لم يكن المكان سوى هاويةٍ سوداء انفتحت فجأة حين أعلن نولان عن لعبته. الأرضية لم تعد ثلجًا، بل مربعات متشابكة من حجارة سوداء وبيضاء، تمتد بلا نهاية تحت سماء قاتمة. قطع هائلة شبيهة بالتماثيل الضخمة كانت مصطفة كجنود صامتين، أعينهم جوفاء ولكنهم يتنفسون من صدورٍ حجرية.
جلس نولان في جسد "الملك"، تاج أحمر يغطي رأسه، عيناه تتوهجان بوميضٍ غير بشري، جسده ساكن إلا من صوته الذي دوّى كالناقوس:
نولان (بصوت عميق): "مرحبا بك في لعبتي، بيوم… هنا أنت لست حرًّا كما كنتَ في العالم الخارجي، بل محكومٌ بقوانين الرقعة. كل حركة تخطوها محسوبة، كل خطأ تدفع ثمنه دمًا."
بيوم ثبت قدميه فوق أحد المربعات البيضاء، ينظر حوله بعينين تضيقان كذئب يفهم فخّ الصياد. ثم تمتم في داخله:
بيوم (يفكر): "أفهم… إنها رقعة. ليست لعبة فحسب، بل كابوسًا يتنفس. كلما تحركتُ بغير حساب، سينطلق جندي من بين هذه التماثيل ليقاتلني. نولان ملك، ثابت لا يتحرك… لكنه العقل، هو من يوجه الرقعة. أما أنا… فأنا محاصر في دوره، علي أن أفهم القوانين قبل أن أُسحق."
وبينما يفسر لنفسه، سمع همهمة الجدران السوداء، ثم انبثق جندي من الصف الأول: رأسه مغطى بخوذة حجرية، في يده رمح يتوهج بالحمرة.
نولان: "أول خطوة خاطئة… لقد داست قدماك على المربع دون أن تحسب. استعد للثمن."
اندفع الجندي، صوته كطَحن الحديد. ابتسم بيوم رغم ذلك:
بيوم: "جندي واحد؟ هه… هذا مجرد تدريب."
رفع يده فجأة، فطفا حوله أكثر من خمسين لوحًا صغيرًا من الفخار، تتراقص في الهواء كأنها أوراق زجاجية حادة. ومع هزّ يده، انطلقت الألواح لتخترق صدر الجندي وتبعثره أشلاءً حجرية.
لكن الأرض اهتزت. ومن بين المربعات، تصاعد جنديان جديدان، هذه المرة بأجساد أكثر ضخامة وسيوفٍ أطول.
بيوم (يفكر وهو يبتسم ابتسامة دامية): "إذن… ليست مسألة جندي واحد. كلما أسقطتُ قطعةً بلا استراتيجية، ستنهض أخرى أقوى. نعم… هذه لعبة حرب حقيقية، وليست شطرنجًا ميتًا."
رفع يده الأخرى، فجسّد ألواحًا أكبر من الحديد، أثقل من كل ما صنع قبل قليل. ارتفعت الألواح وهي تصطدم ببعضها، فتنتج أصواتًا معدنية كأنها جرس حرب.
هجم الجنديان معًا. صدّ بيوم الأول بصف من الألواح الحديدية التي تكسر رمحه، ثم اندفع الثاني بقطعته الفولاذية ليغرسها في كتف بيوم. نزف الدم الأحمر القاني، يتبخر على أرض الرقعة السوداء.
بيوم (يضحك وهو ينزف): "دم؟ هه… جميل. هذه ليست لعبة عقلٍ فحسب… إنها رقصة موت. وأنا أحب الرقص!"
جسد عشرات الألواح دفعة واحدة: زجاجية كالسهام، خشبية كثقوب قاتلة، فخارية تتحطم ثم تنفجر شظاياها، وحديدية تصطف جدارًا صدئًا. العالم كله صار كأن بيوم يبني متاهة متحركة من الألواح حول جسده، تتفتت وتعود لتتشكل.
نولان (بهدوء): "أراك فهمت اللعبة بسرعة… لكنك تجهل أن الرقعة لا تُهزم بالحيلة وحدها. أنتَ مجرد قطعة تتحرك في حدودها… أما أنا… فأنا الملك."
وفجأة اهتزت الرقعة، وظهرت أربعة فرسان حجريين، يتنفسون من أفواههم دخانًا أسود، عيونهم مشتعلة كالجمر. كل واحد منهم يحمل سيفًا بطول جسده، يتقدّمون ببطءٍ لكن كل خطوة تزلزل الأرض.
بيوم (بصوت خافت): "أربعة دفعة واحدة… هه… حسنًا، سأعطيكم عرضًا دمويًا لن تنسوه."
ركل الأرض، فاندفعت ألواحه الحديدية للأمام لتصد أحد الفرسان، في حين انطلقت الألواح الزجاجية كالمطر على الفارس الثاني، لكن الأخير لم يسقط، بل شقّ طريقه رغم الدماء التي سالت من بيوم نفسه وهو يحاول المناورة.
الثلج الذي تساقط في العالم الحقيقي لم يعد هنا سوى رماد يتناثر كلما اصطدمت الألواح بالفرسان.
صرخ بيوم وهو يفتح ذراعيه:
بيوم: "هلمّوا إليّ! أريدكم جميعًا! لن أزحف في رقعة جامدة، بل سأحوّلها إلى ساحة حرب تنزف!"
الأرض امتلأت بدمائه، والفرسان يضغطون عليه من كل الجهات. ومع ذلك، كان يبتسم. كان يتلذذ بالقوانين، يفهمها، يتغذى على صرامتها.
بيوم (يفكر): "اللعبة تقول إنني قطعة، لكنني سأكسر القاعدة. سأكون الملك الذي يقاتل الملوك. نولان يختبئ خلف صوته… أما أنا، فأنا أواجه الجنود بيدي ودمائي."
اندفعت ألواحه الفخارية، تنفجر في وجوه الفرسان وتغطيهم بالغبار الأحمر، بينما الألواح الحديدية شُكّلت كسلاسل ضخمة تلفّ أجسادهم لتقيّدهم. لكن كلما تحطم فارس، نهض آخر أكبر وأكثر شراسة.
كان المشهد جحيما من الأشلاء:
جنديان ينفجران ويتناثر منهما الحصى المشتعل.
فارس يقتطع ذراعًا من بيوم، فيصرخ الأخير ثم يعيد تشكيل ألواح خشبية تربط النزيف.
الدماء تغمر الرقعة، ومع كل قطرة دم يسقط، يضحك بيوم بجنون كأنه يستمتع بألمٍ يضاعف قوته.
نولان (بصوت يجلجل): "أنت تنزف يا بيوم… اللعبة ليست ساحة لكشف غرورك. القوانين ستدهسك مهما صمدت."
بيوم (يصرخ والدماء على فمه): "القوانين؟ القوانين لم تُخلق إلا ليكسرها الأقوياء! لن أصل إلى الملك بخط مستقيم… لكنني سأفتح لنفسي دربًا من الدماء حتى أراك بعيني!"
وفي تلك اللحظة، جسّد ألواحًا مختلفة لم يستخدمها من قبل:
ألواح زجاجية شفافة تشكلت كنسخ مشوهة من جسده.
ألواح خشبية غليظة تشبه أعمدة معابد قديمة.
ألواح فخارية صغيرة تطير حوله كطيور حمراء تنفجر بالارتطام.
وأخيرًا، ألواح حديدية ضخمة كوّنت درعًا أسودًا يغطي نصف جسده الممزق.
المعركة استمرت، لا فرسان يرحمون ولا بيوم يتوقف عن النزيف والضحك. ومع كل ضربة يتلقاها، كان يزداد وحشية، كأن الألم هو وقوده الحقيقي.
الرقعة أصبحت جحيمًا حيًا، كل مربع ينبض بالقوة.
بيوم وقف في مركزها، دماؤه تتصبب، تنفسه يتقطّع بين ضحكة وصراخ. أمامه الجنود: جندي زجاجي، جندي خشبي، جندي فخاري، فارس حديدي، وكل منهم محمّل بتقنيات قتالية متفجرة.
اندفع الجندي ، سيفه يمتد كشرارة، اصطدم بيد بيوم، انفجرت الشرارات في الهواء، صدى الانفجار اهتز في كل أنحاء الرقعة. رائحة الحديد المشتعل امتزجت بالدماء. بيوم تحرك بسرعة مذهلة، قبضته كسرت السيف، والجندي تفجّر إلى آلاف الشظايا، الواح زجاجية تطرّدت حوله كالمطر القاتل، كل قطعة ترك علامة على الأرض.
جندي عملاق يقفز من المربع المقابل، درعه صلب كالصخر، يضرب الأرض بعنف، الاهتزاز يصل إلى صدر بيوم، كل عضلة في جسده تتوتر، ركباه تخترقان الأرض، تنفسه ثقيل.
بكل قوة، أمسك بقدم الجندي، ركل ظهره للأعلى، ثم أرسل لكمة دموية تصطدم بصدره. الجندي انكسر، الالواح الخشب تطايرت كالسهام، كل قطعة تترك أثرها الدموي
جندي صغير بيده دمية تبكي، لكنه سريع جدًا، يتقافز في الهواء، كل ضربة تصدر صوت فرقعة عنيفة. بيوم قفز في الهواء، اصطدم به مباشرة، صوته يمتزج مع صوت تحطّم الفخار، انفجار صغير يرسل شظايا في كل اتجاه، شعره يلتصق بوجهه من الدم والعرق، لكن قبضته تفكّك الجندي إلى فوضى حمراء من الشظايا والدماء.
فارس حديدي ضخم، سيفه الطويل يشقّ الهواء، كل ضربة منه تهز الرقعة بالكامل.
بيوم تصدّى للسيف، قبضاته تتشابك مع الشفرة، الصوت كصوت انكسار الجبال. اهتزّت الأرض، تنفسه أصبح أنفاسًا ثقيلة، دماؤه تسيل على جسده، لكنه دفع الفارس للخلف، ثم قفز، ركل رأسه الحديدية، الفارس تحطّم في انفجار من شرارات الحديد، يملأ الهواء برائحة معدن محترق.
بيوم لم يتوقف، يتحرك بسرعة لا تصدق، كل حركة مدروسة. قبضاته تنفجر في الجنود، كل ضربة تخلق موجة اهتزازية تصطدم بجدران الرقعة. كل انفجار يثير الرمال السوداء، كل تحطّم جندي يرسل موجة من الدماء إلى السماء.
الجنديان الزجاجيان يتقدمان معًا، شظاياهم تتطاير في كل مكان، كل خطوة تصنع انفجارًا صغيرًا، بيوم يقفز بينهم، يلتقط أحدهما، يرميه على الآخر، تتصادم الأجساد بانفجار دموي، أصوات العظام تكسر، ألواح الزجاج الضخمة تصطدم بأرض الرقعة.
الجندي الأخير يهاجمه بقبضته الثقيلة، بيوم يلتف حوله، يركل ظهره، يدفعه إلى الأمام، ثم يدوس على صدره، انفجار ، اهتزاز يملأ الهواء، تنفسه أصبح أنفاسًا متقطعة، قلبه ينبض بجنون، لكنه مستمر.
الفارس الأخير، آخر حارس، يقف أمامه، سيفه مشتعِل بالحرارة، كل ضربة تصنع وميضًا في الرقعة. بيوم يلتف، يقفز، يضرب ظهره، يصرع الفارس أرضًا، ثم ينقض عليه، قبضاته تضغط على الحديد، صوت انكسار صلب يملأ الجو. فجأة، انفجر الفارس، تناثرت أجزاء الحديد، الدخان والدماء امتزجت، الأرض ارتجّت من قوة الاصطدام.
الرقعة صمتت فجأة، كل الجنود سقطوا، . بيوم يقف وسط الدمار، جسده متعرق، تنفسه ثقيل جدًا، الدم يغطي يديه وذراعيه، لكنه واقف، يبتسم بابتسامة شرسة، عينيه تلمعان بجنون.
صوت نولان وصل من فوق العرش، هادئ لكنه كالصاعقة:
— نولان: "هكذا تُدفع أثمان كل خطوة… لكن اللعبة لم تنته بعد، بيوم."
بيوم رفع رأسه، نظر إلى الرقعة الفارغة، الدماء متلألئة في كل مربع:
بيوم (يهمس لنفسه): "الآن فهمت… كل حركة لها ثمن، وكل ضربة تولّد انفجارًا. اللعبة ليست مجرد رقعة… إنها حرب حقيقية، ومهما دمرت، الجنود يعودون… أو كانوا مجرد اختبار لقوتي الحقيقية."