22:00

قصر أودجين كان يغطّ في صمت يشبه قبراً لم يُرد دفنه أحد. جدرانه الملطخة برطوبة الليل، نوافذه التي ارتجفت من صفير الرياح، والسماء المظلمة التي بدت كأنها تلعن كل حجر فيه. وسط هذا السكون، كان هناك جسد وحيد، ممدد على سطح القصر كأنما يبحث عن قبره في العراء.

كوانغ.

ذلك المخلوق الذي لم يعد بشراً خالصاً، ولا وحشاً كاملاً. عيناه كانتا تتأملان الفراغ وكأنهما تقرأان نصاً خفياً مكتوباً على صفحة السماء. ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة ملتوية، ابتسامة مجنون اكتشف أن موته سيكون ألذ من حياته.

همس لنفسه:

ــ "مات بيوم... إذن، أحد أبناء الثعالب افترسه. هه! هههه! أوووه، يا للمهزلة... نحن نظن دائماً أننا في قمة السلسلة، نحن السادة، نحن الخالدون... ثم يظهر ظل مجهول ليكسر أعناقنا كأعواد ثقاب. أليست هذه الكوميديا أبدية؟"

ضحكته اخترقت جدار الليل. ضحكة لم تكن ضحكة بشر، بل أشبه بجرس مكسور يرنّ في مقبرة.

رفع يده أمام وجهه، أصابعه ترتعش بجنون. وفجأة خرجت أظافره، طويلة، رفيعة، تتحول ببطء إلى مخالب حادة كالسكاكين. تأملها وكأنها أسرار خفية لا تخصه.

ــ "أوووه، كم هذا مثير... جسدي يرتعش شوقاً للدماء. بيوم الحقير حصل على النهاية التي حلم بها... قتال يليق بجنوننا. أما أنا؟ أما أنا... فأنا عالق هنا بين الضحك والجنون."

أغلق عينيه لحظة، ثم استلقى على ظهره. السطح البارد كان أشبه بلوح حجر مخصص للذبح. تنفس بعمق، كأنما يريد أن يبتلع ليل المدينة كله.

ــ "كم أريد أن تكون نهايتي هكذا... قتال، دماء، جثة ممزقة، ابتسامة متشققة. أريد أن أُكسر! أريد أن أُقتل! أريد أن أذوب في ضحكةٍ تبتلعني حتى آخر نفس!"

مد يديه إلى السماء، كأنه يتوسل للظلام أن ينزل ويخنقه. عيناه ارتجفتا بجنون، وصوته انكسر إلى نشيج وضحكة معاً:

ــ "ياااه، ما أتعس أن نعيش طويلاً. الخلود لعنة، والضحك في قبضة الموت هو الخلاص الوحيد."

الرياح عصفت بشعره، ملأت الفراغ حوله وكأنها تستجيب لجنونه. وبينما كان يضحك، كان القصر العجوز يئن تحته، كأنه يدرك أن هذا المجنون سيحوّله يوماً ما إلى مسرح مجزرة...

22:30

موسكو...

مدينة الثلج والدخان، حيث لا يُرى الوجه الحقيقي لأحد خلف الغبار الأبيض الذي يغطي الأرصفة. هناك، في قلب حيّ قديم يعجّ بالرطوبة والفئران، جلس ديميتري على كرسي خشبي متشقق، يحدّق إلى جثة ملقاة أمامه.

رجل ميت، عيناه متسعتان حتى كأنهما لم تصدقا أن الموت أتى بهذه السرعة. على وجهه آثار سكين، جرح غائر شقّ ابتسامته نصفين. ديميتري لم يكن ينظر إليه كرجل مات، بل كصفحة كتاب انتهى من قراءتها.

رفع كأس الفودكا أمامه، صوته العميق يقطع الصمت:

ــ "إذا مات أحد أعضاء أودجين... فهذا يعني أننا قطعنا خطوة جيدة. دم واحد منهم يعادل مئة خطوة نحو النصر."

لكن السكون لم يدم.

من خلفه، اخترق صوت أنثوي بارد الغرفة:

ــ "لكن نولان مات أيضاً."

كان الصوت يحمل كسراً واضحاً، خليطاً من مرارة وحنين، لكنه مغلّف بجليد أنثوي قاتل. التفت ديميتري ببطء، فرأى أولغا واقفة في العتمة، كتفيها يرتجفان من برد موسكو، لكن عينيها مشتعلة بلهيب لم ينطفئ.

ابتسم ديميتري ابتسامة ثقيلة:

ــ "لم تذهب تضحيته سُدى يا أولغا. هو مات لكي تبقى الخطوة التالية ممهدة لنا."

أولغا أغمضت عينيها لحظة، صوتها خرج متقطعاً، بين وجع امرأة وحزم محاربة:( ببرود تام و كأن نولان لا شيء )

ــ "لا يهم... كنت أحبه، بل أعشقه... أما الآن فهو مجرد ذكرى ميتة. لا بأس... سنكمل ما بدأه، ولو كان على جثثنا."

ضحك ديميتري ضحكة قصيرة، كالحديد وهو يُطرق:

ــ "أحسنتِ، يا أولغا. هذا ما يجعلنا مختلفين عن بقية الحثالة. نحن نأكل حزننا، ونحوّله إلى سلاح. رغم المأساة التي حلت بنا، نحن الآن أقرب من الفوز أكثر من أي وقت مضى."

اقتربت أولغا، انعكاس النار من المدفأة الخافتة أضاء وجهها، مظهراً دمعة لم تسقط بعد:

ــ "لكن... ماذا ستفعل الآن؟ أنا أظن أن أفراد أودجين سيأتون إلى هنا جوعى للانتقام. ألن نكون جميعاً طعماً لهم؟

صمت ديميتري للحظة. عيناه كانتا أشبه ببحيرة مجمدة، تحتها وحوش نائمة. ثم قال ببطء، كل كلمة كأنها رصاصة:

ــ "لا. نحن لن نكون الطُعم هذه المرة. نولان وحده كان الطُعم... السمكة الكبيرة ابتلعت الطُعم، وانكشفت. الآن، فرقة أوڨا تعرف أن أغلب عصابة أودجين ستأتي ... في موسكو. وهذا يعني أن لا أهمية لوجودنا نحن. لقد صرنا خارج المشهد... وهذا ما يمنحنا القوة."

اقترب منها أكثر، يده الثقيلة على كتفها:

ــ "سنبقى متخفين، نتحرك كالأشباح. سنترك فرقة أوڨا تذبح البقية، ونحن سنكون يدها الخفية. العالم لا يتذكر من حرك الخيوط... بل من وقع في الفخ. ونحن... نحن صُنّاع الفخاخ."

تراجعت أولغا خطوة، تفكّر بكلماته، ثم ابتسمت ابتسامة صغيرة ممزوجة بدمع حار.

ــ "أجل... نولان كان السمكة التي نزفناها للبحر. أما نحن... سنكون الشبكة التي لن يراها أحد حتى يفوت الأوان."

في الخارج، عوى كلب ضال بين شوارع موسكو المغطاة بالثلج. الرياح ضربت النوافذ وكأنها تريد اقتلاع المكان من جذوره. الجثة أمام ديميتري بقيت صامتة، شاهدة على بداية فصل دموي جديد.

رفع ديميتري كأسه، وقال بصوت كئيب كأنما يخاطب الموت ذاته:

ــ "لأجل موسكو... لأجل الدم... ولأجل أخي ماركس ."

ارتشف جرعته الأخيرة، وفي عينيه انعكس وعد مظلم: أن القادم سيكون أكثر برودة من جليد موسكو نفسها.

أريد رأيكم 😁

2025/08/31 · 5 مشاهدة · 790 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025