بياض ولا شيء سوى البياض مهما امتد بصرك للأفق فأنت لا ترى سوى هذا العالم ناصع البياض، ظل نيكولاس يركض في أرجاء هذا العالم باحثا عن شيء لعله يفهم ما يحصل، لكنه ظل يركض ويركض ولم يتغير شيء، كأنه يدور في حلقة مفرغة لا يبتعد عنها ابدا ..

سقط من كثرة التعب والإجهاد، متمددا على ظهره، رافعا يده كأنما يطلب المساعدة، ولكن ليس هنالك من مجيب، لحظات حتى شعر بشيء يتحرك من حوله، اعتدل جالسا يترقب من حوله آملا أن يرى أي شيء، اختلطت نظرات الخوف والأمل ببعضها وارتسمت على وجهه ملامح رعب امتزجت بابتسامة فرح، ها هو الآن قد لاحظ مكان الحركة ونظر صوبها، تساءل: ما هذا؟

ظل يشاهد ذلك الاضطراب و التشوه الذي يحصل في الجو الذي بدا له مألوفا من قبل، بدأ يظهر من الاضطراب شيء بل شخص منظره يوحي بأنه رجل علم من خلال معطف المختبر الذي يلبسه.

توقف الاضطراب واستقر الجو المحيط بهم وأصبح في هذا العالم الأبيض رجلان ينظران لبعضهما البعض، يملكان نفس الوجه ونفس الهيئة، الفرق بينهما أن الأول بدت عليه ملامح شخص مرتعب يبادل الآخر بنظرات الخوف و الدهشة، لا يصدق ما يرى أمامه، أما الآخر فقد كان ذو نظرات حادة هادئة واثقة من نفسها، ذو ملامح مهيبة زادتها هيبة تلك الابتسامة اللزجة على محياه، واضعا يديه في جيوب معطفه الابيض المميز ما جعل من وقفته تزيد بهاء وهيبة ..

تقدم بخطوات متباطئة نحو نيكولاس المذعور حتى وصل وأصبح نيكولاس جالسا بين قدميه، مد يده نحوه يساعده على الوقوف، وقبل أن يمسك نيكولاس بيد ذلك الرجل لاحظ وجود شيء كالوشم منقوش في ظهر كفه الايمن، نقش لعقرب الساعات والدقائق تشير إلى الساعة السادسة تماما مما زاد الاستغراب والريبة في قلبه، لكن ذلك لم يمنعه أن يمسك بيده ويقبل المساعدة للوقوف، اعتدل واقفا و أخذ نفسا عميقا ثم نظر في وجه ذلك الرجل وقد تبدلت ملامحه، أصبحت نظراته حازمة هذه المرة وظل ينظر في وجهه لبرهة، والأخير يبادله بنفس النظرات التي ظهر بها اول مرة ..

ثم فرد ذراعيه، وقال بصوت عالي: نيكولاس ديميتروف، مرحبا بك مرة اخرى في عالم الفراغ الزمكاني!!

الغريب في الأمر أنك لم تلحظ الأمر الذي تعيشه رغم أنه يتكرر معك مدة تسع سنوات، لهذا قررت أخيرا أن أعطيك تلميح صغير عن مهمتك الكبيرة التي وجدت من أجلها ..

قاطعه ديميتروف بصوت تعرف من نبرته أنه مصدوم، ولكنه يحاول أن يحافظ على رباطة جأشه: ماذا تقصد أن الامر يتكرر لتسع سنوات، وما هذا المكان، عن أي مهمة تتحدث؟

توقف الرجل عن الحركة ونظر بنظرات ثاقبة لنيكولاس، ثم قال: كالعادة، رجال العلم لا يسألوا سؤالا واحدا فقط، ولكن لا بأس سأجيبك.

صفق بيديه مرتين لتظهر صور هيلوجرامية مختلفة تحتوي على مقاطع من حياة نيكولاس، لقد كانت تلك الصور تملأ العالم الابيض، وقد بدأ نيكولاس يصرف نظره هنا وهناك مندهشا مما يراه، ثم أتبع ذلك الرجل بكلامه: هذه الصور والمقاطع التي تراها هي مقتطفات عن الآلاف بل مئات الآلاف من التجارب التي كنت تفعلها من أجل إنقاذ ابنتك، وكلها تنتهي بموتك إما مقتولا من قبل نسخك الأخرى، أو من قِبَلِ أشخاصا آخرين مرتبطين بنسخك الأخرى، أو بسبب حوادث تصيبك أثناء خوضك في حياة نسخك الأخرى ..

بمعنى آخر أن الزمن الذي تذهب إليه يرفضك ويتخلص منك، الأمر أشبه بما يحصل في جسم الإنسان، حيث يرفض الجسم البشري أي جسم غريب يدخل إلى بيئته وبالتالي يهاجمه و يقضي عليه، وفي كل مرة يتم قتلك أُعيدكَ لنقطة البداية، ثم تكرر نفس التجربة ونفس الخطأ لمدة تسع سنوات حتى هذه اللحظة.

لم يزد هذا الكلام في نفس نيكولاس إلا صدمة ودهشة جديدة تضاف لوابل من الصدمات التي تعرض لها، ولكن هذا لم يمنعه من السؤال : إذا كان الأمر كما وصفته لماذا لم تخبرني منذ البداية، لماذا انتظرت تسع سنوات حتى تخبرني كل هذا، و إن كانت التسع سنوات هذه حقيقية لماذا لم أكبر في العمر؟

أجابه: التسع سنوات التي مرت حقيقية، ولكنك لم تكن تعيشها في نفس الوقت، ولكي أوضح بشكل أفضل لقد كنتَ تدور في حلقة لمدة تسع سنوات ولكنك أيضا لم تعشها بشكل كامل، لأنك في كل مرة يتم فيها رفضك في المسار الزمني الذي تذهب إليه، تعود مرة أخرى لنفس الزمن الذي تبدأ منه التجربة وكأنك لم تبدأها أصلا، وذاكرتك لا تحفظ شيئا مما يصيبك، أما تفسير الومضات والأشياء المألوفة التي تشعر بها هي شيء شاذ يحصل، لكن عقلك يفسره على أنه حلم أو ظاهرة (دي جافو) التي تشعرك وكأنك عشتَ اللحظة هذه من قبل، وأظنك تريد إجابة عن سبب انتظاري لكل هذه السنوات التسع لأخبرك بكل هذا، السبب يعود إلى أنه لم أكن لأستطيع الظهور أمامك بهذا الشكل حتى الآن، ولم أكن استطيع حجزك في عالم الفراغ الزمكاني .

- ولماذا ؟

- لأنني لست بشريا.

صفق بيديه مرتين لتختفي تلك الصور الهيلوجرامية وتظهر أخرى، وهذه المرة ظهرت في مكان واحد فقط وهو واقف بينها، وكانت الصورة عبارة عن مجسم يظهر خط مستقيم تتفرع منه خطوط أخرى من ثم تلتقي في نقطة واحدة ويعود الخط كما هو، وفي النهاية يتلاشى الخط ويتبعثر، وتوجد هناك نقاط سوداء صغيرة بين الخطوط المتفرعة التي تخرج من الخط الرئيسي وتتجمع تدريجيا في مكان واحد مكونة نقطة كبيرة في الفراغ الموجود بين الخطوط المتفرعة المتوازية، ثم بدأ ذلك الرجل بالشرح:

من أجل العودة للماضي لابد لك من أن تتجاوز سرعة الضوء [1] حتى يكون مرور الزمن بالسالب، بالتالي يمكنك العودة للماضي، لكن الانسان لا يستطيع التحرك بهذه السرعة، لذلك وصلتَ إلى طريقة نقل الذكريات، حيث أنك ستنقل ذكرياتك لعقلك في الماضي وبالتالي تتغير أفكاره، وهذا الكلام يدعمه نظرية (المستقبل يؤثر على الماضي).

لكن هذا لم يحصل، لأن ما حصل هو عندما بدأت بالتجربة وبمجرد الضغط على الزر فقد تسببت في اضطراب للخط الزمني الرئيسي، ونتيجة لذلك الاضطراب ظهر خط زمني فرعي يمر بنفس الأحداث، و لكن باختلاف في بعض التفاصيل، فأنت انتقلت إليه، وخضت فيه، ولكن الزمن يمنعك من الاستمرار ويقضي عليك لأنك لست من هذا العالم أصلا فتعود لنقطة الصفر وتخوض التجربة مرة أخرى، وهلم جرا، ومن خلال تجاربك التي تتكرر بنفس النهج تسببت في وجود العديد من العوالم الفرعية المتوازية لبعضها، لهذا لا يوجد طريقة أخرى لإيقاف هذا الاضطراب إلا بصنع اضطراب آخر في نفس الخط الزمني الفرعي الذي تذهب اليه.

وضع نيكولاس يده على رأسه وبدأ يفرك شعره، ثم قال: من خلال ما قلته يتوضح أن التجربة فشلت من قبل أن تبدأ حتى، ولكن كيف تعلم عن كل هذا؟

انظر إلى تلك النقاط السوداء المبعثرة والتي تتجمع تدريجيا، إنها تمثلني أنا، ففي كل مرة تنتقل هناك جزء من الوعي الخاص بك ينبثق منك ويبقى في الفراغ بين العالمين، وهذا الفراغ هو هذا المكان الذي نحن فيه حاليا، وكل مرة تنتقل تزيد هذه الاجزاء في الظهور وهي تمثل الذاكرة الشاذة التي حدثتك عنها سابقا، عند الانتقال يمر جسدك بهذا المكان ولكنك لا تشعر بذلك، وهذا يحصل أيضا عندما يتم رفضك وعودتك لنقطة البداية.

ومن خلال عدد التجارب التي قمت بها زادت هذه الجزيئات في الظهور، وبدأت تتجمع مع بعضها البعض حتى استطاعت التجسد، وأصبحت الكيان الذي تراه أمامك، باختصار يمكنك القول أنني تجسيد لخط الدفاع الذي سينقذك من الضياع في هذه المتاهة الى الأبد، وبسبب جزيئات وعيك المتناثرة أصبحت نسخة الدكتور نيكولاس ديميتروف في عالم الفراغ الزمكاني.

لم تفارق الدهشة ملامح نيكولاس وظلت عيناه شاخصة، ومشاعره كانت متضاربة، لم يعلم بماذا يشعر تحديدا، هل يشعر بالفرح لأنه وصل لاكتشاف علمي جديد، أم أنه يشعر باليأس والحزن، لأن ما فعله لم يقربه حتى شبرا من انقاذ ابنته، بل ظل عالقا يدور في حلقة مفرغة كفأر يجري في عجلته الدوارة، يبذل جهدا لكنه لم يتقدم قيد أُنملة .

أغلق نيكولاس عينيه ورفع رأسه للأعلى محاولا ترتيب أفكاره في رأسه، ثم قال: لماذا لا تكمل؟،حديثك هذا له بقية، أليس كذلك؟

ابتسم ذلك الرجل، ثم أتبع: مهما كانت الصدمات التي تتلقاها فإنك تنشد المزيد، لكن لا بأس سأعطيك جرعة أخرى من هذه الصدمات، وبهذا سنتطرق إلى المهمة التي أحضرتك إلى هنا من أجلها.

- مهمتي واحدة وواضحة ولن تتغير.

- مخطئ، فالمهمة التي أنت بصددها ليست انقاذ ابنتك فهي قد ماتت وما حدث قد حدث ولا يمكن تغييره.

- لابد من طريقة ما لإصلاح الأمر!

- نعم هناك طريقة واحدة فقط وقد ذكرتها لك وهي ان تصنع اضطرابا فوق الاضطراب الموجود ليختفي كلاهما، بمعنى آخر مهمتك هي تدمير العوالم التي تسببت بظهورها ليعود كل شيء كما كان عليه.

- تدمير العوالم ؟

- أجل، ببساطة سوف تذهب الآن الى أحد الخطوط الزمنية الفرعية ويجب أن تنجو فيه بقدر الإمكان، ومن ثم تصنع اضطرابا في ذلك الخط مما يؤدي الى تدميره.

- تجعل الامر كما لو كان بسيطا، ولكن السؤال هنا كيف اصنع ذلك الاضطراب؟

- قد أجبتك بما فيه الكفاية، فأنت عالم، والعلماء يجدون الجواب قبل أن يتطرقوا للسؤال.

أخرج الرجل يده اليسرى من جيب معطفه، وقد لاحظ نيكولاس وشم منقوش على ظهر كفه الايسر مشابه للموجود في كفه الايمن، ولكن باتجاه مختلف للعقارب، فقد كانت تشير إلى الثانية وخمس واربعون دقيقة، وبدأت تلك العقارب المنقوشة في يده بالدوران بشكل هيستيري، وظهر ضوء ساطع يشتد سطوعه تدريجيا، وأثناء ذلك كان نيكولاس مندهشا لما يحصل، وضع يده بشكل يوازي عينيه كمن يحاول أن يخفف من شدة الضوء الداخل إليها، وصرخ: ماذا يحصل؟

فأجابه الرجل بنبرة المتحدي: لقد بدأت مهمتك، ولكن هذه المرة لن أعيدك اذا ما تعرضت للرفض، فإما أن تنجح في المهمة وتدمر العالم، أو أن تموت ويستمر سير العالم بدون نيكولاس ديميتروف.

اشتد بريق ذلك الضوء ولم يستطع نيكولاس أن يرى شيئا، وبعد لحظات اختفى ذلك البريق الشديد واستقرت الأمور وبدأت أصوات الناس والسيارات تعلو المكان، إن المكان مألوف، أجل إنه مألوف لأنه نفس المكان الذي استيقظ فيه من قبل، إنه بجوار محل الساعات السابق.

نيكولاس ديميتروف أصبح يعي موقفه الصعب، لقد أصبح في سباق مع الزمن، إما أن يُقضى عليه تماما، أو أنه يجد طريقة يخدع بها العالم و يدمره.

2020/06/21 · 220 مشاهدة · 1536 كلمة
ykh_1997
نادي الروايات - 2024