في غرفة ما في المنظمة
كانت الغرفة تلتهم النور كما تلتهم الوحدة قلب سون، ظلمة تكسو الجدران وصرخات الماضي تخرسها همسات الريح عبر نافذة متشققة. جلس سون على الأرض الباردة، عينيه محاطتان ببحر من الدموع التي لم يجرؤ على إلقاءها، وكأنها سرٌّ دفين، لا يحق له أن يبوح به، لا حتى لنفسه.
في تلك اللحظة، بدأ كل شيء يتجسد أمامه كلوحةٍ غارقة في ظلال الألم. وجوه المختبرين، الذين قضوا سنوات في زنزانة مجهولة، لا تسمع سوى صراخ الخوف وصمت النسيان. لم يكن ذلك الفتى المدلل الذي أرادوا أن نؤمن به.
نظرت اليه و لقد تذكرت كذبة قالها لكم
"لقد كذب علينا... كذب علينا جميعًا."
كان فتىً نبع من العزلة، لا يعرف العناق، ولا حضن الأم بعد رحيلها كان يكذب ليس مددل أباه موريس. حياته بلا ألوان، بلا دفء. ألمٌ مدفون تحت طبقات من الصمت المطبق، ألمٌ يخفيه في أعماق روحه. موريس؟ لم يكن سوى ظلٍ بلا صوت، بلا وجود، كأنه شخصٌ غير موجود في حياته، لا يكلمه، لا ينظر إليه، لا يعامله إلا كهواءٍ لا يُرى.
"لم تكن بيننا سوى كلمة، كلمة فارغة... مجرد اسم."
استحضر وجه كيم، ذاك الوجه الذي طالما كان يحمل بين طياته خيوط الغموض والخيانة المحتملة. عينا كيم كانت تراقبه دائمًا، تحلل كل حركة وكل كلمة، وكأنها تزرع في داخله بذور الشك والريبة.
سون وقف، قبضته تضغط على الأرض وكأنها آخر ما يملكه، وقال في نفسه بنبرةٍ ملؤها الغضب والانتقام:
"إن كنت قد خنت المجموعة... إن كنت قد جعل منّا لعبة بين يديه... سأجعله يدفع الثمن... حتى النفس الأخير."
أخذ يتنفس بعمق، يحاول أن يملأ صدره بهواء النقاء، لكنه لم يجد سوى دخان الماضي يتسرب إلى رئتيه، يختنقه.
بدأ ينهض ببطء، كل حركة منه تنضح ثقل الحياة، وبدأ يردد بينه وبين نفسه كلماتٍ تذوب في صمت الغرفة:
"أنا لست ضعيفًا، أنا لست ذلك الطفل... أنا... أنا من سيعيد التوازن."
في تلك اللحظة، كانت الدموع تنساب على وجنتيه، دموع ليست للضعف، بل لشدّة الندم والقهر على سنوات عاشها في عتمةٍ لا نهاية لها.
في تلك اللحظة، فتح الباب ببطء، ودخل المعلم أكاي. ظهر كضوء يتسلل عبر ستار الظلام، وجاء صوته هادئًا لكنه يحمل ثقل الحكمة:
"لا تحزن يا سون."
وقف بقربه، يراقبه بعينين لا تحملان سوى الإيمان.
"هذه ليست النهاية، بل بداية جديدة."
تنفس سون ببطء، كأنه يستنشق آخر أنفاس يأسه ويطردها خارج صدره.
"لقد اخترت الانضمام إلى هذا العالم... وهذا يعني أن الطريق لن يكون سهلاً، ستواجه عقبات أشد من هذه."
قال سون، بنبرة تخفي خلفها عتمة الألم وقوة التحدي:
"لا بأس."
ثم دخل تاي، بابتسامة تخفي سخرية خفيفة، كمن يعلم لعبة القدر بقسوتها.
"لقد عينوك في فرقة رصاصة الأميرة، تصنيفها B."
وقف قليلاً ثم أضاف:
"هذه الفرقة مميزة جداً، مقرهم في باريس."
هز سون رأسه، كمن يرفض قيدًا قيد ذراعيه، وقال:
"أريد أن أنضم إلى فرقة أوڨا."
ضحك تاي بصوت خافت ولكنه حاد كالسكين:
"هاه... إنه هدف كبير جداً يا سون."
ثم نظر إليه بعينين لا تخفيان الحذر:
"إذاً يجب أن تتدرب أكثر."
لم يكن سون يحتاج إلى كلمات أخرى ليشعل نار عزيمته، لم تكن مجرد كلمات، بل كانت تحديًا، نداءً للحياة التي لا ترحم.
وقف سون، ووقف معه الألم والضياع، لكن في أعماقه توقدت نيران لا تنطفئ، نيران الإصرار والانتقام، نيران من أجل من رحلوا ومن أجل من بقي.
"سأتدرب."
همس في نفسه، وكأنها أقسمت روحًا على ألا تكون كما كانت.
الغرفة أصبحت أكثر ضيقًا، لكنها كانت أيضًا أكثر وضوحًا في معركة الحسم التي تخوضها نفسه، معركة أعمق من أي قتال خارجي.
الممر طويل وبارد، جدرانه تشبه أسوار السجن، يكسوها ظلام باهت من أضواء علوية تومض بين الحين والآخر. صوت خطوات متباعدة يتردد صداه في الفراغ، كأن الزمن توقف لحظة.
سون يسير بخطوات متثاقلة، قلبه ينبض بعنف خلف صدره، عينه تلتقط ظل رجل واقف عند نهاية الممر، هو موريس.
تجمّد سون في مكانه، حاول أن يرفع عينيه، لكن الصوت الذي لم يصدر كان أعلى من أي كلمة.
موريس لم يتحرك، لم ينظر إليه، لم ينطق بشيء. جسده كان جامدًا كصخرة، كأنه وجوده مجرد صدفة لا تستحق حتى النظرة.
اقترب سون ببطء، كمن يمشي على حافة جرف، يحاول اختراق جدار الصمت.
"موريس..." نطق اسمه بحذر، كأن هذه الكلمة قد تكون قنبلة موقوتة.
لكن لم يكن هناك رد، فقط نظرة جامدة من بعيد، خالية من كل شعور.
سون خفض رأسه، شعوره بالرفض كان كالسيف يغرز في قلبه، لكنه حاول أن يتشبث بأي ذرة أمل.
"أنا هنا..." قالها لنفسه أكثر مما قالها له.
وقفت اللحظة تتثاقل بينهما، صمت ثقيل يمزقه خفقان القلوب المكسورة.
موريس لم يرفع بصره، ولم يتقدم خطوة واحدة، وكأنهم غرباء لا تجمعهم سوى دم لم يُذوّب جليد السنوات.
سون استدار ببطء، خطاه مترددة لكنه مليئة بالعزم، وكلما ابتعد، ازداد الصمت صخبًا في أذنيه.
الممر عاد ليغلفهما، كلٌ في عالمه، كلٌ يحمل جرحه وحده.
وقف سون هناك، وسط ذاك الممر الموحش، يشعر بثقل العالم يضغط على صدره، كأن أنفاسه نفسها تفتقد الهواء النقي.
كانت نظرات موريس—ذلك الحائط البارد من التجاهل—تعانق روحه وتدفعها نحو هاوية لا قرار لها.
في داخله، تلاشت كل الكلمات التي كان يتمنى أن يقولها، تعثرت على حدود الوجع، غرق في بحر الصمت الذي ملأ المكان، صمتٌ يخبره بأكبر خيانة، خيانة الأب الذي لم يكن أبًا.
كان يتوقع أن يرى الغضب، أو الندم، أو حتى ذرة من الحنان المدفون، لكنه لم يجد سوى جدارٍ من الجليد، جدار يشبه السجن الذي احتجز فيه هو ذاته سنوات.
حمل في قلبه ذلك الوجع، وجع العزلة والرفض، شعورٌ خانق، كأنه لم يكن إلا ظلًا بلا اسم، قطعة باهتة من ذاكرةٍ مكسورة.
تسلل إليه إحساس عميق بالخذلان، غرسه ألم لا يوصف، لكنه كان الألم الذي صنع منه ذلك الرجل الذي يقف الآن، منفصلًا عنه كما لو كان غريبًا لا يعرفه.
نظر خلفه للممر الذي بدأ يبتعد فيه، وحسّ بأن كل خطوة يبتعد بها تجرح قلبه أكثر، لكنه لم يكن مستعدًا للعودة، لم يكن مستعدًا لأن يكون ذلك الفتى اليتيم المحطم مجددًا.
في تلك اللحظة، لم يكن هناك سوى صدى خطواته المتسارعة، وصدى ألمٍ عميق يتردد في داخله، يصرخ به بصمت، يقول له:
"هذا هو طريقك، يا سون. طريق من الألم، من الوحدة، ومن القوة التي لا تعرف الرحمة."
دموع لم تُسكب، حنجرة محنطة، وروح تُقاوم الانكس