كانت سماء الشمال رماديّة كعادتها، والرياح القارسة تحمل معها زخّات الثلج.
كان علم أسود يُخفض ببطء مع نغمات جنائزيّة مهيبة.
"إنّها ابنة عائلة كارديل!"
"ألم يُقال إنّها اختفت بعد الطلاق ولم يُعرف مصيرها؟"
"يبدو أنّها كانت على قيد الحياة. لم تظهر عندما بحث عنها والدها بلهفة..."
"ألا يجب إبلاغ دوقيّة كارديل؟"
"وما بال مظهرها هكذا؟"
أدركت أوديلي الضجيج المحيط بها متأخّرة.
لكنّها لم تهتمّ بما يتفوّهون به.
كانت عيناها مثبتتين على النعش في وسط القاعة.
كأنّ شيئًا جذبها، تقدّمت بخطى متردّدة.
عندما اقتربت من النعش، رأت مشهدًا لا يُصدّق.
كان مستلقيًا، محاطًا بزهور بيضاء ناصعة، وكأنّه نائم.
لودفيل إكسيبسيون، زوجها السابق.
اختفت آثار الدم والغبار من ساحة المعركة، تاركة إيّاه هادئًا ومرتبًا.
كأنّه وجد السلام والراحة بعد الموت فقط.
تذكّرت أوديلي حديثها مع المساعد في العربة:
"قال جميع الخبراء إنّ سبب الوفاة غير معروف. هناك حديث عن انتحار أو قتل ، لكنّ الحقيقة لا يعلمها سوى الدوق الأكبر"
كان المساعد يبدو وكأنّه يتوقّع منها معرفة شيء ما.
لكنّ أوديلي لم تكن تعرف شيئًا عن لودفيل.
كان زواجهما مجرّد عقد.
إذن ...
هو بالنسبة لها ليس سوى غريب.
'لكن لمَ فعلتَ ذلك؟'
لم تستطع أوديلي فهم لمَ ترك لها كلّ تركته و غادر.
حتّى في هذه اللحظة، وهي واقفة في قاعة الجنازة.
"أوديلي، اعتبارًا من اليوم، تمّ إنهاء عقدنا."
"هذا هو المقابل المتّفق عليه. خذيه."
"لم يكن يهمّ من تكوني."
"لن نلتقي مجدّدًا."
هل كان قوله إنّهما لن يلتقيا مجدّدًا يعني هذا؟
أرادت أن تسأل.
لكنّ من يجيب على سؤالها لم يعد موجودًا في هذا العالم.
لم تتمكّن أوديلي من قبول حقيقة موته إلّا عندما هبط النعش الأسود ببطء إلى الأرض.
حتّى انتهت الجنازة ، بقيت كالمسمار المغروز في الأرض ، غير قادرة على الحركة.
لم يتمايل سوى طرف ثوبها الأسود مع نسمات الريح الباردة.
********
كان لقاؤها الأوّل به قبل ستّ سنوات.
كان الميدان يغلي بحماسة المهرجان.
ففي مثل هذا الوقت من كلّ عام ، كانت تُقام طقوس عظيمة.
"انظر هناك!"
على السور ، اصطفّ السحرة بأزيائهم البيضاء في دائرة طقسيّة.
"يا من ورثت دماء القدماء ، يا شعلة التطهير"
"احمِ هذه الإمبراطوريّة من الأشياء النجسة"
بينما كانت التعويذات تتردّد كترانيم ، برز رجل في الوسط بوضوح.
شعر فضيّ مقدس يتطاير مع الريح ، و صوت منخفض و قويّ يتردّد بين الحشود.
"وفقًا للعهد الأوّل ..."
كان غاوين كارديل ، وريث عائلة كارديل ، المعروف بمبعوث الحاكم.
قبل مئات السنين ، كادت إمبراطوريّة لومينير تنهار بسبب كائنات غريبة تحمل طاقة شريرة.
في تلك الأزمة، نشر تنّين يقدّس كَحاكم ، حاجزًا سحريًّا عبر الإمبراطوريّة بأكملها، حاميًا إيّاها من التهديدات الخارجيّة تمامًا.
لكن، مع مرور الوقت، فقد الحاجز قوّته.
وعندما ازداد قلق الناس، ظهرت عائلة كارديل.
العائلة الوحيدة القادرة على استخدام السحر القديم.
كانت عائلة كارديل تتولّى طقس إصلاح الحاجز سنويًا ، و أصبح الناس يسمّون ذلك اليوم "يوم الحماية".
و هكذا استمرّ هذا التقليد حتّى اليوم.
"أيقظ الحاجز المقدّس مجدّدًا."
تحت قدمي غاوين ، أضاءت الحروف القديمة كأنّها حيّة ، و ارتفع عمود من الطاقة السحريّة الذهبيّة نحو السماء.
في تلك اللحظة ، ظهر الحاجز بشكل خافت.
حاجز على شكل قبّة زجاجيّة لامعة.
دليل على أنّ الإمبراطوريّة لا تزال تحت حماية التنّين.
نظر الحشد إلى هذا المشهد بعيون مليئة بالرهبة.
"بسلاسل الأبديّة، أربط هذه الإمبراطوريّة."
في اللحظة التي أنهى فيها غاوين تعويذته الأخيرة، اتّحدت الأضواء من أيدي السحرة، وقطعت السماء.
انتشر الوميض الذهبيّ على طول السور، وبرزت معالم الحاجز بوضوح حتّى أفق السماء البعيد.
مع اختفاء الوميض، أصبح الحاجز شفّافًا، مختفيًا عن الأنظار.
لكنّ الجميع كانوا يعلمون.
هذا الحاجز سيضمن سلام عام آخر.
"عاشت عائلة كارديل!"
"يا سليل التنّين، يا دماء الأبطال، عاشت!"
"المجد لإمبراطوريّة لومينير!"
غرق الميدان في صخب الاحتفالات.
لكن ، في الأعماق ، في مكان سرّيّ لا يمكن الوصول إليه إلّا بعد إجراءات أمنيّة معقّدة ، كانت أوديلي محبوسة.
"كح ...!"
تبلّل طرف فستانها الأبيض بالدم الأحمر.
مسحت فمها بظهر يدها ، فسال الدم بين أصابعها.
هذا كان دور أوديلي.
سليل التنّين؟ السحر القديم؟
كلّ ذلك كان خدعة عائلة كارديل التي استمرّت مئات السنين.
السحر القديم الذي يحمي الإمبراطوريّة لم يكن سوى وهم ، مجرّد مسرحيّة متقنة.
كلّ ما في الأمر هو وجود ضحيّة تُقدّم جسدها لجعل هذا العرض مقنعًا.
'هذا العام ... قاسٍ بعض الشيء.'
تمتمت أوديلي في سرّها و هي تبتلع الدم.
كان حلقها يحترق.
في عائلة كارديل ، كان يولد في كلّ جيل شخص واحد يمتلك "قدرة التطهير".
أُطلق على هؤلاء الذين يستطيعون تطهير كلّ الشوائب في العالم اسم "المطهّر".
و في يوم الحماية كلّ عام ، كان يُحشر كلّ ما يُعتبر شرًا في جسد المطهّر.
تضحية أحاديّة من شخص واحد من أجل عائلة استمرّت مئات السنين.
هذه هي الحقيقة وراء الحاجز القديم الذي تفخر به عائلة كارديل.
"كح، كح!"
تقيّأت أوديلي الدم مجدّدًا.
عمر المطهّر لا يطول.
في أحسن الأحوال ، حوالي الثلاثين ...
بعد موتهم ، يولد مطهّر جديد يحمل تلك القوّة في الجيل التالي.
كأنّ السماء نفسها تدعم هذه الدورة القاسية.
'كم سأصمد بعد؟'
استندت أوديلي إلى الحائط و أغمضت عينيها ببطء.
ومضات الضوء كانت ترقص داخل جفونها كالنيران.
فجأة ، سمعت صوت قفل يُفتح.
في هذا المكان الذي لا يدخله أحد.
'غاوين؟'
هل جاء ليتمادى في ظلمه؟
فتحت أوديلي عينيها بصعوبة.
في رؤيتها المترنّحة ، بدأ وجه الشخص يتّضح تدريجيًّا.
"...!"
رجل غريب ، لكنّه ليس بغريب.
لودفيل إكسيبسيون.
دوق الشمال الحديديّ.
شخصيّة معروفة بمعانٍ عدّة.
تساءلت أوديلي لمَ هو هنا ، لكنّها لم تملك القوّة لتسأل.
نظر إليها لودفيل بلا مبالاة ، ثمّ قال بهدوء: "لديّ اقتراح."
"..."
"مدّته خمس سنوات."
كان يتحدّث كمن قدّم هذا الاقتراح مئات المرّات.
بصوت جافّ خالٍ من العواطف ، تابع بنبرة ملل: "إذا أدّيتِ دور سيدة عائلة إكسيبسيون بنجاح لخمس سنوات، سأقطع كلّ صلة لكِ بعائلة كارديل"
"..."
هل هذا عرض زواج؟
اعتقدت أنّه جنون ، أمر لا يُعقل.
لكنّ كلماته التالية جعلتها تتوقّف.
"إذا استمرّ الأمر هكذا، ستموتين خلال عام"
رمشت أوديلي بعينيها. الرجل أمامها لم يختفِ.
لم يكن وهمًا.
'خمس سنوات ...'
في وقت لم تكن متأكّدة إن كانت ستصمد هذا العام ، بدت المدّة بعيدة جدًا.
و مع ذلك ...
"يبدو أنّه لا مجال للتفكير"
لو استطاعت ، قبل موتها ، أن تقف تحت أشعّة الشمس الحارّة ، و تشعر بنسيم بارد ...
أن تعيش يومًا عاديًّا ...
"نعم، لا مجال."
"جيّد."
النور ، الخلاص.
كان بعيدًا كلّ البعد عن مثل هذه المعاني.
"هل تستطيعين الوقوف؟"
"نعم."
"إذن، قومي."
"نعم."
لم يكن هناك عزاء دافئ ، ولا يد ممدودة.
و مع ذلك ، شعرت بحضوره بوضوح غريب.
رفعت أوديلي جسدها المتهالك ببطء.
لم ينتظرها لودفيل ، بل استدار و مشى دون تردّد.
عندما فتح باب الغرفة السريّة المغلق ، تدفّق نور قويّ لدرجة أنّه أعمى عينيها.
أغمضت أوديلي عينيها غريزيًا.
عندما استطاعت فتحهما أخيرًا ، رأت شعاعًا من الضوء و غبارًا ذهبيًّا يتماوج كالموج.
"..."
كانت حياتها خالية من الأمل والتوقّعات.
فلمَ شعرت فجأة برغبة غير مبرّرة في العيش؟
أخذت أوديلي نفسًا عميقًا للمرّة الأولى ....
كان يحمل أملًا خافتًا.
صغيرًا جدًا ، لكنّه واضح.