٠٠٦

أنا واثقٌ أنّه لا حاجة إلى تلخيص «مخلب القِرْد» لويليام وايمارك جيكوبز، لكنّني حين لم أكن أعرف القصة من قبل قلت في نفسي: يا لها من حكاية رعب محبوكة! نموذجٌ دراسيّ للرهبة مُجرَّب ومضمون؛ بل إنّني ما إن سمعتُها حتّى أحسستُ أنّي سمعتُها في مكانٍ ما من قبل. إنّها عملٌ كلاسيكيّ، باختصار. وبحسب كانبارو، فإنّ «مخلب القرد» شيء مشهور إلى حدٍّ معقول وإن لم يَبلُغ شهرة مصّاصي الدماء، وقد أُعيد استخدامه في وسائط مختلفة وبطرائق شتّى، متفرّعًا إلى أنماطٍ كأغصان شجرةٍ تطوريّة، لكنّ عنصرًا واحدًا يظلّ مشتركًا في كافّة النسخ، وهو العامل الأعظم الذي يجعل «مخلب القرد» هو «مخلب القرد»:

أوّلًا، إنّه يلبّي أمنيات صاحبه. ثانيًا، إنّه لا يحقّقها بالطريقة التي يريدها صاحبُها.

هاتان هما السمتان الأساسيتان. تخيَّل مثلًا أن تتمنّى ثراءً؛ قد تستيقظ في اليوم التالي لتجد أنّ أسرتك ماتت وأنّك ستحصل على قيمة التأمين على حياتهم. أو تتمنّى ترقيةً في العمل؛ فتستيقظ لتكتشف أنّ الشركة ساء حالُها وأُقيلت الإدارة العليا وأنّك رُقّيت في شركةٍ توشك على الإفلاس. قيل إنّ المخلب صُنِع في الهند على يد ناسكٍ عجوز ليعلّم الناس أن يعيشوا وفق قَدَرهم، وأنّ الكوارث تحلّ بمن يتحدّاه. وللقصّة سمعةٌ مفادُها أنّ المخلب يحقّق ثلاث أمنياتٍ لثلاثة أشخاص. أوّل ما يتبادر إلى ذهني حين أسمع عن ثلاث أمنياتٍ هو مصباح علاء الدين في «ألف ليلة وليلة»، لكن كيف انتهت تلك الحكاية؟ قصصٌ شبيهة تنتشر في أنحاء العالم؛ ولأنّ البشر لديهم رغباتٌ لا تنتهي، تبدو الروايات التي يظهر فيها كيانٌ يَقدر على تحقيق أيّ أمنيةٍ شكلًا سرديًّا أساسيًّا. ويبدو أنّ أشهرَ مثالٍ على ذلك في أدب الأشباح هو «مخلب القرد».

◆ ◆ ◆

قالت كانبارو: «إذَن… ما اسمه ثانيةً، مِيميه أوشينو؟ هل سمعتُ صحيحًا؟» – «نعم، لكنّه ليس لطيفًا كما يوحي اسمه. قلتُ لكِ من قبل: إنّه رجلٌ كبير السنّ يحبّ القمصان الهاوايّة. لا أريدك أن تُعلّقي آمالًا عليه؛ مظهره لا يوحي البتّة بعمله، فتهيّئي لذلك». – «لا… لا أقصد هذا. اسمه مميّز – ربّما رمزيّ… لا يهمّ. على أيّ حال، “ميميه” يصعب تحويله إلى لقب مختصر». – «صحيح… أتساءل بماذا كانوا ينادونه وهو طفل. لا أستطيع حتّى تخيُّل شكله صغيرًا».

كان أوشينو يقيم في مدرسةٍ خصوصيّةٍ مهجورة من أربعة طوابق، على مسافةٍ من أيّ منطقة سكنيّة – بمعنى أوضح: خرائب حقيقيّة. مبنًى لا يجرؤ الأطفال على تحدّي بعضهم لدخوله، وقد لا يلحظه سكان الجوار أصلًا؛ فقد صار جزءًا من المشهد. بِلَى، زلزالٌ كبيرٌ كفيلٌ بإسقاطه كلّه، ومع أنّ المدرسة لم تُهجر إلّا قبل أعوامٍ قليلة – حين افتتحت سلسلةٌ كبرى فرعًا عند المحطة – فقد غدت شاهدًا على ما يصير إليه البناء بعد بضع سنين من الإهمال. ولذا فإقامة أوشينو هناك لم تكن رسميّة؛ إنّها حالة تَسكّنٍ ضخم بلا إذن، مضى عليها شهران منذ عطلة الربيع، محاطًا بلافتات «ملكيّة خاصّة – ممنوع الدخول». صنع من طاولات الدراسة سريرًا، ويجوب المدينة نهارًا. يجوب… نعم. ليس كأنّه يستقرّ في مكان. وبالتالي أستطيعُ أن آتي للقائه – كما أفعل الآن – لكنّ العثور عليه مسألة حظّ؛ لا يملك هاتفًا محمولًا ولا حتى جهاز PHS، واللقاء به يتطلّب شيئًا من الصدفة.

استغرقت الرحلة إلى هناك أكثر من ساعة بالدراجة من قصر كانبارو الياباني، وكذلك أكثر من ساعة عدوًا… إذا كنتِ كانبارو طبعًا. وقفنا نحدِّق في المدرسة المهجورة.

سألتني: «بالمناسبة، قلتَ إنّ مصّاص دماءٍ هاجمك، لكن… هل كانت تلك أوّلَ مواجهةٍ لك مع شذوذ – أو ما تسمّيه؟» – «على الأرجح نعم». ربما مرّت حوادث لم أنتبه لها، لكنها الأولى التي وعيتُها. – «عطلة الربيع معك، ثم معها، والآن معي… يبدو الأمر ذا دلالة، أليس كذلك؟ لا شيء قبل ذلك، ثم ثلاث وقائع متتالية». – «أجل». في الواقع هي خمس إذا حسبنا هانيكاوا وهاشيكوجي، لكنّي تكتمتُ احترامًا لخصوصيّتهما. «يبدو أنّ مَن يَختبر الشذوذ مرّة يُرجَّح أن يصادفه ثانيةً… لعلّه سيلازمني الآن». – «ذلك صعبٌ عليك». – «ليس كلُّه صعبًا. التعرّض لشذوذٍ يعني خوض تجربةٍ خارجةٍ عن المألوف، ويجعل المرء يعي أشياء جديدة».

قلتُ هذا وأحسستُ أنّه تبريرٌ يخفي مشاعري الحقيقية. فقط استرجاع ما عشته في عطلة الربيع يكفي لإثبات أنّ ما قلته تخفيفٌ للحدّة. وبشيءٍ من الحرج، انزلقت نظرتي إلى يد كانبارو اليسرى الملفوفة بالضماد الأبيض؛ لا أرى ما تخفيه، لكنّ الشكل والطول يوحيان بأنّ ثمة شيئًا غير طبيعي، مهما بالغتْ في اللفّ.

قالت: «سينباي أراراغي، أنت وهي في الصف نفسه ثلاث سنواتٍ متتالية رغم أنّ مدرستنا تغيّر الصفوف كلّ عام؛ ظننتكما قريبَين قليلًا، لكن من كلامك أنّ حديثكما الأوّل كان منذ ثلاثة أسابيع فقط». – «لا أدري إن كان الأوّل تمامًا، لكن… لولا عثوري عرضًا على سرّها ما كنتُ لأكتشفه، وربما ما بدأنا المواعدة. ولو لم أعرف أوشينو لما استطعت مساعدتها… من تلك الزاوية كان الأمر حظًّا. أنتِ تعرفين “مخلب القرد”، وأنا عرفتُ مصّاص دماء؛ هذا كلّ ما في الأمر».

بفضل معرفتها «القرد» آمنت كانبارو بسرّ سينجوغاهارا في حينه، كما صدّقتُ أنا أمورًا بعد أن واجهتُ الشيطان والقطة. الفارق الوحيد بيننا أنّني عرفتُ رجلًا يستطيع التعامل مع الأمور. ومن هنا راودني التفكير: لو كانت كانبارو تعرف خبيرًا روحيًّا يُعين سينجوغاهارا قبل عام، أما كانت لتصير في مكاني الآن؟ الفارق محض صدفة.

قالت كانبارو بنبرةٍ يعتريها حزنٌ خفيف: «أقدّر لطفك، لكن ليتك لا تقول ذلك. هي ليست ممّن يخلط الامتنان بالحبّ؛ كان الأمر مجرّد بداية. ولهذا بالذات أشعر بالغيظ؛ حين صدّتني تراجعتُ، أمّا أنت فلاحقتها. ذلك هو الفارق، لا مصّاصو الدماء ولا القرد ولا أوشينو». … كم هي واعيةٌ بنفسها خلاف مظهرها الرياضيّ المفعم بالحيويّة؛ ولمّا أحسستُ بندمٍ مماثل، أخذ وخزٌ يتسلّل إلى قلبي.

تابعت: «مع هذا، يسعدني حقًّا زوال مشكلتها. قد يكون غريبًا أن أشكرك، لكنّي أفعل من صميم قلبي». – «كما قلتُ لك، الفضل ليس لي بل لأوشينو – في الواقع، حتى هو لا؛ سينجوغاهارا أنقذت نفسها بنفسها».

– «ربما. لكن أسألك سؤالًا آخر: أفهمُ سببَ وقوعها في حبّك، وهذا يجعل غيرتي وتخييب ظنّي بها هباء… لكن ماذا عنك؟ ما الذي جذبك إليها؟ قلتَ إنّها كانت زميلةً عاديّة لعامين لم تحدِّثها قط». – «حسنًا…» كان الجواب محرجًا وصعبًا؛ يوم عيد الأم في ذلك المتنزّه… حينئذٍ أدركتُ مصدر ندمي. «لِمَ تسألين، كانبارو؟» – «حسَن. ما أحاول قوله: إن كان كلُّ ما تريده هو جسدها، فأظنّني قادرةً على الحلول محلّها».

… عرضٌ مذهل. قبضت كانبارو بيديها – اليمنى والمضمدة – على صدرها وضغطته فأبرَزته لأعلى. لا تزال بملابس المدرسة، ومع هذا التناقض الفاضح بدت وضعيّتها آخذةً جاذبيّة غير طبيعيّة. – «أعتقد أنّني لطيفة جدًا». ثم أردفت بثقة: «ولو أطلتُ شعري لبدوتُ أكثر أنوثةً، وأنا أعتني ببشرتي، وجسدي مشدود من الرياضة، وخصري مثالي؛ قيل لي إنّ قوامي من النوع الذي يتلذّذ به الرجال». – «هات مَن قال هذا لأقتله». – «إنه مدرّب فريق السلة». – «الدنيا خَرِبَت!»

ثم سألتني ثانيةً: «ما رأيك؟ أنا جاهزة؛ ما عليك سوى الطلب، في أيّ وقت ومكان، وسأكون… “البوتوم” لك “التوب”». – «بوتوم؟ توب؟ لِمَ قد أطلب ذلك؟!» – «هم؟ أوه، لا خلفيّة لديك في BL. غريب». – «لا أريد مناقشة BL مع فتاة أصغر منّي!» – «BL تعني Boys’ Love فحسب». – «أعرف!»

حين رتّبتُ غرفتها وجدتُ كمًّا من تلك الكتب وتجاهلتُ الأمر… حاولتُ إيقافها: «كفى! لا كلمة أخرى!» – «أنا أكثر إلى دور السَب، فلا أظنّني أستطيع التوب». – «سَب؟ لقد ضعت». بدت الحدود تُكسر، وأحسست الحديث ينزلق على جليدٍ رقيق. – «على أيّ حال، لِمَ يحتاج فتى وفتاة إلى BL أصلًا؟» – «لأنّني أريد الحفاظ على بكارتي من أجلها…» – «لا أريد سماع ذلك!»

تحوَّل الحديث إلى فوضى عارمة. وأخيرًا حسمتُ: «اسمعي، كانبارو، بصرف النظر عن محاولاتك، لن تستطيعي الحلول محلّ سينجوغاهارا. أنتِ لستِ هي. لا أحد يحلّ محلّ أحد». هزّت رأسها بعد صمتٍ قصير: «معك حقّ».

قلتُ: «فلنُنهِ الثرثرة ونمضِ؛ الشمس ستغرب، ولو حلَّ الظلام فسيكون الأمر سيئًا بالنسبة ليدك». – «صحيح؛ ما دام الضوء موجودًا فأنا بخير لبضع ساعات». – «أن تكوني ناشطة ليلًا فقط يذكّرني بمصّاصي الدماء…»

◆ ◆ ◆

سرنا بمحاذاة سورٍ شبكيّ يطوّق المبنى حتّى عثرنا على فجوةٍ كبيرة. قبل ثلاثة أسابيع مررتُ منها مع سينجوغاهارا؛ هذه المرّة أنا مع كانبارو. من كان يظنّ أنّ لي شأنًا معها؟ حقًّا إنّها خيوطٌ تنسجنا.

قلتُ وأنا أشقّ عشبًا مُهمَلًا: «انتبهي لخطواتك». – «شكرًا جزيلًا».

كان الداخل لا يزال خرابة: شظايا خرسانة، علب فارغة، لافتات، زجاج مكسور، وأشياء لا يُعرَف ما هي. المبنى معتمٌ في ضوء العصر المتأخّر إذ لا كهرباء فيه، فبدا أشدّ تقادمًا. خطر لي أنّ أوشينو يستطيع ترتيب المكان ما دام متفرغًا. وإن كان الأمر أفضل قليلًا من غرفة كانبارو…

تمتمتْ: «إنّه قذر. لا أصدّق أنّ أحدًا يَسكن هنا ولا ينظّفه». … يبدو أنّها صارمة مع الآخرين في أمورٍ معيّنة.

اعتاد أوشينو الاتّكاء في الطابق الرابع. وحين توغّلنا بات الظلام دامسًا؛ وعند الدرج خطرت لي غلطةُ نسيان المصباح. كنتُ أحمل ظرف المئة ألف ين التي ائتمنتني عليها سينجوغاهارا، أي إنّني كنتُ سأجيء على كلّ حال.

لاحظتُ تردّد خُطا كانبارو وهي تتلمّس الدرج. على رياضيتها، بدت كارهةً للعتمة. صعود الدرج سيكون شاقًّا عليها… تذكّرت كيف أمسكتُ يد سينجوغاهارا في أوّل زيارة – أوّل مرّة أمسكتُ يدها.

نظرتُ إلى كانبارو: «أعطيني يدكِ اليمنى». – «هكذا؟» – «تشبّثي بحزامي. سنصعد الدرج رويدًا، فلا تتعثّري».

شدّت belt الحزام كأنّها تختبر متانته وقالت: «لطيفٌ منك. لا بدّ أنّ الناس يصفونك دومًا بالطيبة». – «مَن يريد سماع مجاملةٍ مبتذَلة على الدوام؟»

ثم همست: «سينباي، أيمكنني سؤالُك؟». – «طالما ليس عن التوب والبوتوم». – «سأؤجّل هذا إذًا…» – «في قائمتك؟!» – «كما أنّ موضوع الملابس الداخليّة والمعروضات ما يزال…» – «انتهينا منه!»

قالت في الجدّ: «يبدو أنّك لم تُحدّثها عنّي أبدًا». – «بل فعلتُ؛ هكذا عرفتُ أنّكما ثنائيّ فالهالا». أضافت: «لا أقصد هذا. أعني عن يدي اليسرى، وعن مهاجمتي لك…» – «لم تسنح الفرصة. بالأمس كنتُ شبه ميّت، ولم أكن متأكدًا ممّا حدث أو من أنّكِ الفاعلة. ظنّت أنّني اصطدمتُ بعمود هاتف». – «وهل يكفي هذا مع كلّ الأضرار؟» – «لا أستطيع إشراك الشرطة أو المستشفى بسبب جسدي شبه المصّاص؛ علانيةً ستتفاقم الأمور لي. ولن أخفي الأمر عن سينجوغاهارا للأبد، لكنّي أرى أنّك أنتِ مَن يجب أن تخبرَها». – «أنا؟» – «لستُ طيّبًا؛ لديّ دوافع وحسابات…»

وقبل أن أتمّ كلامي، لاحظتُ شيئًا على منصّة الدرج بين الطابقين الثالث والرابع: شيبو نو أوشينو. فتاةٌ شقراء في نحو الثامنة، بشرتها شفّافة، تعتمر خوذة ونظّارة واقية، جالسةٌ القُرفصاء تحتضن ركبتيها. قد تُخطِئها لروح طفلةٍ من فلكلورنا لولا شعرها الذهبيّ. حدّقتْ فينا بعينَيْ حقدٍ ثقيلٍ وصمتٍ خانق. تجاهلتُها، وحِدتُ ببصري ومضيتُ. لماذا تجلس هنا؟ أتشاجرت مع أوشينو؟

في الطابق الرابع سألتني كانبارو بصوتٍ مضطرب: «مَن تلك الفتاة؟ كانت… شديدة اللطافة!» – «قلتها بأعرض ابتسامة لك اليوم!» – «أريد احتضانها… لا، أريدها أن تحتضنني!» – «تقعين في حبّ أيّ كان، أليس كذلك؟!»

حذّرتها: «من الأفضل ألا تقتربي من تلك…» مصّاص دماء—بقاياه.

– «يا للأسف». قالتها بأتعس وجهٍ رأيته منها.

وصلنا إلى الصف الرابع. «إن وجدناه اليوم أو لا، لا نستطيع إرجاء الأمر؛ فحياتي في خطر». – «…آسفة». – «لا بأس. فقط لا تشعري بالسوء». – «لكنني مدينةٌ لك. ما لونك المفضّل؟» – «ها؟ لون مفضّل؟ ربّما الأزرق المائي». – «حسنٌ؛ أعدك أنّني من الآن فصاعدًا سأحرص على ارتداء ملابس داخلية بلون الأزرق المائي متى لقيتك». – «لا تُقحِميني في أحاديثك الخبيثة!»

كان في الطابق الرابع ثلاثُ قاعات، أبوابها محطّمة. فتّشنا الأولى فكانت خالية؛ وفي الثانية وجدناه.

قال ميميه أوشينو وهو متمدّد على أرضيةٍ لينو مُمزّقة لا تصلح إلا للجروح: «تأخرتَ يا أراراغي، انتظرتُك حتّى كدتُ أنام». استخدم قطعة كرتون باهتة فراشًا، واستقبلنا بصوته العارف كلّ شيء، رغم أنّه يجهل تمامًا وضعنا. قميصٌ هاواييّ متعدّد الألوان متجعّد، وشعرٌ أشعث، ومظهرٌ ملوَّث عامٌّ… كلمات مثل «النظافة» أو «الانتعاش» تنتمي إلى عالمٍ آخر بعيد عن هذا الرجل؛ مظهره يلائم الخرائب التي يسكنها، ولا أستطيع تخيُّل شكله قبل أن يستقرّ هنا.

حكّ أوشينو رأسه وكأنّ حتى ذلك كان أمرًا مُرهِقًا له. وعندها فقط لاحظ كانبارو، التي كانت، بدافع القلق أو لانزعاجها من مظهر أوشينو المريب، تحاول الاختباء خلفي ممسكةً بحزامي بيدها اليمنى رغم أننا وصلنا بالفعل.

قال: «آه، يبدو أنّك جلبت فتاةً أخرى اليوم يا أراراغي. فتاة جديدة كلّما التقينا ─ يسعدني ذلك بحق». «اصمتْ. لا تكرِّر العبارات نفسها». «تقول هذا، لكن ماذا أفعل إن كان الوضع متكررًا؟ جعبتي محدودة. هم؟ وها هي فتاة أخرى بقُصّة مستقيمة أيضًا. من زيّها، هل أنتما زميلان؟ أمدرستكما تفرض قواعد على قصّات الشعر؟ مثير للاهتمام، نظام عتيق بالفعل». «لا، ليست لدينا مثل هذه القواعد». كان مجرد صدفة. في الواقع، رغم أنّ كانبارو تقصّ شعرها قصيرًا، فإنّها على الأرجح تقتدي بسينجوغاهارا، لذا بدا تسريحاهما متشابهَين.

قال أوشينو مؤكدًا: «إذن هذا هو ذوقك في النهاية. حسن، سأقصّ شعر شينوبو الصغير أيضًا في زيارتك القادمة. إنها تتركه يطول، وحان وقت حلاقة. بالمقابل، هل يمكنك إحضار فتاة بشعر مصفوف بطول واحد في المرة المقبلة؟ ربما يضيع كلامي هباءً، لكني أضع الطلب فحسب». «…رأيتُ شينوبو في طريقنا صعودًا. ماذا تفعل هناك؟» «إنها منزعجة لأنني أكلتُ قطعةً أكثر مما ينبغي من حلوى ميستر دوناتس خاصّتها. وهي على هذه الحال منذ الأمس». …… أيُّ مصّاص دماء هذا؟ وأيُّ رجل هو؟ «قدمتُ لها باكيًا قطعة “بون دي رينغ”، لكنها فتاة ضيقة الأفق. أظنني سأعلمها عبارة “النوعية لا الكمية”.» «لا يهمني… أقلّ ما يهمني. ثمّ يا أوشينو، تصحيح واحد: ليست زميلتي. انظر جيدًا، لون وشاحها لا يطابق وشاح سينجوغاهارا أو هانيكاوا، أليس كذلك؟ إنها أصغر مني بعام، واسمها سوروغا كانبارو. كانبارو كـ“إله” و“سهل”، وسوروغا كـ… أمم».

أفٍّ… أعرف كتابتها، لكن يصعب شرحها… بدا شبه أمِّيّتي بارزة. تدخّلت كانبارو: «سوروغا كما في “سوروغا-توي”». الحمد لله… لكن ما هذا بالضبط؟ لم أسمع به من قبل. هل “توي” بمعنى سؤال؟ «آه، “سوروغا-توي”. بالطبع، بالطبع». أومأ أوشينو وقد فهم تمامًا. شعرتُ لو أنّه جهل الكلمة لنلتُ تفسيرًا دون أن أتكلم… فزمتُ شفتيّ، لكن فضولي غلبني فسألتُ كانبارو: «ما “سوروغا-توي”؟» «إنه أسلوب تعذيب شهير من عصر إيدو؛ يربطون يديك وقدميك خلف ظهرك، ويعلِّقونك من السقف، ويضعون حجرًا ثقيلًا على ظهرك، ثم يدوِّرونك». «لا تشرحي اسمك بأسلوب تعذيب!» «وأتمنى أن أختبره يومًا ما في حياتي». ………!

إذًا هي سحاقية، ومعجبة بـ BL، وسَب، وبوتوم، وبيدوفيليّة، ومازوخية؟! كيف تجتمع كلّ هذه في شخصٍ واحد… نجم مدرستنا لا يحتاج نشر شائعات متناقضة؛ شخصيته متقلبة بما يكفي.

لم أجد كلمات. «على أيّ حال، أنا سوروغا كانبارو». بدا أنّ تبادل الحديث أراحها، فأفلتت حزامي وظهرت من نصف اختبائها ─ ثم، بطريقتها المعتدّة الواثقة، وضعت يدها اليمنى على صدرها وقالت: «أنا تلميذة أراراغي الصغرى، تشرفتُ بمعرفتك». «تشرفتُ يا آنسة. أنا ميميه أوشينو».

كانت كانبارو تبتسم، بينما أوشينو يتبسّم باستخفاف؛ وحين ترى تعابيرهما عن قرب تدركُ الفرق الشاسع بين «ابتسامة» و«ابتسامة متهكّمة». نعم، ابتسامة أوشينو خفيفة، لكنها خفّة مزعجة؛ الرجل خُلق ليبدو زائفًا.

قال: «همف. إن كنتِ تلميذته فهذا يجعل منكِ أيضًا تلميذة الآنسة تسونديري». وكان نظره سارحًا كأنه يحدّق إلى ظهر كانبارو؛ ولم يكن يقصد فقط أنّنا، أنا وسينجوغاهارا، في الصف الثالث وهي تاليتنا.

ربما أفرطتُ في التأويل. «يا أوشينو ─ على أيّ حال، ينبغي أن أبدأ بتسليمك هذا. إنه من الآنسة تسونديري نفسها، سينجوغاهارا». «هم؟ ظرف؟ آه، مال. مال، مال. ممتاز، فقد بدأتُ أشعر بالضيق. سيكفيني حتى موسم الأمطار. حين يبدأ، لن أموت عطشًا، لكنني كنتُ سأصمد بشفاهٍ يابسة في الأثناء». «يا له من كلام تُلقيه على مراهقين حسّاسين».

في ظلّ ضائقة كهذه، تشاجر مع شينوبو على ميستر دوناتس… لا عجب أنها منزعجة.

فتّش أوشينو الظرف: «نعم، مئة ألف ين تمامًا. هذا يُبرئ ذمتي مع الآنسة تسونديري. لقد سرّتني لأنها أرسلت المال معك بدلاً من أن تأتي بنفسها؛ يبدو أنها ملمةٌ بأصول الدنيا». «ها؟ أليس العكس أدلَّ على حسن النية؟ تسليمك إيّاه شخصيًا…» «الأمر سيّان مع أو بدون تلك المجاملات. لكن لا نية لي في جدالٍ بلا طائل. إذن… ما شأن هذه الآنسة؟» سأل أوشينو ببرود، موحيًا بذقنه نحو كانبارو بينما يحشر الظرف – وما فيه من أوراق جديدة عبثًا – في جيب قميصه الهاوايي. «لا أظنك جئتَ لتعرّفني على تلميذة لطيفة فحسب. أم فعلتها للتباهي؟ لو كان الأمر كذلك، فقد استهنتُ بك يا أراراغي… ها ها، لكن هذا مستحيل. ما يعني ─ هم، أيمكن أن يكون ذلك الضماد؟ آه…».

«سيد أوشينو. أنا…» بدأت كانبارو الكلام، لكنه لوّح بيده ببطء مقاطعًا: «لنبدأ من البداية. لا يبدو أنّ القصة سعيدة. في خبرتي، قصص الأذرع ليست كذلك أبدًا؛ خصوصًا إن كانت الذراع اليسرى».

2025/07/08 · 2 مشاهدة · 2512 كلمة
Doukanish
نادي الروايات - 2025