كلام المألف : كنت أظن أنني لن أعود للكتابة مجددًا… لكن بفضل تشجيعكم وكلماتكم التي منحتني قوةً وأملًا، قررت أن أعود إلى قلمي وحلمي.

أعود لأكمل الطريق، لا لأنّه سهل، بل لأنّ بينكم من آمن بي حين أردت الاستسلام.

شكرًا لكم من القلب، أنتم السبب في أن تستمر قصتي، وفي أن أستمر أنا.

__________________________________________________________

على بُعد ثلاثة كيلومترات، فوق إحدى ناطحات السحاب، كان هاكو ( احد أفراد بيق وان ) يقف وحيدًا وسط العاصفة الثلجية. الريح تعصف بمعطفه الطويل، والثلج يتساقط بغزارة حتى غطّى شعره وحاجبيه بطبقة بيضاء باردة. عيناه الضيقتان تابعتا ومضة الانفجار الأخيرة من بعيد، تلك التي أنهت حياة بيوم، قبل أن يعود الصمت إلى المدينة الميتة تحت الثلج.

‎هاكو (بهمس متردد وهو يحدق في البقعة المشتعلة):

‎ـ إذن… انتهى الأمر هناك.

‎لم يطل وقوفه، إذ استدار بهدوء، خطواته الثقيلة تترك آثارًا واضحة فوق طبقات الثلج المتجمدة. وصل إلى باب حديدي يقود إلى درج الناطحة، دفعه ببطء لينزل عبره. صوت خطواته يتردد داخل الممر الضيق، يرافقه صفير الرياح التي تتسلل من الشقوق.

‎وبينما ينزل، كان يحدث نفسه بصوت مسموع، منخفض لكنه مشحون بالريبة:

‎ـ لم أفهم… ماذا تفعل فرقة أوڨا هنا؟ كايزو… وأمادا…! وجودهما في هذا المكان تحديدًا لا يمكن أن يكون مصادفة.

‎توقف لحظة، أمسك بدرابزين الدرج بقوة وكأنه يجمع أفكاره، ثم رفع رأسه وعينيه تلمعان بشكّ متصاعد:

‎ـ هذا غريب… غريب جدًا.

‎أخرج جهاز اتصال صغير من جيبه الداخلي، مسح الثلج العالق على غطائه بيده، ثم ضغط زرًا وهو يقول ببرود حذر:

‎ـ سأتصل بـ السيد أكاي… يجب أن يعلم بهذا فورًا.

‎ضغط الأزرار، رفع الجهاز إلى فمه، والثلج لا يزال يتساقط حتى داخل الممر المفتوح على الخارج،

‎في تلك اللحظة، في نفس الوقت في باريس

‎ لم يكن البرد مجرد بردٍ عابر.

‎الثلج فوق باريس لم يسقط كعادته، بل بدا كأنّ السماء نفسها تحاول أن تطمر شيئًا عظيمًا تحت بياضها، وكأنها تُخفي سرًّا فاحت رائحته دمًا.

‎في القصر، كانت الأضواء مشتعلة، لكنها عاجزة عن تبديد الظلال الثقيلة التي التصقت بالجدران. بدا القصر أشبه بمقبرة حيّة، جدرانه من رخام أبيض لكنه ملوّث بشيء لا يُرى… شيء يزحف في الأرواح.

‎إيفا، التي عاشت من العمر ما يكفي لترى أجيالًا تنهض وتسقط، جلست للحظة على كرسيها الكبير، ثم ارتعش قلبها فجأة. لم يكن ارتعاشًا عاديًا. كان كأنّ أوتارًا خفية داخلها قُطعت، كأنّ روحًا من أرواحها التي لا تنام صرخت في أذنها: "انكسر حاجزٌ من حواجزكم… دم أودجين أُريق."

‎وقفت.

‎كانت خطواتها ثقيلة كأنها تحمل معها تواريخ قرون، تمشي وهي تجرّ خلفها ظلّ عرشٍ لا يراه إلا من وُلد داخل اللعنة.

‎دخلت قاعة الطعام.

‎على الطاولة جلسوا: ميشا، إنزوي، جي وجوه مختلفة لكن تحتها الدم نفسه، اللعنة نفسها. كوانغ وحده كان جالسًا أمام التلفاز الكبير، عيناه فارغتان من أي بريق، كأنه يراقب شيئًا لا علاقة له بالأخبار أو الصور على الشاشة.

‎فتحت إيفا الباب بعنفٍ جعل الصمت ينشق نصفين.

‎دخلت، نظرت إليهم جميعًا، ثم تكلّمت. صوتها لم يكن مجرد صوت، بل كان كأنه صدى من أعماق بئر قديم:

‎ــ «منذ خمسةٍ وعشرين عامًا… لم يسقط أحدٌ منا. خمسٌ وعشرون سنة كاملة كنّا فيها السيف والدرع، كنا فيها اليد التي تُصفّق وحدها في وجه العالم. ملايين الأعداء، عشرات العصابات، دول حاولت وتراجعت، أنظمة بُنيت على أمل كسرنا، ثم انهارت. كل ذلك… ولم يُمسّ منا أحد. كنّا صرحًا لا يُقهر. والآن…؟»

‎توقفت لحظة، وضعت يدها على الطاولة، نظرت إليهم ببرود قاتل:

‎ــ «الآن، دمنا نزف. جدار الحديد تشقق. لقد سُمع لأول مرة أنّ واحدًا منّا يمكن أن يموت.»

‎إيفا التفتت نحوهم عيناها تشعّان كجمرتين

‎ــ «دمنا ليس خالدًا، لكنه كان أبدًا أثقل من أن يُراق. كان يحمل رهبة. كان يحمل لعنة لا يجرؤ أحد على لمسها. دم أودجين لم يكن دمًا فقط… كان رسالة، كان وصمة، كان لعنة تمشي بين الناس. والآن هذه الرسالة انكسرت.»

‎سكتوا جميعًا.

‎إيفا مشت نحو النافذة، نظرت إلى الثلج وهو يتساقط، وقالت:

‎ــ «الهمسات وصلتني. لست واثقة… .»

‎القاعة امتلأت بصمتٍ ثقيل. حتى الثريات التي تلمع في السقف بدت وكأنها توشوش: سقط واحدٌ منكم… واحدٌ منكم…

‎إيفا أغلقت عينيها، همست ببطء:

‎ــ «من يكتب رسالة بدمنا… يوقّع عقدًا مع الجحيم. ولن يجد طريقًا للهرب، لأن لعنة أودجين لا تعرف الغفران. كل شيء سينهار، لكننا نحن… لا ننهار، نحن نجرّ العالم معنا إلى الهاوية.»

‎مدّت يدها على الزجاج البارد، تركت أنفاسها بخارًا:

‎ــ «نحن القوة التي عاشت حين ماتت كل القوى. نحن الليل الذي يبتلع النهار. نحن أودجين… وإن كان أحدهم قد مسّ دمنا… فليتذكّر أنّ الثأر عندنا ليس ثأرًا. إنه دينٌ أبدي.»

‎القاعة كأنها انكسرت لحظة نطق إيفا بالخبر… ‎انزوي وقفت وقد التصقت يداها بفمها، وجهها يذوب رعبًا. ‎جي ضرب الطاولة بيده: ‎– مـستحيل… مـن؟ من الذي مات يا إيفا؟! ‎ ‎رفعت إيفا عينيها، ببطء كأنها تذبح نفسها من الداخل. ‎انزوي تصرخ: ‎– لا… لا تقولي… لا تقولي إنه ابني… لا تقولي تاي! ‎ ‎إيفا بصوت منكسر: ‎– أنا آسفة جدًّا… آسفة يا ميشا… إنه بيوم… بيوم أودجين قد مات. ‎انفجرت الأرض تحت قدمي ميشا. ‎فتحت عينيها كأنها ابتلعت السمّ، صدرها يعلو ويهبط، أنفاسها تتقطع، وجهها يتحول إلى رماد. ‎صرخة مكتومة انطلقت من قلبها قبل حنجرتها، صرخة أم ترى ابنها يُقتلع من الحياة. ‎ ‎سقطت على ركبتيها، يدها تضرب صدرها بعنف، تنفّست كأنها تختنق بالماء. ‎– لاااااا… لاااااااااااااا… ابنييييييييييييييي! ‎ ‎دموعها انهمرت كالسيل، صرخت حتى تمزّق صوتها، حتى شعرت بدماء في حلقها. ‎تلوّت على الأرض، تضرب بيديها الرخام البارد، أظافرها تتشقق. ‎– لماذا… لماذا ليس أنا؟ لماذا أخذتموه مني؟! ‎ ‎رفعت رأسها، نظراتها تتوسل: ‎– إيفا… أرجوك… أرجوكِ! أعيديه… كما أحييتِ بان من قبل! لا أريد شيئًا… فقط ابني… ‎ ‎إيفا تبتلع ريقها، عيناها دامعتان: ‎– ميشا… أنا آسفة… تلك التعويذة الوحيدة… استغرقت سنوات… كانت الفرصة الوحيدة… وقد استعملتها… انتهى الأمر. ‎ ‎ ‎رفعت ميشا رأسها، وجهها غارق دموع، لكن نظراتها جمر مشتعل. ‎– انتهى الأمر؟! تقولين لي انتهى الأمر؟! ‎(تصرخ) أنتنّ كلكن لعنة… أنتنّ لستن عائلة… أنتنّ مقبرة متحركة! ‎ ‎تنهض وهي ترتجف كالحيوان الجريح، تلوّح بيدها نحوهم: ‎– أكرهكنّ… أكره كل نفس فيكنّ… أكره أودجين كلها! ‎ ‎خطت نحو الباب بخطوات ثقيلة، قبل أن تفتحه صرخت بصوت مبحوح يدوّي في القاعة: ‎– سأبتعد منكنّ… سأمحو نفسي من اسمكنّ… وسأنتقم لك، ابني العزيز… أقسم… سأنتقم لك يا بيوم… حتى لو مت بعدها! ‎ ‎ضربت الباب بيدها، خرجت مسرعة، تُسمع صرخاتها وهي تختفي في أروقة القصر. ‎ ‎ ‎صمت قاتل هيمن على القاعة. ‎إنزوي وقعت على الكرسي، وجهها شاحب كالأموات: ‎– يا إلهي… يا إلهي… ميشا المسكينة… ستفقد عقلها… ‎ ‎جي غطى وجهه بيديه: ‎– ما أقسى أن تفقد أم ابنها… نحن رأينا موتًا كثيرًا… لكن موت بيوم سيحرقها وحدها… سيأكلها من الداخل. ‎ ‎كوانغ لأول مرة يطفئ التلفاز، صوته عميق: ‎– ميشا ليست كباقينا… قلبها كان مربوطًا بتاي… بلاهتمامها به كانت تعيش… والآن؟ بلاه ستصير رمادًا. ‎ ‎إيفا وضعت يدها على صدرها، عيناها محمرتان: ‎– لقد لعنتنا هذه العائلة… قوة أودجين التي جعلتنا ملوكًا… هي نفسها التي جعلتنا محرومين من الرحمة… ميشا ستنزف حتى آخر يوم لها. ‎ ‎ارتجف صدى كلماتها في القاعة المظلمة، والثلج في الخارج يزداد كثافة… كأن السماء نفسها تبكي على ميشا.

2025/08/19 · 19 مشاهدة · 1129 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025