لفتة يمنى وأخرى يسرى، يتلفت هنا وهناك ولكن نظره لا يدرك ما حوله، يحرك رأسه كم يحاول أن يرفض شيء ما، إنه يرفض بعض الافكار التي تواتيه في عقله، وقد استمر ذلك لبرهة حتى أوقفه شعوره بلمسة يد على كتفه، انه صاحب محل الساعات المجاور، وقد كان ينظر له باستغراب، وقال له: هل أنت بخير يا سيد ؟

عندها لمعت عينا نيكولاس ببريق الانتصار لقد وجد الطريق الذي يواجه به معضلة الرفض التي تلاحقه، ابتسم نيكولاس، وقال له: انا بخير، هذا المحل لك صحيح؟

واتجه ناحية المحل ودخله، ومن بعده صاحب المحل، فأخذ يقلب ناظريه على الساعات المختلفة، وبينما هو يتأمل كان صاحب المحل يهم بالكلام، لكن نيكولاس قاطعه بقوله: لا فأنا لا أشرب.

تعجب الرجل صاحب المحل من قوله، لأنه كان يحمل زجاجة وكأسيين، ثم أردف نيكولاس بقوله وبنبرة واثقة: من الافضل ان تسرع!!

وخرج نيكولاس من المحل بمشية الرجل الواثق، واضعا يديه بداخل معطفه، تعلوه محياه ابتسامة غريبة توحي بالثقة العمياء بالنفس، واتجه الى مكان منزله فهو المكان المنتظر ...

وصل نيكولاس الى منزله ولم تكن مفاجأة أنه أمام ذلك الشريط الاصفرالمطبوع فيه ( ممنوع الدخول – موقع جريمة ) ، فهولا يريد الدخول أصلا، بل كانت ينتظر بصبر، ما لبث في المكان طويلا حتى علت صافرات سيارات الشرطة وقد حاصروا المكان، وأثناء ذلك كان قد رفع يديه وانبطح في الارض، كأنما قد علم ما سيحصل، بل هو يعلم ..

الامر ومافيه أنه عاد لنفس الخط الزمني الذي تم الاطلاق عليه من قبل ابنته، لهذا هو يعلم ما سيحصل تاليا، خطته كانت أن يصل الى المفتش بيزيتش وعندها سيبدأ بمناورته لرفض الزمن له.

وصل لمقر الشرطة وفي غرفة الاستجواب كان الوضع مختلفا عن السابق، لم يكن خائفا ولا مصدوما، بل كان واثقا، ذو نظرات حادة لا تتزعزع، وهو الامر الذي اغاظ المفتش بيزيتش، ولكنه أخفى غيظه بداخله، وبادله بنظرات البرود خاصته، ووضع جهاز التسجيل على الطاولة ليبدأ الاستجواب ..

- الخامس والعشرين من مارس 2010 ، الساعة العاشرة مساءا، تم إلقاء القبض على الدكتور نيكولاس ديميتروف المتهم بجرائم التخريب والانتهاك لممتلكات الدولة السرية وجرائم التفجير والقتل المتعمد وأيضا جرائم إنسانية قائمة على تجارب بشرية تنتهك حقوق الإنسان وجريمة الهرب من قبضة العدالة لثلاثة سنوات ..

وستبدأ الآن عملية التحقيق والاستجواب مع المتهم المذكور آنفا !!

مازال نيكولاس له نفس النظرات لم تتزحزح وبيزيتش ازداد غيظا على غيظه وزادت تجاعيد غرته تجاعيدا جديدة .

- لماذا قررت تسليم نفسك هكذا ؟

- لست الشخص الذي تظنه، صحيح ان اسمي هو الدكتور نيكولاس ديميتروف لكنني لست من هذا العالم .. وقبل ان تصفني بالمجنون والكلام الغير عقلاني دعني احذرك من أمر خطير سيحصل.

شبك المفتش بين اصابعه بقوة وملامح الغضب ارتسمت على وجهه بشدة، ويبدو انه لم يستطع ان يكتم غيظه أكثر وقال: أهذا ما لديك لتدافع به عن نفسك بعد كل الاعمال التي قمت بها واختفاءك كل هذه المدة، اتظن ان هراء الاطفال هذا سيكون حيلتك الاخيرة ؟

نطق نيكولاس وبنبرة اشد قائلا : ليست حيلة ايها المفتش، انا شخص اتيت من المستقبل ولقد مررت بهذه المحادثة من قبل، بعد ساعة من الان وتحديدا بعد ان تتركني افكر بالاعتراف سيبدأ الهجوم بواسطة قناص وسيقضي على بعض الرجال في المركز، ومن ثم سيبدأ الاقتحام بواسطة قنابل صوتية وسيهاجم الاخرين، وبعد أن يقضي عليهم سوف يتوجه نحو الزنزانة ممسكا برهينة وفي فمه قنبلة قد أخرج فتيلها جاعلا الرجل يعض عليها لكي لا يحرر الزناد فتنفجر، وبهذه الطريقة سيقضي على الحارسين وأنا معهم !!

تعلو المفتش ملامح الدهشة والاستغراب من كلامه لكنه يخفيها بسرعة وتعود نظرات البرودة اليه لتملأ اجواء الغرفة بصقيع التوتر مرة اخرى، ويقول: قصة رائعة، تنقصها بطولة المفتش بيزيتش، لأنني كما سمعت من كلامك ليس لي اي دور اثناء الهجوم.

- انت وقتها تكون قد غادرت ولكنه يصلك اتصال، الا ان الاوان قد فات حينها .

- لنقل أني صدقت الهراء الذي تقوله، كيف يمكن ان تكون جالسا أمامي الآن؟

- قلت لك انا لست من هذا العالم، لن تفهم آلية عمل السفر عبر العوالم والازمان .

- هراء، يبدو أنك جننت خلال الفترة التي اختفيت بها .

- سأخبرك بمنفذ الهجوم لتصدقني .

- ومن هو ؟

- نيكولاس ديميتروف .

لم يتمالك المفتش اعصابه، فأمسك من شعر ديميتروف وضرب برأسه على الطاولة ضربة قوية مما جعلت الة التسجيل تسقط ارضا،فتناولها المفتش واطفأها و أخرج الشريط وحطمه، وبدأ أنف ديميتروف بالنزيف جراء الضربة ..

ثم صرخ بغضب قائلا: هل انت مستعد لإعادة الاستجواب، ولكن هذه المرة تكلم بكلام معقول ليس هراء الابعاد هذا ؟

يتألم نيكولاس جراء الضربة التي تلقاها على رأسه وهو ممسكا بجبهته يفركها محاولا تخفيف الالم، ويمسح على أنفه محاولا ايقاف النزيف، ثم قال: انه ليس هراء ايها المفتش ،لقد عدت مرة أخرى لكي أصحح الامور، نيكولاس ديميتروف الذي في هذا العالم هو نسخة مختلفة عني تماما .. أنا نيكولاس ديميتروف نسخة خط زمني آخر

- يبدو أنك لم تتعلم درسك .

- امنحني فرصة لأثبت لك صحة كلامي .

- وماهي ؟

- انتظر هنا فقط، وخلال اقل من ساعة سيحصل الهجوم، لذا أخبر رجالك أن يستعدوا له .

- هراء .

- ارجوك استمع الي، الهجوم الذي نفذه رجل واحد فقط من رجال نيكولاس ديميتروف، وهو محترف جدا في عمله .. القضاء على حفنة الرجال في المركز كان أشبه بقتل بعوضة بالنسبة له .

- هل أنت مستمر في هذا الهراء ؟!

- أرجوك، خذ بقولي ولا تخاطر برفضه !

- يكفي !!

- اسمع، لم لا نعقد اتفاقا؟، انتظر وقت الهجوم، وان لم يحصل يمكنك فعل ما تشاء بي؟!

صمت المفتش بيزيتش لبرهة وظل محدقا بعيني نيكولاس، ويبدو انه شعر بأنه لا يكذب، فخبرته الطويلة في مجال التحقيق مكنته من تمييز النظرات الكاذبة من الصادقة، بغض النظر عن العيون التي تمتلك دموع التماسيح والتي تقتل من يثق بها .

ثم قال: حسنا، سأجعل الرجال يستعدون، لكني سأبقى بجوارك خلال هذا الوقت فربما لديك حيلة ما تمكنك من الهرب حينها.

ابتسم نيكولاس ونظر نحوه بنظرات حازمة وقال : افعل ماتريده !!

وهكذا مرت الساعة ببطئ، وقد كان رجال الشرطة مستعدون بعتادهم، ونيكولاس في زنزانته ومعه المفتش بيزيتش يراقبه بعينيه الرماديتين الشبيهتين بعيون السمكة الميتة والتي تنفث صقيع باردا بنظراتها، الجميع مترقب لطلقة القناصة في أي وقت من الآن، لكن حصل ما لم يكن يتوقعه نيكولاس ..

استبدلت طلقة القناصة بضربة من سلاح آر بي جي أقتحم مركز الشرطة من بوابته الأمامية وأتبعه بشكل مباشر صوت الانفجار الناتج عنه والذي أسفر عن ضحايا من رجال الشرطة، لم يلبث أن هدأ صوت الانفجار حتى أتبعه وابل من الطلقات النارية ناتجة من سلاح رشاش ثقيل تخترق جدران ونوافذ وابواب مركز الشرطة لتتزين بدماء ضحاياها و أشلائهم وتستقر بعدها أينما استقرت ..

كانت الطلقات لا تصل لغرفة الزنزانة لأنها تقع في الخلف، ولكن ذلك لم يمنع الخوف والرعب بتلبس اجساد من كانوا هناك، نيكولاس وبيزيتش وثلاثة حراس للزنزانة كانوا جميعا قد أنبطحوا أرضا من صوت انفجار الآر بي جي ..

صرخ بيزيتش بأعلى صوته بعد أن امسك ديميتروف من معطفه بقوة : أنت قلت قناص ولم تقل هجوما بالاسلحة الثقيلة يا هذا !!

لم يكن حال الآخر أفضل منه، بل كان أسوأ لأن التوقعات لم تكن في صالحه أبدا، فرد عليه: انه الرفض، بسبب توقعي للأحداث فإن الامور قد تغيرت في بعض التفاصيل!

بيزيتش بغضب: سأقتلك اذا كنت أنت خلف هذا الهجوم أتفهم؟!

وأخذ سلاحه وطلب من الحراس فتح باب الزنزانة ليستطيعوا الهرب من خلال باب خلفي يستخدم لمثل هذه الامور، باختصار انه باب للهروب الطارئ .

توقف صوت اطلاق النار وعم هدوء المكان، وبحذر كان أحد الحراس يفتح الباب وخرج بيزيتش ومعه ديميتروف، كلهم مسلحون بعتادهم ونيكولاس مكبل اليدين يتوجهون نحو باب الهروب، قاطعهم صوت طلق ناري، فالتفتوا خلفهم وأشهروا بأسلحتهم نحوه ..

هناك كان يقف في بداية الممر رجل ذو لباس أسود يصوب سلاحه نحوهم وتعلوا محياه ابتسامة خبيثة، انه الجلاد الاسود، لم يكن بمفرده، فهذا المشهدد تكرر مرة أخرى، شرطي مصاب يؤخذ كرهينة يعض على قنبلة في فمه .

صرخ نيكولاس بأعلى صوته : اطلقوا النار

وبسبب توتر الموقف الشديد اطلق أحد الحراس مباشر نحو الجلاد والرهينة وهو شئ لم يكن يتوقعه الجلاد مما جعله يضطر ويحتمي بسرعة خلف الجدار ولسوء حظ الرهينة فقد اختل توازنه وسقط ارضا وانفجرت القنبلة التي في فمه وهذه اللحظة استغل نيكولاس الفرصة وسحب المسدس الاحتياطي من خاصرة المفتش بيزيتش وهرب راكضا والمفتش يصرخ ويطلب منه التوقف، وقد هم بمطاردته لكنه لم يستطع بسبب تبادل اطلاق النار الذي حصل في نفس اللحظة بين الجلاد وبقية الحراس مما اضطر لبيزيتش بالبقاء ايضا .

ظل يركض ويركض حتى وصل لباب الهروب وخرج منه وظل يركض ويركض مبتعدا عن المكان قدر الامكان حتى اختفى بين جنبات الظلام، بين الازقة والحواري حتى اختفى عن الانظار .

وفي مركز الشرطة واثناء تبادل اطلاق النار بين الجلاد وبيزيتش ورجاله المتبقيين قرر الجلاد أن ينسحب من المكان لأنه لم يكن الوضع لصالحه في تلك اللحظة، وقد انسحب وركب دراجته واختفى هو الآخر عن المكان.

كانت ليلة مشؤومة، الهجوم قتل أكثر رجال الشرطة في ذلك المركز ولم ينجو الا المفتش والحراس الذين معه، نيكولاس ديميتروف هرب ولم يبقى له أثر، كل ذلك أثار حنقا كبيرا وغضبا عارما في نفس بيزيتش ولا يعلم كيف يتصرف إثر ذلك.

بعد عدة أيام نشرت في الجرائد وقنوات الاخبار أنباء ذلك الهجوم وكل محلل يحلل على هواه وطريقة فهمه للأحداث لكن الشئ المشترك الوحيد هو نيكولاس ديميتروف، الرجل الذي قام بهذا الهجوم ..

أما عن حال المفتش فقد تمت اقالته من خدمته وذلك عقابا له لأنه لم يبلغ عن هجوم ارهابي سيحصل، المفتش بيزيتش قدم في تقريره عن كل الذي حصل وذكر أيضا كلام الرجل الذي قبض عليه على أساس انه الهارب نيكولاس ديميتروف، وقد أعطاه لقبا لكي يفرق بينه وبين نيكولاس الذي يطارده برجل الوقت، تيمنا بكلامه أنه شخص من زمن آخر، والعحيب أن هذا اللقب انتشر في أوساط الاعلام، بل أن الكتاب والصحفيين استغلوا هذا اللقب في كتاباتهم وتحليلاتهم وتوقعاتهم، فمنهم من وصفه أنه الرجل نفسه خطط للهجوم وخدع الجميع، ومنهم من صدق بهراء الانتقالات البعدية، ومنهم من قال انها مجرد مؤامرة، وهلم جرا من هراء الاعلاميين الذي لا يسمن ولا يغني من جوع .

2020/06/22 · 247 مشاهدة · 1585 كلمة
ykh_1997
نادي الروايات - 2024