وهما يمضيان في طريقهما بدأ نيكولاس بتذكر ما حصل منذ البداية، الحادثة التي حصلت بسببه كل هذه الامور له، قصة خفية .. قصة أب أحب عائلته لكنه تسبب في موتها!!

منزل متوسط تعيش فيه اسرة سعيدة مكونة من رجل وزوجته وابنتهم ذات السابعة عشر ربيعا، وكانت تسكن معهم امرأة عجوز هي جدة تلك الفتاة وأم الزوجة .. انه منزل نيكولاس ديميتروف قبل اثنتا عشر سنة من الان .

حياة بسيطة ذات روتين اعتيادي، وطاولة عشاء يملئها الضحك والسرور، رغم النجاحات التي حققها أفراد تلك الاسرة، الا ان ذلك لم يمنع التواضع والحياة البسيطة من الاختفاء في حياتهم، لأنهم يدركون أن البساطة لا شئ يضاهيها وأن القناعة كنز لا يفنى، وحياة الرفاهية الزائدة على اللزوم ليست معيارا ومقياسا للأرتقاء في المجتمع، بل أن الاخلاق والتعامل الجيد مع الاخرين هي ما ترفع من قيمتك عند الناس ..

هذه المبادئ سمعها وتعلمها نيكولاس عندما كان طالبا في الجامعة، وقد كان له زميل في غرفته يدعى ( سلطان فريد )، وكما يوحي اسمه فلقد كان كالسلطان في نظر ديميتروف وشخصا فريدا من نوعه كذلك، فالأشخاص الذين يعيشون بهذه المبادئ قل ما تصادفهم في الحياة، وفي يوم من الايام حين سأل ديميتروف صديقه سلطان عن سبب مقدرته في العيش هكذا رغم أن بلاده ليست بالمستقرة تماما، بل تملأها الازمات بعد فترة واخرى، أجابه أنه رغم كل ما يحصل في العالم من أحداث سيئة، الا أن تمسكه بعقيدته ومبادئه تجعله ينظر للحياة بمنظور مختلف ..

(إنك مفارقها، فلابد أن تجعل لك بصمة وذكرى حسنة يذكرك بها الناس، وهذه لا تتحقق بالمال أو الرفاهية، بل بما تقدمه للآخرين، ويشترط أن يكون بنية صادقة، لا رياء للناس).

هذه العبارة ظلت راسخة في ذهن نيكولاس، بل أصبحت احدى الاسس التي يعيش عليها، تخرج نيكولاس، وافترق عن زميله الذي تعلم منه أغلى درس ممكن أن يتعلمه، وبهذا اكتسح حياته وحقق نجاحات في تخصصه، التقى بتوأم روحه ونصفه الآخر واحبا بعضهما وتزوجها وكونا اسرة، وبعد فترة اتت تلك المخلوقة اللطيفة التي أسموها ماشا، لم يكن يوما أسعد بمثل سعادة هذا اليوم، علم زوجته المبادئ التي تعلمها، وربى بها ابنته ايضا، وهكذا نشأت هذه العائلة السعيدة، نيكولاس تعلم درسا ثمينا لكنه لم يرى الصورة الكاملة له، لأنه لم يفهم المغزى الحقيقي لهذه المبادئ ...

ليست هناك سعادة أبدية، ولا تكون الامور مثلما خططت لها، فكما أن هناك سعادة لابد من وجود الحزن فهكذا هي الحياة يوم لك ويوم عليك .. المبادئ التي آمن بها سلطان فريد كانت هي الحل لمواجهة هذه التقلبات، لكن لن يفهمها شخص لم ينشأ على هذه المبادئ وفهمها فهما كاملا، لهذا عندما أتت الايام السوداء على تلك العائلة السعيدة لم تكن ردة الفعل الناتجة منها الا عبارة عن تراجيديا مؤلمة، حولت تلك العائلة المتماسكة والسعيدة الى عائلة حزينة متفككة نادرا، ما ترى ابتساماتهم المعهودة، كانت هناك شعرة واحدة هي التي كانت تجعلهم مجتمعين .. ماشا !!

بدأ الامر عندما تعرضت بحوثات ديميتروف في مجاله الفيزيائي بالرفض فجأة بحجة أنها مسروقة من باحثين آخرين، وهذا لم يكن صحيحا، لكن عندما تكون الواسطة فوق الجهد والاجتهاد فهذه هي النتيجة، وكما قال أحدهم (حتى في الموسيقى صوت الطبل أعلى من صوت القانون)

كانت النتائج وخيمة على نيكولاس حيث أنه قد غرم بمبالغ وتعويضات مالية كبيرة، خسر كل شئ حتى أنه اضطر الى رهن بعضا من ممتلكاته في البنوك من أجل الاقتراض، زوجته والتي كانت ناجحة في مجال الطب فقدت مصداقيتها وطردت من أكثر من مكان، أصيبا باليأس لكن كانت هناك ماشا، ابنتهم التي يطمحا أن يجعلاها الافضل في العالم، وهذا هو حلم كل أب وكل أم، فمهما كانت نجاحاتهما فهما يطمحان لأبنائهم أن يتجاوزها، الجامعة التي قدمت لها المنحة رفضت أن تكمل تدريسها، مما جعل والداها يدفعان من أجل دراستها ودائما ما يطمئناها أن كل شئ سيكون على ما يرام، لكنها كانت تخفي هما عظيما في نفسها، تظن أنها مسؤولة نوعا ما في أزمة ابويها المالية ...

اضطر نيكولاس للدخول في أماكن غير مشروعة من أجل المال وتسديد ما عليه من ديون، تورط في عصابات وقمار وتجارة للممنوعات، ولم تكن زوجته تعلم بذلك، حتى اتت تلك الليلة حيث تأخر ديميتروف عن وقته المعتاد للعودة، وفجأة يسمع صوت طرق الباب، وبحذر قامت زوجته مينيرفا بفتحه، فإذا بنيكولاس قد تغيرت ملامح وجهه من كثرة الكدمات التي عليها، لم يكن لوحده فلقد كان معه رجل آخر مظهره يوحي بأنه رجل خطر كرجال العصابات والمافيا، فقال : أنا أعرف مكانك الان، وأعرف عائلتك، لذا توخ الحذر في التعامل معنا مرة أخرى.

ورحل بكل بساطة بعد قوله لهذه الكلمات ورميه لديميتروف على قارعة باب منزله، دخل نيكولاس مترنحا الى بيته وجلس على أريكته وطلب من مينيرفا أن تحضر له ثلجا لكي يكمد به نفسه من الرضوض والكدمات التي على وجهه، لكن منيرفا كان غضبها قد سيطر على عاطفتها وشفقتها، ولم تنفذ ما طلبه زوجها، وبدأت تصرخ بشكل هستيري عليه وتقذف بشتى أنواع السب والشتم ..

تصرف غير مقبول منها أبدا اتجاه زوجها ولكن المرأة تحكمها العاطفة قبل العقل، لقد شعرت بالعار من زوجها لأنه اضطر لسلك هذه الطريق السيئة، وأثناء ماهي تصرخ في زوجها قاطعها صوت أكبر من صوتها، صوت رجولي غليظ بقوله: اصمتي .. انت لا تعلمين مدى الصعوبات التي اواجهها حين أخرج من باب منزلي، احاول أن اجني المال من أجل ابنتنا ماشا وانتي لا تقدرين ذلك ....

وما زالا يصرخان في بعضهما البعض حتى أوقفهما صوت باب غرفة ماشا يغلق بقوة، لقد سمعت كل شئ ورأت كل شئ لكنهم لم يلحظوها ...

توجه كلاهما الى غرفتها يطرقان بابها ويعتذران منها، ارادا الدخول لكن الباب مقفل وأبت ان تفتح لهما، تضايق نيكولاس من ذلك وذهب الى الصالة وظل يدخن ويشرب على أريكته، بينما مينيرفا قد جلست عند باب الغرفة وغلبها النعاس هناك ..

وفي الصباح استيقظ نيكولاس على صراخ زوجته فتوجه بسرعة الى غرفة ابنته والتي كانت مصدر الصوت، ليجد زوجته واقفة مصدومة وتصرخ بشكل هيستيري، وحينما رأى ما تراه زوجته انصدم هو الاخر، كان منظرا مخيفا .. ماشا مشنوقة في غرفتها، استعملت احدى احزمتها وعلقتها في المروحة وصعدت على الكرسي ونفذت عملية إعدام بحق نفسها، أسرع نيكولاس لإنزالها لعله ينقذها، لكن الآوان قد فات، لقد ماتت.

قبل أن تشنق نفسها فتحت قفل غرفتها لكي يستطيع ابواها الدخول لرؤيتها بهذا الشكل عقابا لهما، وهذا ما كتبته في ورقة تركتها تحت الكرسي المستخدم في عملية الانتحار، ولقد أخذها نيكولاس وقرأها مما زاد من صدمته، وظل يصرخ ويصرخ ويصرخ، ثم التفت الى زوجته فوجدها مغشية على الارض، فطلب الاسعاف بسرعة لعله ينقذ زوجته على الاقل، وهكذا تم اسعافها.

وجد التشخيص أنها اصيبت بجلطة دماغية، وظلت مرقدة في المستشفى لفترة وجيزة لكنها لحقت بإبنتها ايضا ..

المعاناة المادية كانت سببا لهذه التراجيديا المؤسفة، لو أنه فهم ما قصده زميله سلطان منذ البداية لربما كان الوضع مختلفا مما هو عليه، لكن ما حدث قد حدث ...

(مجتمع لا يعي معنى العيش بشكل روحي وليس بشكل مادي لن يفهم المبادئ التي يؤمن بها سلطان فريد أبدا) هذه كانت كلمات نيكولاس ديميتروف في جنازة زوجته وابنته، لقد أدرك جزء من حقيقة هذه المبادئ ولكن بعد فوات الآوان .

وهكذا تحمل مسؤولية ما حصل وقرر في خوض رحلة البحث للعودة للماضي وتعديل أخطائه .

حينما كان بيزيتش وديميتروف يمشيان في طرقات المدينة، كان بيزيتش يحاول أن يفتتح محادثة مع ديميتروف لكسر التوتر الذي حصل بينهما في محل الساعات، لكن ديميتروف شارد الذهن بسبب الذكريات السيئة التي راودت خياله، فيقوم بيزيتش بوكزه على ظهره ليعود ذهنه مرة اخرى للواقع ويسأل بيزيتش: ماذا كنت تقول؟

- كنت أتساءل كيف تخطط للوصول للبروفيسورة مينيرفا ؟

- لا أعلم بعد، لكن أرجو أن نجد طريقة ما.

- رائع، لديك خطة ولا تعلم كيف تنفذها.

- لا تقلق، كل شيء بوقته.

- أتعلم أن البروفيسورة آيزينبيرغ في حصن منيع لن تقدر على اختراقه؟!

- يبدو أننا بصدد مهمة شب مستحيلة.

- لا تتحدث بصيغة الجمع.

- أنا جائع ...

- دعنا نذهب لنستريح ونأكل فأنا اعرف المكان المناسب لهذا.

- من بعدك فأنا أحتاج للطاقة من أجل التفكير.

ذهب كلاهما لأحد المطاعم وتناولا الطعام بعدها ذهبا لشقة بيزيتش ومكث نيكولاس عنده لفترة يحاول خلالها بمساعدة بيزيتش على إيجاد خطة من اجل الوصول لمنيرفا آيزينبرغ ...

2020/06/22 · 196 مشاهدة · 1269 كلمة
ykh_1997
نادي الروايات - 2024