سقطت الكلمات التي تفوه بها العجوز عليّ كالصاعقة كيف تكون تلك الهالة و الضغط الناتج عنها مجرد مشاعر ، ان كان كذلك حقا فماذا عن قوته الحقيقية !

وبينما انا منغمس بتفكيري اشار بيده لجلب انتباهي و قال :

" لا عليك ماكري ستصبح أقوى "

"شكرا سيدي العجوز ". أجبته

بدت طريقة مناداتي له غريبة بعض الشيء استنتجت ذلك من ملامحه التي تدل على استغرابه فقال :

" يمكنك مناداتي أيور " . ثم صمت قليلا و أضاف :

" القمر الصغير ، هكاذا سماني سيدي " نطق تلك الكلمات و الحزن يثقل كاهله .

(ملاحضة : " أيور " .. كلمة امازيغية تعني القمر )

" شكرا سيد أيور " قلت له بلهجة تراعي حزنه .

واصلنا المشي حتى بلغنا درجا يقود الى عرش صخري توقفت اسفله و صعد العجوز ثم جلس .

كنت أنتظر ان يخبرني بما يجب علي فعله فعلى عكس الطابق الأول توجد هنا هذه الروح التي من المرجح انها سترشدني .

رمقني بنظراته و قال مشيرا بيديه الى اسفل الجبل على يمينه :

" إن لم تتحرك الان سيُقتل أشخاص لا ترغب في موتهم "

تفاجأت حين قال ذلك كان من المرجح اني وحيد هنا و ان كان هناك احد اهتم به فسيكون زوجتي و ابني و لا احد يعلم اين هما أردت سؤاله لكنه أغمض عينيه مجيبا بالرفض ضمنيا فما كان لي سوى ان اسرع فيكاد الفضول ينال مني و من جهة اخرى القلق بدى على مُحيَّاي ، كيف لا و شخص اهتم به سيموت .

انطلقت مباشرة نحو المنحدر حيث يوجد مسرب ترابي يدور حول الجبل لم تكن هناك اي عوائق تذكر فقط تجنبت الحافة فقد كنت أشعر انها ستنهار بأي لحضة و حين قطعت نصف المسافة تمكنت من رؤية ما يوجد اسفل الجبل ، لاحظت بناية قرب نهر صغير وسط غابة ، لا متناهية مساحتها ، حسب مدى رؤيتي الحالي فقد حجب الضباب المكان حولها .

لم يكن الأمر عسيرا لذا عرفت وجهتي و واصلت الركض . بعد عدة دقائق كنت قد وصلت الى الربع الأخير و حينها شعرت أن الضباب ارتفع و التصق بالسحب التي تحوم حول الجبل .

و بدأت الذكريات القديمة تتدفق في عقلي ، فما كان أمامي الآن هو مسقط رأسي قرية تطل على البحر الأبيض المتوسط و ما جعلني أتأكد من الأمر كان المعبد الذي شيدته " تانيت " آلهة الحب و الخصوبة الرومانية حين مرت من هنا ، تنفسي تصاعد فقد مر وقت طويل منذ رأيت هذا المكان

" قرطاج العظيمة " . قلت ذلك برهبة فقد كانت عظمة المكان و تاريخه يستحق ذلك

تذكرت طفولتي حين أخرج للصيد في غاباتها و بحارها و الهدوء الذي ينبعث منها ليلا و طيبة أهلها المهووسين بالفن و التجارة ، لكن ذكرياتي الجميلة لم تستمر كثيرا اذ انقطعت أنفاسي بعد ان مرت امامي تفاصيل لا اود عيشها مجددا ، بمجرد التفكير فيها انهمرت الدموع من عيناي تلقائيا

ففي هذا المكان حدث شيء جعلني ما أنا عليه اليوم .

في ليلة هادئة كنت مع عائلتي وسط كوخنا الصخري الذي اتذكر مشاركتي في بنائه فقد ساعدت والدي في حمل الصخور من الوادي رغم انها تقريبا في نصف حجمي حينها ، انا ، ابي و والدتي نجتمع حول النار كالمعتاد و نستمتع بشواء ماقمنا باصطياده و كانت اختي الصغرى تتحرك هنا و هناك تداعب الفنك الذي امسكته بالغابة ، عند انهائنا طلب مني والدي ان اقوم باطعام الماشية و أمُرَّ بالأسود التي يقوم بتربيتها لكونه قائدا عسكريا يستخدمها وقت الحروب ..

قمت بالوقوف و رأيت وميضا غريبا من النافذة تلاه نور قوي ، أخبرت نفسي حينها بأنه مجرد حريق لكن سرعان ما نفت اصوات الفرسان ذلك ، فقد دقت طبول الحرب ، كان ذلك اليوم المشؤوم ،

حاولت العودة الى رشدي .. حالتي الهستيرية لا توصف حين كنت اشاهد هذه الذكريات كما لو اني افقد صوابي حتى أني نسيت ماكنت أفعله هنا أسفل الجبل وقد ساد ضلام الليل ، فارتأيت أن لا أتوقف فيجب ان اصل بأقصى سرعة الى وجهتي ،

بووم ، صوت قذيفة المنجليق تابعه ضوء ضخم ، كانت القرية تشتعل ، و سمعت صراخا يُردد بتناغم :

" فلتحيا رومانيا " .

طغى التوتر علي كانت هذه الأحداث هي نفسها من الماضي ، لقد تذكرت ما قاله العجوز لي ، لكني حاولت جاهدا اقناع نفسي بانه يمزح او يكذب ، ايا يكن ذلك فلا يجب ان يحدث الامر ثانية ، فقدت كل تفكيري المنطقي تقريبا اسرعت مباشرة الى القرية فقد بقيت بضع مئات الامتار لوصولي الى هناك .

كل ما راودني الان هو انقاذ القرية من الدمار كان ذلك هدفي منذ ان كنت صغيرا ، في تلك الليلة تمنيت ان اصبح اقوى لأقاتل رفقة أبي و بقية الرجال و ها قد أتت الفرصة أمامي حتى أتخلص من الكارما التي لازمتني طوال حياتي .

حين وصلت كان المشهد مهولا ، القتلى في كل مكان لدرجة ان النهر الذي يشق القرية يضهر احمرا حيث سالت به دماء الموتى فوق الجسر مع انعكاس القمر فيه ، سللت سيفي و تقدمت مباشرة نحو الأعداء وحيدا انحر اعناقهم به و استخدمت خنجري بيدي الاخرى .

ثم فجأة دق الجرس الضخم الذي في برج المذبح و رأيت شخصا مألوفا يقف هناك مترسا بالدروع و يحمل صبيا فوق كتفه و يصرخ :

" لا تقتلوا اكثر نحن نستسلم " . كان ذلك والدي و انا من كنت على كتفه .

انسحبت بسرعة من المعركة ، و حاولت التقدم الى ناحيته حتى اشاهد عن كثب .

تقدمت عربة نحو المذبح كانت لقائد الهجوم ، أذكر تلك اللحضة حيث كنت فوق كتف والدي اشاهد طفلا في نفس عمري ذو ملامح انثوية يحمل تاجا فوق رأسه يخرج من العربة و توزع جنوده حوله يصرخون رافعين سيوفهم :

" من أجل القيصر " .

ابتسم لهم الطفل و تقدم نحو والدي و الطفل قائلا :

" توقعت ان تكون أذكى و تعلن عن ذلك باكرا "

نظر اليه والدي بحقد كبير ثم تراجع قليلا و اجابه :

" هجوم غادر بدون ادنى فرصة للتفاوض او الاستسلام "

قهقه الطفل و قال :

" سأعتبرها مجاملة ، انت محارب جيد يجب ان تعرف ان الحرب بدون قواعد .. "

" أجل هي كذلك الحرب بدون قواعد و لكن المحارب ليس كذلك " . قاطعه والدي

نظر القيصر الى والدي بعينين شبه مغمضتين و قال : " انضم لي انت شخص قد احتاجه و سأعوض الجميع عن ما حدث اليوم "

كنت أعلم ان والدي سيقبل ذلك مضطرا فلو رفض سيقتل الرجال هنا و يغتصب النساء لذلك فكّر كإنسان اولا و كأب يحمل ابنه فوق كتفه و زوجته و ابنته ينتظران عودته اليهما و اختار الانصياع لقد رأيت ذلك حين كنت على كتفه و لازلت اتذكر جيدا مشاعري الحاقدة و التي اضفت اليها ما اشعر به الان ، لم ارد رؤية ذلك مجددا .

اندفعت بخطوة واحدة وجدت نفسي وراء القيصر و غرست سيفي بأكمله عوديا نحو عنقه .

تدفق الشعور بالراحة كما لو اني ازحت جبلا من فوق ضهري حتى اني اغمضت عينيا استمتع بتلك اللحضات الرائعة ، تذوق الانتقام كشرب نبيذ عمره الف عام .

" لقد تخلصت الان من نصف ما يثقل كاهلك ، و اتقنت خطوة الاغتيال ، الان يجب ان يصقل سيفك بالدم، أُقتل " . ضهر صوت العجوز في ذهني

استدرت وسط دهشة كل الحاضرين لم يعلم احد من انا ، كان امامي الف جندي مدرب بشدة و مجهزون بمعدات دفاعية راقية .

أخذت نفسا عميقا ثم تلاه صراخي :

" كلكم موتى " .

2022/02/08 · 143 مشاهدة · 1180 كلمة
Makri
نادي الروايات - 2025