منظمة الإفريقية - تونس
داخل المكتب الأعلى، جلس أكاي على كرسي جلدي أسود ضخم. لم يكن كرسيًا بل عرشًا، ومن يجلس عليه يعرف أنه لا يعيش إلا ليُخطط للخراب. أمامه طاولة طويلة من خشب داكن يلمع في ضوء المصابيح الخافتة، وعليها تقارير، خرائط، ملفات… كلها شواهد على شبكة من الخداع تمتد من أقصى الشرق حتى أعماق الغرب.
وقف جاك أمامه، كتفه مشدود، يداه خلف ظهره،
أكاي (ابتسم ابتسامة باردة، وصوته يقطّع الصمت):
– أتعلم يا جاك… لا أدري ماللذي تفعله فرقة هناك و لكن أظن أن ما فعلته فرقة أوڨا لم يكن مجرد ضربة عشوائية. لا… بل كان خيطًا من الخيوط التي كنا نبحث عنها منذ زمن بعيد.
أكاي (ضرب الطاولة بإصبعه كأنه يقرع على نعش):
– أفراد عائلة أودجين. خمسٍ وعشرين سنة لم يُمسّ أحدهم… واليوم؟ ها نحن أمام كسرٍ في السلسلة. ههههههههه، وأخيرًا يا جاك… وأخيرًا فُكّت الشفرة!
ضحك أكاي ضحكة مجنونة كأنها طعنة في جوف الليل، فارتعش ضوء المصابيح.
جاك (متحفظًا):
– لكن ، إن علم "السيد" أن فرقة أوڨا تدخلوا في المعادلة، فإن البطاقات ستتبدل كلها…
أكاي (انحنى إلى الأمام، يلمع الشر في عينيه):
– "السيد "؟ هه… لا، لن أخبره. نحن لا نخبر الملك عن كل قطعة تتحرك على رقعة الشطرنج. بعض الأحجار لا تستحق أن تُذكر. سنترك فرقة أوڨا تتحرك كما تشاء… وكل خطوة يخطونها، ستكون في مصلحتنا نحن، لا غير.
جاك (بتنهيدة):
– إذن كما توقعنا… ذلك الثعلب، ديميتري، هو من يحرك كل شيء.
أكاي (أشعل سيجارة، ونفث الدخان وكأنه يرسم خريطة في الهواء):
– نعم. أولاً… أعطى لأوڨا معلومات عن المنظمة الأمريكية، ثم سلّم أدلة تُشير إلى أنه هو من سرّب لهم. وهكذا… دفع "السيد" لاستئجار أودجين كي يقتلوه.
(ضحك مرة أخرى، ضحكة قصيرة هذه المرة)
ثم بعدها، عقد اتفاقًا سريًا مع أوڨا: "ساعدوني على الإطاحة بأودجين، وأنا أغذّيكم بالمعلومات".
جاك (هز رأسه):
– لكن لماذا؟ ما غايته؟ ما الذي يجعله يخاطر باللعب مع وحش مثل أودجين؟ وهل هذا هو السبب نفسه الذي دفعه قبل خمس سنوات لتسريب الملفات إلى ماركس، الرئيس السابق للمنظمة؟
أكاي (عينيه لمعتا مثل سيفين في الظلام):
– ربما. ربما لا. لا يهم. ما يهمنا أننا الآن نعرف. لقد تبيّن الطريق يا جاك. أما غايته؟ من يهتم؟
(ضرب الطاولة بيده)
في النهاية، كلهم يسقطون.
ساد صمت ثقيل. كان يسمع فيه أنفاس المكتب، صوت عقارب الساعة، حتى حفيف الدخان بدا وكأنه يكتب أسرارًا على السقف.
جاك (بصوت منخفض):
– … ما الذي ستأمر به فرقتك الآن؟
أكاي (ابتسم ابتسامة واسعة، شريرة):
– هاهاها… يا جاك، لقد حان الوقت لتغيير الهدف. لن نواجه عصابة الثعالب ، لا. .
(رفع يده وكأنه يحيط العالم بأصابعه)
سنساعد في الإطاحة بأودجين… لكن بطريقة غير مباشرة.
جاك (بتعجب):
– كالعادة… جنونك لا يتوقف. أتظن أنك لن تكرر الخطأ نفسه الذي ارتكبته؟
أكاي (انفجر ضاحكًا بصوتٍ عالٍ جعل النوافذ ترتجف):
– الخطأ؟ ههههههه. أي خطأ؟ تلك لم تكن خسارة، بل تجربة. والآن، لدينا فرصة ذهبية، لا تتكرر إلا مرة في عمر.
(اقترب أكثر، همس بصوت مسموم):
– أودجين سيحملون دمهم بأيديهم… سيأتون بكل قوتهم للانتقام من عصابة الثعالب. وحينها… سيصطدمون مباشرة بفرقة أوڨا.
جاك (ابتسم نصف ابتسامة):
– ولن يكون هناك فائز.
أكاي (أشار إليه بإصبعه كأنه يبارك كاهنًا):
– بالضبط. سيظن الجميع أنهم يتقاتلون حتى الفناء. لكن الفائز الوحيد… هو نحن.
ابتسم جاك أخيرًا، رغم أنه يعرف أن الجنون يقطر من كل كلمة قالها أكاي.
فكر في نفسه: هذا الرجل لا يلعب بالورق… بل يلعب بأرواح البشر كأنها دمى.
في تلك اللحظة، ارتفع صوت الرياح خارج المكتب كأنها صفير الموت نفسه.
أكاي جلس للخلف، سحب نفسًا عميقًا من سيجارته، ثم قال بنبرة هادئة، باردة، لا تشبه البشر:
– يا جاك… العالم ليس سوى رقعة شطرنج. كل ملك… لا بد أن يسقط.
موسكو
أضواء النيون تنعكس على الثلج المتراكم كأنها دماء متجمّدة على أرض بيضاء.
المتاجر لا تزال مفتوحة، أصوات أجهزة التدفئة الداخلية تختلط مع صرير الرياح الباردة، والناس يهرولون بين الممرات كأشباح بلا وجوه، يبحثون فقط عن الخبز والسجائر والدفء.
في زاوية مغازة كبيرة، يقف تشاي بثيابه السوداء، يمد يده ببرود نحو رف المقرمشات، كأن الحياة لم تعد أكثر من طعام رخيص يملأ الفراغ.
خلفه، وبشكل متوازٍ تقريباً، كان يقف رجل آخر يمد يده إلى رف مختلف. لم يكن ينظر إليه مباشرة، لكن شيئاً في الهواء بينهما اهتزّ.
صوت خافت، منخفض، مليء بالذكريات قال:
الرجل: "أهلاً بك… كيف حالك يا صديقي القديم؟ لقد اشتقنا إليك."
تشاي. لم يستدر فوراً، بل ظل يحدّق في كيس رقائق الذرة، كأنه يحاول قراءة أسرار العالم في تلك الرسوم البسيطة. ثم قال بصوت خشن:
تشاي: "فريدن… اهلا بك
التفت ببطء، عينيه كانتا باردتين كجليد سيبيريا.
ابتسم فريدن ابتسامة عرجاء، نصفها صداقة ونصفها خيانة.
فريدن: "سمعت أن خطتك تغيّرت."
تشاي: "نعم… لقد ماات أحد حمقى أودجين، أو بالأحرى… جعل فضوله يقوده نحو الهاوية. ولكن بمجرّد موته، انفتح أمامي طريق لم أكن أحلم به.لقد تصادم هو و احد أعضاء الثعالب
ضحك فريدن ضحكة جافة، ثم اقترب خطوة، أخذ عبوة حليب بارد من الرف، قلبها في يده وكأنه يزن مصير قارة بأكملها.
فريدن: "الآن فهمت. . إذاً خلال ثلاثة أيام… سنكون أمام مقر العصابة. سأحتاج فقط إلى شيء صغير، أيّاً من ملابس ذلك الأحمق الميت. دماؤه، عرقه، أي أثر منه يكفي لكي أفتح الطريق."
هنا توقّف تشاي فجأة، عروقه في رقبته نبضت، عيناه اشتعلتا كمن سمع شتيمة مباشرة لأمه.
اقترب خطوة للأمام حتى التصقت كتفه بكتف فريدن، وصوته صار كزئير مكتوم:
تشاي: "إياك يا فريدن… إياك. أنا وحدي من يملك الحق في شتم أودجين. أنا لعنته، أنا وريثه، أنا سيفه المكسور. لكنك أنت؟… لا تملك هذا الحق أبداً."
ساد صمت مرعب للحظة، حتى آلة التدفئة في المغازة أصدرت صوتاً غريباً، كأنها تعكس توتر الموقف.
خفض فريدن عينيه وقال:
فريدن: "آسف… لم أقصد أن أتجاوز حدودي.
أمسك تشاي كيس المقرمشات بقبضة قوية حتى كاد يتمزّق، ثم تركه يسقط على الأرض.
انحنى ليلتقطه رجل مسنّ يمر بجانبهما، نظر إليهما بخوف كأنهما شياطين خرجوا من الثلج، ثم أسرع مبتعداً.
أدار ظهره وخرج من المغازة بخطوات بطيئة، والثلج بالخارج يصفّر كأنه يبارك كلمات نذير الموت.
أما فريدن، فظل واقفاً بين الرفوف، يمسح بيده على عبوة الحليب،
خرج هو الآخر، تاركاً وراءه الممر بارداً، كأن الرفوف المعدنية نفسها ارتجفت خوفاً مما سيحدث.