألغاز، فقررتُ مجاملتها. لحسن الحظ أعرف إجابة هذا: «إنه القدر، صحيح؟»
«خطأ. الإجابة الصحيحة»، أوضحتني سنجوغاهارا بنفس النبرة، «هي بيت سوروغا كانبارو.»
«ما الذي تنوين فعله بمنزل نجمة كرة السلة في مدرستنا؟!»
الآن شعرتُ بالرعب فعلًا! عيناها ساكنتان تمامًا!
«دعك من المزاح»، قالت.
«مزاحك ليس مزاحًا عندما يمكن أن تطبّقيه.»
«حقًا؟ لكن بما أنك تُصرّ، يا أراراغي، سأجعل نكاتي غير عملية.»
«هذا هو الطبيعي فحسب…»
«اكتشفت كانبارو سرّي قبل عامٍ منك»، أخبرتني سنجوغاهارا وكأن الأمر لا يستحق الذكر ─ بنبرتها المعتادة، مع مسحة ضجر. «كنتُ قد صرتُ تلميذة في السنة الثانية، أي مباشرةً بعد أن التحقت كانبارو بمدرسة ناويتسو. وبالنظر إلى موقع المدرسة، توقعتُ مسبقًا قدوم تلميذة تعرفني، ففكرتُ فيما سأفعله ─ لكن مع كانبارو، يبدو أنني تهاونت قليلًا.»
«هاه.»
هيتاغي سنجوغاهارا.
السرّ الذي حملته ─
عرفته حين أمسكتُ بها بعد أن عثرت على الدرج ─ بالمصادفة، إن صحّ القول. وعلى الجانب الآخر، يمكن القول إنّ سرّها هشّ إلى درجة أن مجرد مصادفة تكفي لفضحه. في الواقع، أخبرتني سنجوغاهارا أنني لستُ أول من يعرف ─ إذن كانبارو…
ومع معرفتي بشخصية كانبارو.
«أراهن أنّ تلك الفتا… كانبارو حاولت إنقاذك أو ما شابه، أليس كذلك؟» «بلى، هذا صحيح. غير أنّني رفضت»، أجابت سنجوغاهارا بهدوء، كأنّ الجمع بين هاتين العبارتين تركيبٌ مألوف، أو قاعدة نحوية راسخة. «عاملتُها بالطريقة نفسها التي عاملتُك بها. أنت أصررت على التدخّل يا أراراغي، أمّا كانبارو فلم تعد بعد ذلك قط. ذلك كلّ ما بلغته علاقتنا.» «…لم تعد أبداً.» إذن كان ذلك قبل عام. لا بدّ أنّ الرفض كان حاسماً. بل أشدّ بكثير ممّا جرى معي، لأنّ كانبارو كانت تعرف ماضي سنجوغاهارا كنجمة عدوٍّ في الإعدادية معرفةً جيدة. وإلّا – وبحكم طبيعتها – لما استسلمت دون قتال. أتذكّر أنّ سنجوغاهارا قالت، في ثامن مايو، حين اكتشفتُ سرّها، إنّ الشخص الوحيد الذي كان يعلم به – سواي – هو الممرّضة هاروکامي. ذلك «حينئذ». أي أنّ سوروغا كانبارو لاحظت سرّها في زمنٍ مضى، لكن سنجوغاهارا أرغمتها على نسيانه؛ إحدى الضحايا… لا، إحدى الخسائر. لكن هل أمكن كانبارو – من دون الناس – أن تنسى سنجوغاهارا فعلاً؟ «…كنتُما صديقتين، أليس كذلك؟» «نعم، في الإعدادية»، أقرت سنجوغاهارا. «أما الآن فمختلف. نحن غريبتان تمامًا.»
«لكن حالتك… تغيّرتِ عمّا كانت عليه قبل عام. أعني أننا أزلنا سرّك ذاك، فـ…» «ألَمْ أقل لك تواً، يا أراراغي؟» قاطعتني. «لا أنوي الرجوع إلى أيٍّ من ذلك.» «……» «هكذا قرّرت أن أحيا حياتي.» – «آه…» حسن. إن كان هذا قرارها بشأن حياتها فليس لي أن أتدخّل – هكذا تقول البداهة غالباً. ثم إنّ سنجوغاهارا ليست ممن يمدّ يد المصالحة لمن رفضتهم بقسوة، لمجرّد أنّ حالتها أصبحت من الماضي. «ومع ذلك…» قلت. «فهمتُ علاقتك بكانبارو، لكن ذلك لا يفسّر سبب تعقّبها لي، أليس كذلك؟» «لا بدّ أنها علمت بأننا نتواعد. بدأنا المواعدة قبل أسبوعين، وبدأ التلصّص قبل ثلاثة أيام، لذا يبدو التوقيت منطقياً.» «ماذا؟ تعني أنها تريد معرفة نوع الشاب الذي يصير حبيب هيتاغي سنجوغاهارا… فتفحصني؟» «أظنّه شيئاً كهذا. آسفة للإزعاج يا أراراغي. لن أبحث عن أعذار. الذنب ذنبي لعدم قدرتي على تصفية علاقاتي.» «تصفية…» يا للكلمة.
ومع معرفتي بها، لم تبدُ مجازاً حتى. «لا تقلق»، طمأنتني. «سأتولّى المسؤولية عن—» «لا! لا تتحمّلي المسؤولية! الله أعلم ما تقصدينه بذلك! الأمر تافه، مشكلتي أنا وسأتدبّرها!» «لم الخجل؟ لا تكن متحفظاً هكذا.» «أخشى فقط أن تحوّليها إلى مواجهة من نوع آخر…» هممم. على أيّ حال، الأمر ما زال غير منطقي لي. «لقد أبعدتِ كانبارو بلا رحمة قبل سنة، أليس كذلك؟ واستمر الحال هكذا؟ أفتكّين أنّها ستكترث إن صار لك حبيب؟» «لو كان الأمر مجرّد كبيرةٍ انفصلت عن أختها الكبرى ووجدت حبيباً، لأمكن. لكن الوضع مختلف، أليس كذلك؟ يا أراراغي، لقد فعلتَ ما عجزت عنه هي، لذا لا أستغرب. فهي تراك ناجحاً حيث أخفقت هي.» «آه… فهمت.» عرفت سرّ هيتاغي سنجوغاهارا… لكن رُفضت بقسوة لا رحمة فيها. قليل من الاستنتاج يكفي لافتراض أن الحبيب يستحيل ألا يعلم السر، ورؤيتي إلى جانب سنجوغاهارا مع هذا العلم لابدّ أنه أثار فكر كانبارو. في الوقت نفسه، لعلّ كانبارو لا تدرك أنّ السر ذاته حُلّ. فلو كان استدلالها بتلك الجودة، لتوجّهت إلى سنجوغاهارا لا إليّ، أو هكذا افترضت.
«كانت هيتاغي سنجوغاهارا مثالاً أعلى لكانبارو، إن جاز لي القول»، كشفت سنجوغاهارا، محوّلةً نظرها عني. «كنتُ أعلم أنني في ذلك الموضع، وحاولتُ أداء الدور. ما العمل؟ أظنّ أنه لم يكن بوسعي غير ذلك. لذا حين رفضتُها، حرصتُ على قطعٍ نظيف – نعم. لكن يبدو أن الفتاة لم تنسَني بعد كل شيء.» «…لا يجدر بك وصفها بالمزعجة هكذا. إنّها لا تفعل ذلك بدافع خُبث، أليس كذلك؟ ثم إنّ نسيان الناس لك أمرٌ مـ…» «إنّها مزعجة»، أعلنت سنجوغاهارا دون أدنى تردّد. «وجود الخُبث من عدمه ليس القضية.» «هيا، لا تكوني قاسية… إن كانت تتطلع إليك وما زالت تهتمّ لأمرك… حسناً، قد يكون غريباً تسميته ’مصالحة‘، لكن ألا تجدين في قلبك متسعاً لها؟» «لا. لقد مضى عام، وكنا صديقتين في الإعدادية، ونعم، سيكون غريباً تسميته مصالحة. أخبرتك أنني لن أعود إلى أيّ من ذلك. أم أنك تقول إن عليّ الذهاب إليها بعد كل هذا الوقت والاعتذار لتأخيري؟ سيكون هذا غاية الحماقة.»
ثم، كأنها تغلق الباب على هذا الحديث، وكأن فكرة خطرت لها لتوّها، غيّرت سنجوغاهارا الموضوع. كانت – كعادتها – بارعة. «صحيح. بالمناسبة، يا أراراغي، هل لديك خطط للقاء السيد أوشينو قريبًا؟» «أوشينو؟ حسنًا، يمكن القول إن لديّ…» ربما ليس أوشينو نفسه، لكن عليّ أن أدع شينوبو تشرب من دمي، وقد حان وقت زيارة تلك المدرسة التحضيرية المهجورة. اليوم الجمعة، لذا سأقتطع بعض الوقت غدًا أو بعد غد… «حسناً، في هذه الحال.» وقفت سنجوغاهارا صامتة، تناولت ظرفًا من فوق خزانتها، عادت إليّ ومدّته نحوي. كان مطبوعًا عليه ختم بريدي. «هل تسلّمه للسيد أوشينو من فضلك؟» – «ما هذا… أووووه.» أدركتُ فور سؤالي: مِمّي أوشينو… ذلك الأحمق بقميصه الهاواييّ وتكاليفه لقاء خدماته. ما طلبه لرفع السرّ عن سنجوغاهارا – الكارثة التي ألمّت بها – مكافأته، أو ببساطة أجره. مئة ألف ين، إن لم تخنّي الذاكرة. فتحت الظرف أتأكد، وإذا بعشرة أوراقٍ من فئة عشرة آلاف ين بالضبط، جديدة لامعة غادرت المصرف لتوّها. «واو… جمعتِ المبلغ أسرع مما توقعتُ. أوحيتِ لي أنّ الأمر سيستغرق. ألم تقولي إنك ستعملين بدوام جزئي أو شيء من هذا؟» «فعلتُ»، قالت سنجوغاهارا بلا مبالاة. «أقنعتُ والدي بأن يسمح لي بمساعدته في عمله، بل أجبرته إن شئت الدقة؛ هكذا كسبتُ المال.» «همم.»
والد سنجوغاهارا يعمل في شركة أجنبية ما – وربما كان ذلك الخيار الأمثل لها. فالوظائف الجزئية العادية لا تناسب شخصيتها، والمدرسة تحظرها أصلاً. «كنتُ مترددة لأنّ طلب العون من أبي بدا لي غشًّا، لكن مَن نشأ في عائلة غارقة في الديون لابدّ أن يُحسن تدبير المال. وبقي قليل، لذا سأشتري لك الغداء في الكافتيريا يومًا ما. طعام مدرستنا لذيذ ورخيص، فاطلب ما تشاء.» «…شكرًا.» ومع ذلك، فالكافتيريا وقت استراحة مدرسية. ألا تنوي الخروج معي في موعد أبدًا؟ «لكن في هذه الحال»، سألت، «لم لا تذهبين وتسلمينه بنفسك؟» «مستحيل. لأني أكره السيد أوشينو.» – «فهمت…» يا لها من صراحة تجاه من أنقذها. وما يدلّ على نضج سنجوغاهارا أنّها رغم ذلك تشعر بالامتنان له. وبطبيعة الحال، ليس كأنني أحب أوشينو أيضًا. «لو كان الأمر بيدي»، قالت، «ما قابلته ثانية، ولا أريد صلة به مستقبلًا. ليس مع شخصٍ يتصرف كأنه يقرأ الناس.» «نعم، أظنك محقة: أنتِ وأوشينو غير منسجمين. فخفة دمه الساخرة تصطدم بشخصيتك»، قلت، واضعًا الظرف بجانب وسادتي الأرضية. ربتُّ عليه وأومأت لسنجوغاهارا. «حسن، فهمت. إن كان هذا طلبك فلن أزيد حرفًا. سأحتفظ به جيدًا وأسلّمه لأوشينو في لقائنا المقبل.» «أُقدّر لك ذلك.» – «أجل.»
ثم خطرت لي فكرة – التوافق، الطابع، الشخصية. أليس طبع كانبارو – طالبة السنة الثانية المشاغبة – هو النقيض التام لسنجوغاهارا؟ من حيث التوافق، والسلوك، وكل شيء. كانت سنجوغاهارا نجمة فريق العدوّ في الإعدادية، بل ومحلّ إعجاب. النظرات المُبجِّلة التي حصدتها – لم تكن حكرًا على كانبارو. وفي ذلك الموقع لعبت سنجوغاهارا دورًا معينًا – لا بد أنه كان نقيض شخصيتها اللاذعة الحالية. الذمّ والمدح. لسان حاد، ولسان مُسَكِّن – نقيضان. وجهٌ وآخر. وهذا يعني…
«إذن، يا أراراغي.» كانت عينا سنجوغاهارا خاويتين من الشعور. «لنعد إلى الدراسة. هل تعرف مقولة توماس إديسون الشهيرة؟ قال إن العبقرية واحد بالمئة إلهام وتسعة وتسعون بالمئة عرق. مقولة عظيمة تليق بعبقري. لكني أراهن أنه كان يظن أن الواحد بالمئة هو الأهم. أليس هذا تقريبًا كل ما يفصل جينات الإنسان عن قرد؟»