008

يبدو أنّ «شيطان المطر» شديد العنف؛ فلا يوجد ما يُبهجه أكثر من الحقد والعداوة البشريّ-ين، والانتقام والغيظ، والغيرة والحسد، وكلّ المشاعر السلبيّة عمومًا. إنّه يحدّق في أظلم جانبٍ في الإنسان، يحرّضه، يستخرجه، ثم يجعلُه حقيقة. يصغي إلى أماني الناس بدافع الكراهية ويُحقّقها بدافع الكراهية كذلك. أمّا «العقد» فجاء على صورة ثلاث أُمنياتٍ تُلبّى لقاءَ روحٍ بشريّة. ويُقال إنّه ما إن تُلَبَّى الأمنيات الثلاث حتّى ينتزع حياة ذلك الشخص وجسدَه؛ أيْ إنّ صاحب الأمنيات يغدو هو الشيطان في النهاية. هكذا كانت طبيعته. ولذا، لو أنّ كانبارو تَمنَّت قبل عام كشفَ سرّ سينجوغاهارا، فلعلَّ أمنيتَها لم تكن لتتحقّق؛ إذ لا يلبّي شيطان المطر إلاّ الأمنيات العنيفةَ السلبيّة.

فالشيطان يقرأ ظهر الأمنية؛ ثَمّة دومًا شيءٌ خلفيّ.

لقد أرادت أن تصبح أسرع لأنّها كرهتْ زملاءَ صفّها؛ وأرادت أن تبقى إلى جانب سينجوغاهارا لأنّها كرهت كويومي أراراغي.

نعم، إنّه يقرأ الخلفية؛ يحدّق في ظهرِ الأمنية. إنّه يرى رغباتنا اللاواعية؛ فالشيطانُ يَنفُذ فينا.

ربّما لم تندم كانبارو على تنازلها عن ذلك الموقع، لكنّها كانت تضمرُ الضغينةَ لكلّ مَن يَشغله. فإنْ كان يستطيع أحدهم، فلمَ لا تكون هي؟ ولمَ لا أكون أنا؟… شيطان المطر، ذاك الذي قُصَّت حكايته في أوروبا مذْ زمنٍ بعيد، وغالبًا ما يُصوَّر قردًا يَرتدي معطفًا مطريًّا. من تلك الناحية يصحّ وصفُ يدِها اليسرى بأنها «مخلب قرد»، غير أنّ الأمنية الأولى والثانية كانتا في الأصل رغبتين لاواعيَتين لكانبارو، واضحتين لكن مخبوءتين: ضدَّ زملائها الذين سخروا منها، وضدّي أنا.

في الابتدائية اكتفى زملاء كانبارو بجرحٍ بسيط، أمّا أنا فكِدت أُقتَل… لعلّ هذا الفارقَ مردُّه حدّةُ مشاعرها السلبيّة. ما افترضته عن تطوّرها الرياضيّ يَدخل في الحساب، لكن كان العاملُ النفسيُّ أقوى.

بأيّ حال، كان أوشينو مُحقًّا—ربّما لم أفكّر بما يكفي. لو طلبت كانبارو من شيطان المطر البقاء بقرب سينجوغاهارا، لَمَا كان منطقيًّا أن تقلق على سلامتي؛ فبالنظر إلى حادثة الابتدائيّة، كانت يدُها العنيفة ستسعى لقتلي، لكن كيف لكانبارو—من مكانها—أن تعرف شكلَ تحقيق الأمنية؟ الطريقة التي تُلبَّى بها الأمنيةُ وما يترتّب عليها أمرٌ غامض. لكنّها كانت تعلم لاشعوريًّا ما تتمناه لاشعوريًّا؛ كانت تدرك أنّني في خطر. وإذا كان «الرجل بالمعطف» لم يظهر لي فورَ اتّحاد الشذوذ بيدها، فذلك لأنّها كانت تَكبح الدافع—بحسب أوشينو—تُصارِعه على الحافة.

قال: «إنّ العمل جاهدًا لتصبحَ أسرع ليس سوى ذريعةٍ أنانيّة. فاليد لم تفعل شيئًا لأنّها تحقّق أمنيتَها بنفسها؟ هراءٌ بحت. ربّما صدّقت الآنسة ذلك أو أرادت تصديقه، وهذا ليس خطأً بحدّ ذاته، لكنّ الأمنيةَ التي يلبّيها شيطان المطر بعنفٍ هي الخلفيّة لا الواجهة. مع ذلك، فإنّ موقفها—بأنّها تدبّر أمورها بنفسها—جاء بنتيجة طيّبة؛ إذ استطاعت، واليدُ ملتصقةٌ بذراعها، أن تكبحها. الشذوذات كهذه تُشبه الأدوات؛ عقلُ المالك عاملٌ مهمّ… لكن في الواقع هذه مجرّد ذراع، لذا فشيطان المطر، رغم أنّه شيطان، لا يستطيع إطلاقَ كلّ قوته. لم يستطع استدعاءَ لاوعيٍ يفوق وعيَها. لذا لم تنشط يدُها مادامت منشغلةً بسلامتك. كلُّ ملاحقتها لك منذ أربعة أيّام أدّت الغرض المطلوب، وإنْ لم يكن بقصدٍ منها لأنّ الأمر وقع في اللاوعي. لكن بالأمس—حين عرفت أنّك وسينجوغاهارا ستلتقيان على انفرادٍ لجلسة دراسة—آنذاك، للأسف، تأكّدتْ الآنسة، ولم تَعُدْ قادرةً على الكبح. تمامًا كما خمّنتَ، أراراغي».

عثر الشيطان على ثغرةٍ وشقّ طريقه إلى قلبها. لم يقل أوشينو ذلك حرفيًّا بالطبع؛ فهو يزدري ذلك الضعفَ المدلّل. لكنّ الأمر كان غيرةً خالصةً من البدء إلى الختام، وكانت كانبارو تُعلن تلك الغيرة.

قلتُ لشينوبو: «حسنٌ، يكفي هذا». تركتُها تمتصّ دمي حتى الحدّ، ثمّ ربتُّ على ظهرها الصغير. نزعتْ أنيابها برفقٍ من عنقي، ولعقت القطرات الباقية. تساءلتُ إن كان عناقُنا خيانةً بعُرف سينجوغاهارا، لكن هذه الوسيلةَ الوحيدةَ لإنجاز المهمة.

نهضتُ من قرفصائي فشعرتُ بدوارٍ خفيف؛ أمرٌ طبيعيّ بعد فقدان كثيرٍ من الدمّ. قفزتُ قليلًا لأتأكّد من حالي. ومع أنّ كافة قدراتي ارتفعت، لم أشعر بفارقٍ كبير. كانت شينوبو قد جلستْ تطوّق ساقيها بيديها، لا تلتفت إليّ.

…إنسانةٌ طيّبةٌ لطيفة؟ لستُ كذلك قطعًا، لكن الضحيةَ الحقيقيّة هي هذه الفampire الصغيرة. هززتُ خوذتها يمينًا ويسارًا؛ تجاهلتني في البداية، ثمّ صفعت يدي ضجرًا. عندئذٍ، اكتفيتُ وتركتها، كما نصح أوشينو، بلا تحيّة، وصعدتُ الدرج.

في الممرّ المقابل كان ميمي أوشينو ينتظر متّكئًا على الحائط، ذراعا-هُ مشبوكتان. قال: «يبدو أنّك تأخّرت، أراراغي». أجبتُ: «واجهتُ صعوبةً في تحديد الحدّ؛ أعطيتُها الكثير، لكن هذا أفضل من إفراطها». قال: «لا تكن مفرِط الحساسيّة؛ فهي مربوطة باسمي، فلن يَحدث شيءٌ خطير. وما دام عليك قتالُ شيطانٍ بعد قليل، فلا تُشغل نفسك بها».

إنّ طردَ شيطانٍ حقيقيّ قضيّةٌ ضخمة، وحتى شيطان المطر، مع أنّه منخفضُ الرتبة، لن يكون هيّنًا على أوشينو. لكنّه لم ينوِ التدخّل هذه المرّة. على عكس ما فعله مع سينجوغاهارا؛ فذاك كان إلهًا، وهذا شيطان، والفرق شاسع.

لم يكن لدينا وقتٌ أو جهدٌ نضيّعه؛ إن لم نسارع، فقد تُزهَق روحي الليلةَ ذاتَها أو تُقطع ذراع كانبارو. أمّا الخيار الثالث فهو العقد.

قلتُ: «إذن العقد… فلنأمل أنْ يكفي لإعادة الشيطان إلى عالمه». ردّ أوشينو: «العالمان واحد! لكن لا بأس. سيَنجح العقد، أضمن لك. إنْ عجز الشيطان عن تنفيذ بنوده بَطُلَ مفعولُه وتلاشت أمنيةُ الآنسة، ثم يَزحف الشيطانُ ذليلًا».

قلت: «أيْ إنْ عجز عن قتلي». ضحك: «وحتى لو استخدمتَ عُشر قوتكَ أيام الربيع حين كنتَ مصّاص دماء، فذاك مبالغة». مع ذلك، خصمك مجرد يدٍ يسرىٍ محنّطة؛ لديك حظّ بنسبة عشرة إلى واحد أو نحوها».

وحكى عن أصل اليد المحنّطة وأنّها من عائلة أمّ كانبارو، وأن اليد نمت من المعصم إلى المرفق بعد تحقيق الأمنية الأولى، ومن المرجّح أن تنمو حتى الكتف لو تحقّقت ثانيةً وثالثة، ومع ذلك فالنتيجة واحدة: تُنتزع روحُها وتصير قشرةً فارغة. سلّمتُه حقيبتي وهاتفي ومفاتيحي.

سألني: «ولِمَ تُساعِدُ مَن حاولت قتلك؟ إنّها تكرهك منافسًا في الحبّ». أجبته: «كلّ إنسانٍ يكره أحدًا؛ هذا جزء من الحياة. لا يهمّني الموت ما دام سببُها الشوقُ إلى سينجوغاهارا؛ إذن أستطيع مسامحتها».

قال: «حسنًا. إنْ كان هذا قرارك فادخل وساعد الآنسة. لكن تذكّر: ما إنْ تدخل الباب فلن يفتح من الداخل حتى ينتهي الأمر. وأنا وشينوبو لن ننقذك مهما حدث». ثمّ فتح الباب، فدخلتُ بلا تردّد.

ما إن دخلتُ حتى أغلق أوشينو الباب خلفي. لم يَعُد بوسعي الخروج الآن.

كان الفصل يقع في مؤخّر الطابق الثاني، مشابهاً تماماً لفصل الطابق الرابع، لكنه الوحيد في هذا الخراب الذي سُدّت نوافذه. لا يعني هذا أنّ أرضه خلت من شظايا الزجاج؛ بل ثُبّتت على إطارات النوافذ الفارغة ألواحٌ خشبية سميكة، مسمّرة بإلحاح كما كان الناس يفعلون قبيل الأعاصير، حتى لتتساءل عن سبب هذا الإفراط. وما إن أُغلق الباب حتى لم يتسلّل خيط ضوء واحد─فالليل منتصفه، ولا حتى ضوء النجوم.

حلَّ ظلامٌ دامس. لكنني─كنت أرى.

بعد أن أطعمتُ شينوبو كثيراً من دمي، بات بصري يخترق العتمة، بل أرى في الظلام أفضل مما في النور. تمهّلتُ أستوعب ما حولي.

لم ألبث أن وجدته.

كان هناك، واقفاً في الفصل غير الواسع─ «معطف المطر».

«…هيه»، ناديتُه فلم يُجِب. بدا أنّها بالفعل─في غيبوبة.

الجسد جسدُ سورُغا كانبارو، لكن الذراعَ اليسرى، والروحَ مؤقتاً، لشيطان المطر… أمّا المعطف فقد هرولت كانبارو لشرائه من أقرب متجر بينما كانت شينوبو تمتصّ دمي. يجوز القول إنّ المعطف لم يكن لزاماً، بل اختيارياً تزيينيّاً لإضفاء أجواء الطقس.

أُزيلت الطاولات والكراسي من الطريق، فلم يبقَ سوانا: كانبارو وأنا. ذراعُ شيطان المطر اليسرى، ونصفُ مصّاص دماء.

كينونان ليسا كاملين. بدت مواجهة متكافئة، بل─لا ينبغي أن تكون متكافئة.

عليّ أن أُسحق الشيطان.

كالبارحة، يكتنف ما تحت قلنسوة المعطف حُفرةٌ سحيقة، لا يظهر ما بداخلها ولا ملامحها─

«……».

أشيع الوسائل لمجابهة شذوذٍ يحقق الأماني كشيطان المطر أو «مخلب القرد» هي أن تتمنى أمراً يعجز عن تلبيته: أمنيةً عظيمة، أو متناقضة، أو مستحيلة تماماً، توقعه في مأزقٍ لا مخرج منه؛ كدلوٍ بلا قعر، على حد تعبير أوشينو. هكذا تُطرد الشذوذات أو يُكشف زيفها.

لكن كانبارو تقدّمت فعلياً بأمنيتها: أن تكون إلى جوار سينجوغاهارا، ولأجل ذلك كان كويومي أراراغي عقبةً يجب قتلها. كرهته وتمنّت موته لاوعياً، والشيطان يسعى لتحقيق ذلك حرفياً.

الأمنية لا تُلغى. ما دامت فكّرت بها ولو لحظة فقد فات الأوان، ولذا وجب قلب المنطق: جعل الأمنية ذاتها مستحيلة. يجب أن يكون كويومي أراراغي كياناً لا يقوى عليه شيطانُ مطرٍ عادي─

«يبدو أننا نُحاور أنفسنا للخروج بأي حجة─أشبه بالسفسطة، لكن طالما تنجح… أوه!»

لا أعلم ما الذي حرّكه─إذ وثب المعطف فجأة نحوي. قدرات كانبارو في القفز، مضاعفةً بحقدها. عادةً كانت السرعة لتفوق إدراكي كبارحة، لكن الأمر تغيّر.

أبصِر جيّداً وأستطيع الردّ: «مـ-مهلًا!»

بلية جذعية جعلتني أتفادى قبضته اليسرى─بأعجوبة. أتممتُ الدوران وابتعدت؛ كان تصرُّفاً أخرق، لكنني بحاجة لتثبيت قدمي.

ما الذي يجري؟

خُيِّل إليّ أنه أسرع من البارحة، لكن عينَيّ لا تزالان تتأقلمان. على أي حال، إن تهرّبت من ضرباته منتظراً فرصةً فأمسكت بالجسد «الثقيل» وحاصرته─ «……كك!»

لقد صار─فوقي.

سخيف! لم أتوقع التفوّق عليه في السرعة، لكن قوتي تعزّزت كثيرا بفضل شينوبو، ومع ذلك يلوّح قبضةً تلو الأخرى بسهولة. لا يسار أمامي، يجب أن أتسلل إلى يمينه، خارجَ مدى…

احتكّت الذراعُ الداكنة المشعرة بخدي، ثم ركلتُ جانبه المكشوف.

…آسف يا كانبارو!

اعتذرت في قلبي.

كما توقعت؛ سوى ذراعه، كان المعطف عادياً؛ طار جسدُه مع الركلة، اختل توازنه، ووقع على أطرافه الأربعة فوق اللينو.

التحكم بذراعٍ واحدة عبءٌ عليه، اختلالٌ فادح يعيق باقي الجسد.

لكن ما سرُّ هذه السرعة؟ أكان يجمح البارحة؟ أم ازداد رداً على تحسّنِي؟ ولمَ يكبح شذوذٌ قوته أصلاً؟

لم أفهم. ولا حين نهض ثانيةً.

همم… حتى مع تجاهل أنّ الجسد لكانبارو، لم أستطع ركل خصمٍ مطروح… أعلم أني مضطر، لكن يصدّني ترددي.

«شخص طيب لطيف». يا لَبغضي لهذه الوصمة.

في خط مستقيم، ارتطمت قبضته اليسرى بكتفي الأيمن؛ مقلاعٌ بشريّ. استهدف خط الوسط، تفاديته جزئياً؛ كانت أسرع من أن ألتقطها. طرتُ عشرة أقدام، لكن بفضل اتزاني استدرتُ في الهواء وهبطت قائماً. قبضته التي فتّتت درّاجتي وأطاحت جداراً خرسانياً أمس، لم تقذفني تلك المسافة أو تحطمني الآن. تضررتُ طبعاً، لكن ليس بما يمنع الحركة. خُلِع كتفي وربما كُسِر، غير أنّ شفاء مصّ الدم سرعان ما أصلحه. زال الألم في لمح البصر؛ إحساسٌ حنين… يا ترى كم سأحترق عند الشروق؟

لم يَسَعْني التفكير؛ إذ لحق المعطف بي فوراً. قبضته صوب رأسي، حطمت أنفي بصوتٍ مريع. لو كان رأسي بشرياً لعصف به. ازحتُ زحفاً متخاذلاً، وإنفك أنفي يلتئم فأشمئز من الإحساس، كأنني أميبا. وهذا بقوةٍ تعادل عُشْر ما كنتُه في عطلة الربيع الجحيمية.

تفاديتُ الضربة التالية، لكن اللاحقة خدشتني. «…تبا!»

لِمَ لا أقدر على تفاديها تماماً؟

رغم أنّ اللكمات مستقيمةٌ مقتصِدة، فإن حركته الإجمالية بدائية: يدٌ تنطلق بقوةٍ تكاد تُطيِّر الذراع كقبضة صاروخية في رسوم متحركة، بلا إنذار مسبق، ومع ذلك ينبغي أن أتابعها… فلماذا أعجز؟ إنها أسرع بدرجات عن الأمس. قوّته ليست المشكلة؛ يمكنني احتمال عشرات الضربات، لكن سرعته خارقة.

شيءٌ تغيّر… المعطف…

الذراعُ اليسرى المكشوفة، يدٌ وحشية.

…والذراعُ اليمنى مكشوفة أيضاً، بخلاف الأمس حين كان يرتدي قفازين مطاطيين. لكن القفازات لا تبطئ. ثم أدركت.

الخطأ ليس القفازات… بل الأحذية!

اشترت كانبارو المعطف فقط، بلا قفازات أو جزَم مطاطية؛ ليس إهمالاً متعمداً بل لأننا لم نفكر. يكفي المعطف لرمز الشذوذ. لكن إن لم يلبس المعطف جزمة مطاطية، فهو ينتعل حذاءً رياضياً باهظاً… أحذيةٌ تمنح سرعةً من نوعٍ آخر، خاصةً لرياضيةٍ بقدرات كانبارو.

«…يا للورطة».

كان بوسعنا فرض جزمة كقيدٍ مشروع، لكنها الآن تسارع بلا عائق. جسد كانبارو المفترض أن يثقل الذراع صار ملحقاً رشيقاً لها!

أه…

يا لسوئي في إنهاء الأمور…

المراوغة لم تعد كافية. جسدي لا يتراكم فيه الضرر، لذا لن يُنهكني «النَزف البطيء» ما دمت أتفادى نصف الضربات، لكن هذا لا يحقق نصري الساحق. لا بد من مواجهة الهجمات مباشرةً ولو سقطنا معاً. خفّضتُ مركزي، وبسطتُ ذراعيّ كحارس مرمى يستعدّ لركلة جزاء─أو كمراقبةٍ رجلٍ لرجل في السلة.

لكن قذيفةً أخرى انطلقت نحو عنقي؛ حاولتُ إيقافها بكلا يديّ، يمناي تلقى القبضة ويسراي تمسك معصمها وأضم باقي جسدي حول الذراع، غير أنّي لم أفلح. وصلت يدَيّ في الوقت لكن القذيفة اخترقتهما، سمعتُ عظام أصابعي تتكسر، ثمّ اللكمة ترتطم بترقوتي. تزعزع جسمي للخلف، إلا أنّي ثبّتّ قدمي المتأخرة؛ لم أصدّ الضربة لكني قلّلت قوتها. قبل أن تسحب المعطف قبضته أمسكتُ بذراعه بكلتا يديّ المتعافيتين أخيراً، محقِّقاً هدفي بإيقاف حركته.

«آسف يا كانبارو!»

اعتذرتُ جهاراً هذه المرة، وثبّتُّ الذراع اليسرى بيديّ بينما تعافر المعطف، ووجهتُ ثلاث ركلاتٍ جانبية متتابعة لسيقانه وبطنه وصدره. هجومٌ يستحيل على جسد بشري بنيوياً، لكن يدي وقدمي جميعاً في صفي خلافاً له.

تلوّحت ذراعه اليسرى بجنون. صار معرَّضاً.

كان أوشينو محقاً: لا أملك حظاً أمام شيطان مكتمل، لكن إن حرمتُه ذراعه أطغى عليه؛ يمكنني شفاء ضرر اللكمات فوراً ما لم أتلقَّ سِلسلةً منها، والتهديد الأكبر قوّةُ ساق كانبارو المعزَّزة، وحذاؤها مفاجأة مزعجة، لكن وقد كبّلته هكذا─كل ما عليّ ركله حتى يستسلم الشيطان أو يزول. تعذيبٌ تقريباً، نسخةُ سورُغا للوي الأعضاء، شعورٌ سيئ، إلا أننا لن نبتر ذراع كانبارو ولا ننهي حياتها، فخيارِي الوحيد مواصلة الإيلام حتى يرحل الشيطان─

انحنت ساقا المعطف.

ظننتُ ركلاتي السفلية أثمرت─لكن لا. الساق التي أخلّ بتوازنها المعطف نفسه أتت قوساً إلى فكي بأقصر مسار، ليس الذراع بل الساق اليسرى؛ ساق كانبارو الطويلة تخترق المسافة لتسدد ركلةً عاليةً في صدغي. قوتها أقل من الذراع، لكنها طاقةُ انطلاقتها محوَّلة إلى هجوم، وقد باغتتني تامةً.

اهتزّ دماغي وضبُبت رؤيتي. إيذاء حواس مصّاص الدماء (الزائف) فعّالٌ حتماً─درسٌ من عطلة الربيع.

اضطررت لترك الذراع.

لأصدّ الركلة التالية.

مددتُ ذراعي كصليب وتلقيتُها، وبرغم ضعفها عن القذيفة اليسرى إلا أنّ الصدمة بعثرت أفكاري.

أيمكنه استخدام أكثر من ذراعه؟

ألم يقل أوشينو «وزن ميّت»؟ «…أيعني هذا ما أظن؟»

وجدتُ تفسيراً واحداً: إن كان وقود شيطان المطر هو السلبية البشرية، فهو يقتات على غيرة كانبارو نحوي؛ إن كانت قبضته كالمقلاع، فجسد كانبارو حاملةُ الطائرات. عاطفتها الملتهبة تُولّد بخار ضغطٍ عالٍ يمدّ عضلاتها. لذا لا يثقل الجسد الذراع، بل يهبّ للدفاع حين يضيق بالشيطان الخناق؟

لا، هذا تملصٌ من الحقيقة.

إن كنت سأغفر لكانبارو، فلا يصح التحايل على الواقع. ليس رد فعلٍ عصبياً مجرداً كنبضةٍ في ساق ضفدع.

بمعنى آخر:

ساقا كانبارو تتحركان بإرادتها. لإرادة سورُغا كانبارو نصيبٌ هنا. لاوعياً كانت ترفض─أن تخسر يدَ الشيطان.

أن تدع أمنيتها الثانية تُحبَط. أن تدعني أحيا.

لم تتخلَّ عن─سينجوغاهارا. «…عنادٌ مدبَّر».

أفهم شعوركِ، حدَّ الألم.

حدَّ أنّي أتألّم.

لأنني أنا أيضاً فقدتُ شيئاً، تخلّيت عنه، ولن أستعيده أبداً.

لسببٍ ما، تجمّد المعطف. بعد أن كان يلهث بلكماته المستقيمة كالمغناطيس لجسده، وقف ساكناً─كأنه يتساءل.

أو ربما،

متردداً.

حركاته الحازمة─توقفت.

…سورُغا كانبارو.

تلميذة هيتاغي سينجوغاهارا، نجمة السلة.

«أرجوك، اقطعها فحسب» قالت.

فور أن كشف أوشينو الحقيقة: أنّ ذراعها ليست «مخلب قرد» بل «يد شيطان»، وأنّ أمنياتها تحققت كما أرادت. بعدما كُشف هذا الواقع المرير، خفضت عينيها ثواني، ثم رفعت وجهها بشجاعة تنظر إلينا بالتناوب:

«لا أحتاج هذه اليد اليسرى».

للمرّة الأولى، بلا ابتسامتها المعهودة.

بنبرةٍ هادئة مسطّحة خالية من الانفعال─مصادفةً تشبه شخصيةَ أستاذتها التي تعجبها.

«أرجوكما، اقطعاها. أريدكما أن تفصلاها. أتوسل إليكما، أعلم أن الأمر متعب، لكن أرجوكما. لا أستطيع بتر ذراعي بنفسي…»

«ك-كفى».

عجلتُ بدفع ذراعها الممدودة نحوها. كان شعر الذراع مثيراً للاشمئزاز عندما لامس يدي. كان مقرفاً.

كان مُرعباً.

«توقفي عن السخف—لا يمكنني ذلك أبداً. ماذا عن كرة السلّة؟» سألتُها. «كما قال السيّد أوشينو تماماً. لقد حاولتُ قتل إنسانٍ آخر، وأرى أنّ هذا هو العدل.» «لـ-لا… حقّاً، كانبارو، الأمر لا يزعجني إطلاقاً—» كلامٌ مضحك، مهرّج. كم كنتُ بعيداً عن لبّ الموضوع؟ فليست المسألة إن كنتُ أتضايق أم لا، ولا إن كنتُ سأغفر لها؛ السؤال هو: هل تستطيع سورُغا كانبارو أن تسامح سورُغا كانبارو؟ الفتاة التي كانت تركض بلا انقطاع كي لا تُصيب زملاءها بأذًى، التي كبحت كلّ المشاعر السلبيّة وقهرتها… تلك الإرادة الصلبة قيدتها أيضاً، وجَلَدَتها.

قلتُ: «ع-عموماً، لا مجال لقطع الذراع. لا تكوني سخيفة. فيمَ تفكّرين؟ أنتِ حمقاء، حمقاء حقيقيّة، تبسيطُكِ مُخلّ. كيف تأخذين فكرة كهذه على محمل الجدّ؟» «آه، معك حقّ، بتر ذراعي ليس شيئاً أُلقيه على عاتق الآخرين لمجرّد طلبي. حسنٌ، سأجد طريقةً بنفسي. لا بدّ أنّ سيارةً أو قطاراً سيفي بالغرض.» «هذا…» سيارة أو قطار؟ ذلك يعني الانتحار… انتحاراً صريحاً.

تدخّل أوشينو مذكِّراً: «إن أرادت قطعها فهناك وسيلة جيّدة، أليس كذلك؟ لِمَ لا تخبرها يا أراراغي؟ يا لك من قليل مراعاةٍ لشخصٍ واضحٍ في ضيقٍ شديد. ما عليك إلاّ إقناع شينوبو بالتعاون؛ بضربةٍ من سيفها الثمين يمكننا فصل الذراع اليسرى بلا أن تشعر الآنسة بألم. قد لا يكون لسيف شينوبو حدّته السابقة، لكن قطع ذراعٍ نحيلة سهلٌ كقطعة حلوى، أو كشريحة توفو—» «اصمت يا أوشينو! هيه، كانبارو! كُفّي عن جلد نفسكِ! لا ينبغي أن تلومي نفسك إطلاقاً—أليس هذا بديهياً؟! كلّه بسبب مخلب القرد… أقصد، شذوذٍ يُدعى شيطان المطر—» «الشذوذ لم يفعل سوى تلبية أمنيتها، أليس كذلك؟» لم يصمت أوشينو، بل نسج كلماته بطلاقةٍ وإسهاب. «منحها ما أرادتْه فحسب، أليس كذلك؟ أما كان الأمر كذلك مع آنسة تسوندره الصغيرة؟ ليس كما حدث معك في عطلة الربيع، أراراغي، ولا يشبه قضيّة شينوبو… أنت لم تتمنَّ على شذوذٍ قطّ.» «…» «لذلك—أنت لا تفهم شعورها: لا ندمها ولا أسفها، ولو قيد شعرة.» أضاف: «بالمناسبة، في أصل حكاية “مخلب القرد”، بعد الأماني الأولى والثانية، كانت الأمنية الثالثة لصاحب المخلب أن يموت. لا أظنّني بحاجة لشرح الدلالة كاملة؟» «أوشينو—» ما قاله صحيح، لكنّك مخطئ يا أوشينو؛ فأنا أفهم… أفهم لدرجة الألم. مشاعر هيتاغي سينجوغاهارا… وسورُغا كانبارو أيضاً، حسناً؟ ربما أكون مخطئاً ومغروراً، لكننا نحمل الألم ذاته، نتشاركه.

قد يستخدم المرء غرضاً يحقّق الأمنيات إن أتته فرصة، حتى هانيكاوا الطاهرة الفاضلة أغواها القطّ بخيطٍ رفيع من التوتّر… علاقتي مع شينوبو في جوهرها لا تختلف عن علاقة سينجوغاهارا بسرطان البحر، أو كانبارو بالشيطان.

قالت: «لا بأس عندي، يا أراراغي». قلتُ: «أمّا أنا فلا—كيف لا أبالي؟ وماذا عن سينجوغاهارا؟ كنتُ أريد لكما—» «انتهى الأمر. بشأنها أيضاً. انتهى الآن.» بدا أنّ الكلمات تُؤلمها حرفياً. «لا بأس. سأتخلّى.» مستحيل؛ الاستسلام ليس بخير إطلاقاً. حقّقي أمانيك بيدك—أليس لهذا أعطتك أمّك شيطاناً مُحنّطاً؟ بالتأكيد ليس لتعلّمكِ التخلّي عن أحلامك— فلا تُظهري ذلك الوجه، لا تبدو حفرةً عميقةً مكان وجهك. لا يمكنك الاستسلام وأنتِ على وشك البكاء هكذا؛ شيطانٌ مطير… وشيطانٌ باكٍ.

أصلُه، كما يُقال، طفلٌ هرب من البيت في يومٍ ماطرٍ بعد شجارٍ تافه مع والديه، وضاع في الجبال وأكلته قرودٌ بريّة. عجيبٌ أنّ أحداً من أهله أو قريته لم يَعُد يذكر اسمه…

«…أيّها الوغد!»

لم أحتمل المواجهة الذهنيّة، ولا لعبة الظلال في رأسي؛ اندفعتُ إلى معطف المطر. للمرّة الأولى منذ البارحة أبادر بالهجوم لا الردّ. الضغط من وضعي الدفاعي طغى عليّ. يجب أن أطوّح به كما في الجودو أو المصارعة… حاولتُ تطويقَه بذراعيّ، لكنّه قفز—لصق قدميه بسقف الفصل وجرى هناك، طافراً في خرقٍ للجاذبيّة، ثمّ هبط، ثمّ وثب جانباً، وعلى اللوح، ثمّ على الألواح الخشبيّة في النافذة، ثمّ عاد إلى السقف… في كلّ الاتّجاهات، بسرعةٍ مذهلة. كالكرة المطاطيّة تنطّ من حائطٍ إلى آخر. لم تعد عيناي تلحقان به؛ تحوّل الحيّز المغلق—الذي ظنناه لجمَ سرعته—إلى ميزةٍ له.

قفز أخيراً نحوي، دحرج جسده في الهواء كضربة روكيت «سِباك تاكرو»، وغرس طرف قدمه في قمة رأسي؛ شعرتُ بجمجمتي تتصدّع. ثمّ ركبةٌ في ذقني. فقدتُ الوعي لحظةً، لكنّي لم أمت؛ شُفيتُ حالاً… جحيم الانبعاث. أسعفْ نفسك تُسحق مراراً.

واصلتُ التصدّي، لكنّ سرعته وحِدّة هجماته فاقت قدرتي؛ وبعد أن انغرست قدمه ثلاث مرّاتٍ في الموضع ذاته، اخترقت ركلةٌ أخرى صدري، فانهرتُ. لم يلتحم الضرر فوراً؛ رئتـي انهارت، وأوجعني التنفّس.

«…لأنكِ ببساطة،» قلتُ بصعوبة، «…لأنكِ لا تصلحين أبداً، سورُغا كانبارو!» لا أحد يمكنه استبدال آخر. سينجوغاهارا هي سينجوغاهارا، وكانبارو هي كانبارو، وأنا أنا.

توالت الضربات حتى مزّقت ملابسي—مع اقتراب التحوّل إلى الزيّ الصيفي! وكأنّني غير قادر على الصراخ من شدّة الألم. لكن ما دمتُ ألتئم فلستُ محاصَراً حقّاً… مجرد ألم، كقلب كانبارو، يعني أنّني حيّ.

سمعتُ صوتاً: «أكرهك.» تردّد من هوّة القلنسوة، يطرق عقلي مباشرةً: «أكرهك أكرهك…» حقدٌ يفوق طاقة فرد، مشاعر سلبيّة لفتاةٍ إيجابيّة، تغلي وتفيض. «لا أطيقك لا أطيقك…»

قلتُ: «كانبارو، آسف.» لم أجد فيكِ ما لا يُحتمل. غريمَي في الحبّ؟ ربما، لكن ألا يمكن أن نكون صديقين؟

صرخةٌ حادّة شقّت الفراغ، واخترقت ركلةٌ بطني—حرفيّاً؛ عبرت القدم جسدي حتى الجدار. سُحبتْ فشعرتُ بأحشائي تُنتزع. فتحةٌ كبيرة جعلتني على شفا الموت؛ ضربةٌ أخرى وتنتهي قصّتي…

لكن عندئذٍ توقّفت هجمات المعطف فجأةً. التجميد نفسه أصابني.

…انفتح باب الفصل. الباب الذي لا يُفتح من الداخل. دخَلت هيتاغي سينجوغاهارا بملابسٍ منزليّة. «يبدو أنّكما تستمتعان بدوني، يا أراراغي. مزعج.» بصوتٍ مُسطَّح ونظرةٍ باردة.

«س-سينجوغاهارا…» بالكاد نطقتُ. لماذا أنتِ هنا؟ أعرف الجواب: أوشينو استدعاها—عبث بهاتفي داخل الحقيبة التي أعطيتُه، طبعاً.

وثب المعطف إلى الزاوية البعيدة، كأنّه يخشى إيذاءها. لماذا؟ أكان وعي كانبارو يظهر؟ أم أنّ شيطان المطر مقيد بعقد؟ سينجوغاهارا تجاهلت المعطف وحدّقت فيّ: «إذن كذبتَ عليّ، أراراغي. خدعتني بحجّة اصطدامك بعمود هاتف وكتمتَ أمر كانبارو. ألم نتعاهد حين بدأنا المواعدة ألا نخفي شيئاً بخصوص الشذوذات؟»

ابتسمتْ ابتسامةً متجمّدة: «تستحق أن تموت ألف مرّة.» شعرتُ برعب لم أشعر به مع ضربات المعطف. ثمّ أضافت: «لكنّك على الأرجح متَّ فعلاً ألف مرّة. قد أعفو عنك هذه المرّة…»

انطلقت نحوي، وفي اللحظة ذاتها اندفع المعطف. سباقُ قدمَيْن لم يخُضاه في المتوسّطة. وصل المعطف أوّلاً، رفع قبضته اليسرى للفصل الأخير، لكنّ سينجوغاهارا وقفت بيننا؛ ارتدّ المعطف فجأةً كأنّه يخشاها!

«يا أراراغي، لو متَّ فماذا كنتَ تظنّني سأفعل؟ سأقتل كانبارو، قطعاً. ألستَ تحاول جعلي قاتلة؟» لقد كشفتنِي.

تقدّمت بخطوة ثابتة نحو كانبارو المطروحة، التي أخذت تتراجع زحفاً كما لو أنّها مرعوبة منها. قال شذوذ العقل إن هذا بفعل عقد الأمنيتين: فلو آذى سينجوغاهارا لبطل الوجه الأمامي للرغبة.

قالت: «مرّ زمن يا كانبارو. يسعدني أنكِ بخير». ثمّ انحنت فوقها وضمّتها بلطف، قابضةً الذراع اليسرى الشيطانيّة واليمنى البشريّة معاً. دبّستها؟ لا، لم تحمل دبّاستها هذه المرّة.

همست كانبارو من تحت القلنسوة، بصوتٍ مرتجفٍ باكٍ: «إنّي… أحبّك.» ردّت سينجوغاهارا مباشرةً وبنبرتها المعتادة: «أنا، لستُ كذلك كثيراً. هل تبقين بجانبي مع ذلك؟ آسفةً لأنّي جعلتك تنتظرين طويلاً.»

…يا لها من حمقاء. قمّة الحماقة! كنتُ أنا المتفرّج البائس هنا، أراقب مشهداً صافياً لامرأتين. لو كنتُ أوشينو لوضعت سيجارةً غير مشتعلة بين شفتيّ وتظاهرتُ بالعبثيّة، وسألتُهما إن كان حدث أمرٌ طيّب… لكن للأسف، أنا قاصر.

2025/07/08 · 2 مشاهدة · 3347 كلمة
Doukanish
نادي الروايات - 2025