منذ حادثة استعادة البروفيسورة مينيرفا من طرف الجلاد الاسود لم يعد ديميتروف الى منزل بيزيتش، اعتذر منه وطلب أن يكون لوحده، ومع ان بيزيتش كان متخوفا من قيام ديميتروف بفعل طائش الا انه اختار ان يثق به ويحترم رغبته في البقاء وحيدا لبعض الوقت .

كان في كل ليلة خلال ذلك الاسبوع يذهب الى منزل عائلة ديميتروف ويقف أمام الباب ولكنه لا يدخل ويعود أدراجه، لأنه يذكره بالماضي، صحيح ان المنزل كان يعتبر محظورا من قبل السلطات ولكن في ظل الاوضاع الحالية لا توجد حراسة عليه لذا فمن السهل دخوله ..

قرر أخيرا ان يستجمع شجاعته وفتح الباب بعد أن كان واقفا امامه عشر دقائق، البيت موحش ويملأه الغبار، والباب يصدر صوتا مزعجا عند فتحه، يخطو ديميتروف ببطئ نحو الداخل ويتأمل حوله، انها تعيد ذكريات مؤلمة جدا، لكنه تابع، يتفقد الغرف واحدة تلو الاخرى حتى وصل غرفة ماشا، تردد في فتحها والدخول اليها لكنه استجمع قواه ومد يده نحو مقبض الباب وفتحه، عيناه تقلصت بسبب الشعور بالخوف لأنه يرى هيئة شخص ما في الداخل، تجمد في مكانه لوهلة من ثم حاول أن يخرج مسدسه من خصره، الا انه لم لكن سريعا كفاية، فلقد كان الشخص الغريب مسلحا أيضا وأشار بسلاحه نحوه وما كان له ان يفعل الا ان رفع يديه عاليا على هيئة الاستسلام، وقال بصوت متردد: أ..أنا مجرد متشرد.. يبحث عن مأوى في ظل الفوضى!!

أنزل الشخص الغريب سلاحه ثم نطق بصوت أنثوي بارد: لقد نلت مبتغاك.

تفاجأ ديميتروف بما قالته، لقد كان الصوت مألوفا وظل محدقا نحوها محاولا أن يتبين ملامحها حتى أظهر ضوء البدر في تلك الليلة الداخل من خلال نافذة الغرفة بعضا من ملامحها المميزة بنظرتها الباردة وشعرها القصير، انها ماشا ديمتروف، نسخة ابنته في هذا العالم !!

اقترب ببطئ نحوها حتى بانت ملامحه لها، تفاجأت انه يشبه والدها تماما، الفرق بينهما أن الذي امامها له لحية على وجهه وشعره أشعث وعليه ملابس عادية ليست فاخرة كوالدها ويميزه معطف المختبر الذي يرتديه دائما .

يقترب نحوها والدموع تملأ عينيه اشتياقا وحبا لرؤية ابنته مجددا يريد أن يلامس وجهها ويربت على رأسها وشعرها .. يريد أن يحتضنها لأطول فترة ممكنة، ولقد نال مبتغاه حين وصل اليها وأخذ يضمها لصدرها وهو يبكي ولا يقدر أن يوقف دموعه المنهمرة حزنا وندما لأنه فرط في هذه اللحظات في الماضي .

لم تفهم ماشا ما يحصل الا ان الغريب انها لم تبدي رد فعل عنيف، بل بالعكس لقد شعرت بالألفة ولم تشعر بالريبة من فعل هذا الرجل الذي لم تلتقيه من قبل، ثم قالت له: لديك رائحة أبي.

هذه الكلمات وقعها كبير وثقيل على مسامعه مما زاد من حدة بكائه واستمر في ضمها والتربيت على رأسها و شعرها لبرهة ... وبعد لحظات تركها وجلس على الكرسي يمسح دموعه ويحاول ان يستعيد أنفاسه، من ثم اعتذر عن فعله وبرره بأنها ذكرته بإبنته المتوفاة، من ثم سألها: لماذا لم تدفعيني بعيدا حينما ضممتك؟

أجابته بنبرتها الباردة : لا أعلم، لكنك ذكرتني بأبي فهو دائما ما يعاملني هكذا وخصوصا أنك تشبهه كثيرا.

شعر ديميتروف بوخزة على صدره عند سماع اجابتها، واقشعر جسمه كله وشعر بببعض الندم يتخلل روحه، ثم قال لها: هل تريدين سماع قصة ابنتي المتوفاة؟

نظرت اليه وعينها تجيب بدلا من فمها، فلقد كان للفضول الغلبة في تلك اللحظة، عندها ابتسم ديميتروف ابتسامة مختلطة مع حزن شديد وبدأ يحكي لها القصة من بدايتها دون ان يذكر الاسماء، وحينما انتهى قال لها: لهذا قررت في السعي لتغيير ما حدث وتغيير الماضي وانقاذ ابنتي ووالدتها.

كان الرد صادم من ماشا والذي لم يتوقعه ديميتروف حيث قالت: أتعاطف مع ما حصل لك ولعائلتك، ولكن انت ضعيف، وعائلتك أيضا ..

لولا ضعفكم لما حصل كل هذا، ولا يمكنك تغيير الماضي وانقاذ عائلتك فهذا مستحيل ... ماحدث قد حدث.

لقد أخذت العبرة تخنق ديميتروف من ردها، مع أنه قاسي جدا لكنه أصاب الصميم، لقد كانت هذه الفكرة تراود ديميتروف، ولكنه دائما ما يجعلها آخر ما يفكر فيه مقنعا نفسه بإمكانية التغيير .

شد ديميتروف على قبضتيه ثم سألها بنبرة تتقطع من الحزن والغضب: أخبريني، مالذي يجعل والدك أقوى مني ؟

أجابته : والدي أقوى منك من نواحي عدة، رغم كل الازمات التي أصابته الا أنه لم يستسلم بل ظل يخطط ليستعيد ما هو حق له.

قال لها: بما أنني أخبرتك عن قصتي، فلماذا لا تخبريني عن قصتك؟

نظرت اليه والصمت هو سيد الموقف، ثم نطقت : ماذا تريد أن تعرف عن قصتي ؟

- اذا كان بالامكان ان تحكيها كلها فسيكون هذا رائعا.

- رائعا، الشخص الرائع في قصتي هو والدي، الدكتور نيكولاس ديميتروف.

قطب ديميتروف حاجبيه وسألها : ما الرائع في والدك، انه شخص يعرض من حوله للخطر!

أجابته بنبرة واثقة : انه لا يعرضنا للخطر، وانما الخطر هو من تعرض له، لهذا يجب أن يكون هناك رد فعل مباشر وهذا ما يفعله أبي.

استغرب ديميتروف من كلامها وشدد لهجته وكرر سؤاله : ما المميز في والدك، ما الذي يجعله أفضل مني ؟

أجابته : سأخبرك بقصة والدي ...

وبدأت تسرد قصة والدها لنسخة والدها من عالم آخر وقالت : قبل أن أولد وأرى هذه الحياة، وقبل أن يلتقيا من هما سبب في وجودي في هذا العالم، نيكولاس ديميتروف كان ما زال طالبا في الجامعة بتخصص البيولوجيا والهندسة الوراثية ، متميزا عن بقية طلاب دفعته، عبقري ولديه أفكار أدت الى جذب اهتمام علماء كبار في نفس تخصصه وقد ساعده ذلك في اتمام دراسته الجامعية والذهاب للتدرب مع هؤلاء العلماء ومرت السنوات حتى اشتد عوده وأصبح مستقلا بنفسه، وخلال تلك الفترة التدريبية التقى بتوأم روحه (مينيرفا آيزينبيرغ)، والتي هي أمي، ولم تمضي فترة طويلة حتى تزوجا وكونا أسرة وبعد سنتين رزقا بمولودة أسموها ماشا، كنا نعيش حياة سعيدة جدا .

كان والدي يقوم بدراسة وبحث عن طريقة يعزز بها الجينات البشرية مما يجعلها مقاومة للأمراض المستعصية، وبمساعدة والدتي وخلال سنوات من الجد والبحث والدراسة نالوا ثمرة عطائهم، ووجدوا ضالتهم وقرروا عرض هذه الأبحاث على الحكومة لمساعدتهم، وحينما رأوا النتائج التي أبهرت الجميع تم توظيفهما في الحكومة، وأخيرا وجدوا الأرض التي سيزرعون فيها بذرة جهودهم المضنية خلال تلك السنين، وبدأ حصاد ما زرعوه، لكن لم يعلمان أن السماد المخصص لهذه الأرض كان مسموما ..

طلبت الحكومة من والدي أن يسخر بحثه في الجانب العسكري ويعزز قدرات الجنود مما يؤدي الى ظهور جنود خارقين، حيث أن قدراتهم معززة من الناحية البديهية والحركية وحتى القدرة الشفائية، لكن والدي رفض ذلك وأخبرهم ان أبحاثه من اجل انقاذ الناس لا من أجل التسبب في مقتلهم، وهنا كانت نقطة التحول، فقد تم سرقة أبحاث والدي والتشهير به على أنه محتال يحاول سرقة ابداع غيره، وهكذا بدأت سمعته تنهار في المجتمع مما سبب له اكتئاب شديد لكنه قرر أن يتجاهل الأمر ويعيش بعيدا عن كل هذا، لم يكن الامر يستهدفه فقط، فلقد طردوا والدتي أيضا وتم طردي من المنحة الدراسية الخاصة بي..

وفي احدى الليالي وحينما كنا نتجول في السيارة فإذا بشاحنة تصطدم بنا بقوة .. لقد كان حادثا مروعا، لا اذكر ماحدث حينها، جزء من حياتي يغلفه السواد، بعدها أتذكر رؤيتي لسقف غرفة بيضاء ..

صحيح انها غرفة المستشفى، فلقد كنت طريحة الفراش هناك وكان والداي جالسان بجانب سريري والدموع تملأ عيونهما ،وبدءا باحتضاني بشدة، أردت ان احضنهما أيضا لكني لم أستطع ذلك، لم استطع تحريك جسدي، حينها أدركت انني مشلولة لا أستطيع الحراك، تحطمت احدى فقرات عمودي الفقري أثناء الحادث، لقد كانت اصابتي هي الاصابة البليغة في ذلك الحادث، أما والداي فلقد نجيا بأعجوبة بإصابات ليست بالخطيرة .

لقد أيقنت أن حياتي انتهت وأنه ليس هناك سبب لأبقى على قيد الحياة فأنا كنت شبه ميتة، ومرت الأيام ولم يتغير شيء، حتى أتى ذلك اليوم الذي دخل فيه والدي الى غرفتي لوحده ولم تكن أمي موجودة معه، أتذكر ملامح وجهه الغاضبة والحزينة ثم جلس بجانبي وظل محدقا نحو النافذة لبرهة من الزمن وهو يربت على رأسي كعادته عندما يفعلها كل ليلة قبل النوم، ثم نظر نحوي وقال لي (ليس هناك خيار آخر)، وبعدها لا أذكر شيئا مما حصل حتى رأيت النور من جديد، ولكن في غرفة مختلفة تماما وكأنها تحت الأرض، ولكن الأغرب هو ما حصل معي، لقد كنت أشعر بقدمي تتحرك بعد أن نسيت ذلك الشعور، ثم حاولت الوقوف والتحرك في الأرجاء ولقد نجحت في ذلك، لقد كان شعورا لا يوصف لكنني لم أستطع أن أعبر عنه، لم تكن هناك دموع فرح أو ضحكات سعيدة، فلقد كنت ببساطة هادئة، متبلدة المشاعر لا أعرف كيف أعبر عنها، شعرت بعد ذلك بشخص يقف خلفي، فالتفت نحوه، لقد كان والدي يقف بتلك الوقفة المهيبة يلبس تلك البدلة الفاخرة والقبعة السوداء التي زادت من أناقته وهيبته، فرد ذراعيه كمن يحاول أن يقول (اقتربي)، فاقتربت حتى وصلت اليه واحتضنني بشدة، لقد شعرت بالدفئ و الأمان حينها ولم يكن هناك شئ ينقصني سوى حضن من والدتي فقط، لهذا سألته عنها فأجاب أنها تؤدي مهمتها ويجب علينا الانتظار حتى يأتي الوقت المناسب لإنقاذها، لم أفهم ما كان يقصده حينها، لكن وثقت في كلماته وعلمت فيما بعد أنني كنت في غيبوبة طويلة بسبب عملية اجراها والدي على جسدي لكي أستعيد قدرتي على المشي، ولكنه لم يكتفي بذلك، فلقد نفذ ما اكتشفه من دراسته وعزز قدراتي كاملة، أو بمعنى آخر لقد جعلني جنديته الخارقة، ومع تقدم الايام اكتشفت أنه هناك شخصا آخر قد تعرض للعملية بل انه أجراها قبلي وكان يسمي نفسه (الجلاد)، لقد كان هو التجربة للعملية قبل أن يتم تنفيذها لي ..

ثم علمت أن والدي يخطط للانتقام من الاشخاص اللذين طعنوه في ظهره وتسببوا في طرده وتشويه سمعته، ولم يكتفوا بذلك بل انهم خططوا لقتله في حادث، لكن لسوء حظهم نجا بأعجوبة، وتسببوا في شلل ابنته، لهذا فقد اكتفى من السكوت وقرر أن يتحمل لقب الارهابي من أجل الانتقام، وفقد زوجته جراء كل هذا من أجل حمايتها، واستغل وقته جيدا في التخطيط للانتقام و استعادة ما هو حق له، ولقد أتى هذا الوقت أخيرا .

شد ديميتروف على قبضته وقطب حاجبه وعض على شفته بغضب، ثم صرخ قائلا : كل هذا الهراء ولم أرى المميز في والدك، أفعاله ستسبب في مقتلك تماما كما حصل معي، ما الشيء الذي يجعله أقوى مني و أفضل مني؟

ظلت ماشا تنظر اليه بنظرات الشفقة وردت عليه بهدوء : اذا لم ترى الفرق بينكما فهذه دلالة على جهلك.

كانت عبارة صادمة لم يستطع ديميتروف أن يرد عليها، لقد كان الفرق واضحا ولكنه لم يرد الاعتراف به، ولهذا حبس لسانه داخل فمه وامتنع عن الرد واكتفى بالجلوس مطئطئا رأسه للأسفل، يحترق غضبا، وحيرة بينما ماشا أخذت تمشي خارج الغرفة تاركتا ديميتروف يتخبط بين أفكاره، وقبل أن تخرج قاطعها ديميتروف بسؤاله : هل يمكنني أن التقي بوالدك ؟

أجابته : انه ينتظرني في السيارة الآن.

اتسعت عيناه عند سماع، ما قالته لكنه لم يحرك ساكنا وخرجت ماشا من الغرفة وظل ديميتروف جالسا فيها، ثم لاحظ وجود جهاز تشغيل موسيقى فأخذه وضغط على زر التشغيل لتبدأ ايقاعات أغنية معينة بالارتفاع، انها أغنية انجليزية من نوع الراب لمغني مشهور جدا - لدرجة أن شهرته وصلت للعوالم الموازية -، لقد كانت مألوفة له لأن ابنته اعتادت أن تستمع لها، وكانت الكلمات التي تسبق البدء بالغناء ترجمتها كالتالي (اذا كنت تمتلك فرصة، محاولة واحدة، لتصل للشيء الذي كنت تتمناه، بمجرد لحظة واحدة .. هل ستغتنمها أم أنك ستتركها)-،كانت تلك بداية أغنية للمغني امينيم بعنوان - Lose Your Self .

شدت تلك الكلمات شيء في داخله، نيكولاس ديميتروف موجود في الأسفل منتظرا في سيارته ليأخذ ابنته معه، انها فرصة ذهبية فهو موجود لوحده فقط، لقد عرف ديميتروف ذلك لأنه لا يمكن أن يأتي بشكل ظاهر للعيان للمكان الذي كان ولا زال يعتبر مقدسا بالنسبة له، فلقد كانت مشاعر ديميتروف توحي بذلك، ولهذا أخرج مسدسه وظل محدقا نحوه للحظة، ثم لمعت عيناه، وأخذ يجري بسرعة لكي يصل اليهم قبل أن يرحلا لكي ينهي مهمته ويقتل نيكولاس ديميتروف قبل أن يتسبب بموت ابنته في هذا العالم .

2020/06/22 · 182 مشاهدة · 1835 كلمة
ykh_1997
نادي الروايات - 2024