‎في مكان آخر من موسكو…

‎الثلج كان يهطل بكثافة غريبة، حتى أن الهواء نفسه بدا وكأنه يتجمد.

‎داخل غرفة معتمة، مصابيحها تتأرجح بفعل الرياح، جلست فرقة بيق وان متحلقين حول طاولة خشبية قديمة.

‎صوت خطوات بطيئة قَطع الصمت.

‎كانت مين، تضع يديها خلف ظهرها، ونظرتها ثابتة:

‎"إذن… تأكدنا. ذاك الرجل كان من أفراد أودجين. وفرقة أوڨا… كانت تلاحقه مثل كلاب الصيد. من الأول "

‎رفع كرن رأسه، عيناه نصف مغمضتين، وصوته بارد:

‎"هذا يعني أننا على وشك الدخول في لعبة مميتة. مواجهة أودجين ."

‎جاي شن ضرب الطاولة بيده:

‎"السيد أكاي وضعنا في فم البركان. لا مخرج لنا سوى الحرق أو النجاة بمعجزة."

‎ارتفع صوت هاكو، ساخرًا لكن مشوبًا بالخوف:

‎"أية معجزة؟ فرقة موريس كانت مساوية لنا في القوة… ومع ذلك أُبيدت كليًا. مجرد لقاء بواحد من أودجين يعني أن النهاية قد كُتبت."

‎أشعلت مين سيجارة، دخانها تلاشى في هواء الغرفة المتجمد:

‎"لن نواجههم مباشرة. مهمتنا واضحة: تحديد الإحداثيات وإرسالها إلى أكاي. لا أكثر."

‎لكن جاي شن قاطعه، حاجباه متجعدان:

‎"مهمتنا قد تكون انتحارًا مقنّعًا. على فكرة… هل مازالت ريكو تتبع ذلك الرجل؟"

‎أجابت مين بثقة، وهي تنفث الدخان:

‎"نعم. وأفادت أن هناك رجلًا آخر انضم إليه. الآن أصبحا اثنين."

‎تقدّم هاكو، عيونه تلمع بالقلق:

‎"إثنان من أودجين… هذا لم يعد مجرد تتبع. إنهم يتجمعون. الانتقام هو غايتهم."

‎ثم ضرب الطاولة بعنف:

‎"لماذا لا نُرسل موقعهم مباشرة إلى أكاي؟ فلتأتِ فرقة أوڨا وتعدمهم فورًا. هذا أذكى خيار."

‎ابتسمت مين بمرارة:

‎"أكاي يعرف. ومع ذلك، أمرنا بمتابعتهم. هل تفهمون ماذا يعني ذلك؟"

‎صمت ثقيل خيّم على المكان. كل واحد منهم شعر بالبرودة تخترق عظامه، ليست من الشتاء فقط، بل من فكرة أن أكاي… ربما يستخدمهم كقطع شطرنج.

‎أخيرًا همس كرن:

‎"إن كان هذا اختبارًا… فنحن لسنا اللاعبين. نحن البيادق."

‎موقع معركة بيوم و نولان

‎الرياح تصرخ مثل وحش جائع…

‎الثلج لا يسقط، بل يُقذف في السماء كما لو أن الشياطين تنفثه.

‎المكان… ساحة خراب. الأرض مشققة، الصخور متناثرة، وأشجار الغابة انكسرت كأنها قصبات هشّة. رائحة الدم كانت تختلط مع البرد… جاعلة الهواء سُمًّا باردًا.

‎وقف فريدرن، معطفه يتمايل بعنف، عيناه تضيقان وهو يراقب المشهد.

‎ضحكة ساخرة خرجت من بين أسنانه:

‎"هاها… أوه، معركة عنيفة جدًا وقعت هنا. لم أتفاجأ… هذا المتوقع من أقوى القتلة في العالم… أودجين والثعالب."

‎بجانبه، كان تشاي يثبت قدميه بصعوبة في العاصفة، صوته غاضب لكنه متماسك:

‎"كفى هراءً. لننفترق… ابحث عن أي أثر يخص أحد الثعالب."

‎فريدرن رفع يده إلى أذنه وكأنه لم يسمع، ثم انحنى مبتسمًا ابتسامة ساخرة:

‎"عذرًا يا تشاي… الريح أقوى من أن تسمح لي بسماعك."

‎لكن عينيه كانتا تقولان شيئًا آخر: هو يسمع… لكنه فقط يسخر.

‎تشاي بصق على الأرض:

‎"انسَ الأمر. انظر هناك… قطعة قماش صغيرة. لا تخص بيوم… هذا أكيد. هذه له."

‎انحنى فريدرن قليلًا، يلتقط القماش، يشمّه…

‎لكن قبل أن يعلّق، لمح شيئًا أبعد، جثة ملقاة.

‎فتح عينيه فجأة، نبرة صوته تحولت إلى جدية غامضة:

‎"تشاي… انظر. هناك."

‎جثة بيوم، ، ملقاة على الأرض.

‎لكن الرأس… ليس موجودًا.

‎انفجار مزّق جمجمته بالكامل.

‎اقترب تشاي، وجهه جامد، لكنه بدا كأنه يحارب رعشة داخلية:

‎"غريب… بيوم فجّر نولان ، هذا نعرفه ماهو ظاهر من بقايا اللحم الخاص به لكن متى قتل نولان بيوم؟ وكيف انفجر رأسه بعد أن فاز؟ شيء لا يدخل العقل. أشم رائحة طرف ثالث هنا."

‎ركع فريدرن بجانب الجثة، أصابعه تتلمس الدم المتجمد، ثم رفعها إلى فمه وتذوقها.

‎ابتسامة مخيفة رسمها على شفتيه:

‎"نعم… طرف ثالث. لكن… الطرف الثالث جاء متأخرًا. لاحظ… لا توجد أي بقايا لجسده. لا قطعة قماش، لا عظم، لا ظفر. لو كان هنا من البداية، لترك أثرًا. لكننا أمام قاتل… نظيف. قاتل أتى بعد أن مات نولان وانتهى بيوم… ليغلق المسرح بطلقة أخيرة."

‎تشاي عقد حاجبيه:

‎"أغلب أفراد عصابة الثعالب بنفس مستوى هذا العضو… أو أقوى قليلًا. مستحيل أن ينهي أحدهم حياة بيوم بهذه السرعة. هذا الطرف الثالث… لا ينتمي للثعالب."

‎ضحكة مجنونة فجّرت صمت الثلج، فريدرن يمسك رأسه ويميل بجسده كأنه في نشوة:

‎"هاهاهاها! يا تشاي… ضننتك أذكى من هذا. هناك احتمال بديهي… لكنك أعميت نفسك عنه. ماذا لو… بيوم فاز فعلًا؟ سحق نولان في المعركة الأولى. لكن… لكن جسده أنهكه التعب. عندها جاء واحد من الثعالب، لا قوي ولا شيء… فقط ضبع يقتات على بقايا أسد… وأنهى حياته."

‎تشاي صمت لثوانٍ، نظراته حادة كالسيوف، ثم قال:

‎"…معك حق. ربما. لكن لا يهم. النتيجة واحدة. مصيرهم… الإبادة."

‎الثلج ازداد جنونًا. كأن السماء نفسها استمعت إلى كلمات تشاي وارتجفت.

‎فريدرن نهض، يلوّح بقطعة القماش الصغيرة، ابتسامة شيطانية تُغطي وجهه:

‎"لا مشكلة الآن. هذه الخيوط ستقودنا إليهم… كلهم. القماش مشبع برائحتهم. وأنا… الذئب لا يخطئ فريسته، يا صديقي."

‎اقترب من تشاي، وضع القطعة على أنفه، وكأنما يجبره على استنشاقها.

‎"هل تشم ذلك؟ رائحة الخوف… رائحة الذنب… رائحة الدماء القادمة. إنهم هناك… ينتظرون الذبح."

‎رفع تشاي عينيه إلى السماء، الثلج يتراكم على كتفيه، وصوته بارد مثل حد السكين:

‎"كفى كلامًا… ابدأ "

‎صرخة الريح دوّت.

‎خطواتهما تلاشت وسط الثلج… كأن شياطين مظلمة تسير بين أنفاس موسكو المتجمدة.

‎ابتسامة فريدرن بقيت عالقة على وجهه، نصف سخرية ونصف جنون.

‎يده اليمنى كانت لا تزال تحمل قطعة القماش، أما اليسرى فقد مدّها في الهواء… توقفت، ارتجفت، ثم فجأة…

‎'العراف ''

‎انفجر السواد من القماش، دخان كثيف لكنه ليس دخانًا… كان هالة تتنفس مثل كائن حي.

‎من قلب الظلام، انبثق وجه دائري هائل، قذر الملامح، تقاطيعه متشنجة كأنها لعنة قديمة خرجت من قبر.

‎الوجه فتح فمه… لسان مائع تدلّى، وبدأ يلتهم قطعة القماش بشراهة.

‎الصوت كان فاحشًا، نهمًا، كأن العدم نفسه يمضغ اللحم:

‎"غَرررر… غَرررررر…"

‎البصاق الأسود تساقط، يتبخر على الأرض المتجمدة ويترك حُفرًا صغيرة.

‎تشاي لم يتحرك… عيناه تراقبان بصمت بارد، كأنه اعتاد على مشاهد كهذه.

‎بعد لحظات… الوجه توقف. رفع عينيه الفارغتين نحو فريدرن، ثم انحنى، ودخل ببطء في أذنه اليمنى.

‎ارتجف جسد فريدرن للحظة، ثم فتح عينيه وهما تلمعان ببريق غامق:

‎"الآن… الآن أعلم كل أماكن عصابة الثعالب. لنذهب."

‎لكن تشاي أوقفه بإشارة يده، صوته صارم:

‎"لا… ليس بعد. هناك فرد من أودجين يريد الالتحاق بنا. سننتظر يومًا واحدًا."

‎فريدرن رفع حاجبه، ابتسامة ملتوية شقت وجهه:

‎"أودجين آخر؟ عذرًا على جرأتي يا تشاي… لكن أليس هذا مضيعة؟"

‎اقترب خطوة، عيناه تلمعان بجنون:

‎"ألا ترى أنها خسارة أن تنضم يد أخرى إليك؟ أنت كافٍ لوحدك لتبيد العصابة كلها. فلماذا تحتاج إلى شخص قد يعيقك؟"

‎تشاي ظل صامتًا لحظة… ثم نظر مباشرة في عيني فريدرن.

‎ابتسامة لم تكن بشرية ارتسمت على شفتيه، باردة، قاتلة، لكنها هادئة كأنها جملة فلسفية.

‎"لا يا فريدرن… أنت مخطئ. أنت لا تعرف من هم أودجين."

‎فريدرن شعر بقشعريرة تسري في عموده الفقري. للحظة، أحس أن تشاي ليس أمامه… بل هو يرى خلف جسده ظلًا أسود هائل، كأن قارة كاملة من الأشباح تقف خلفه.

‎تشاي أكمل:

‎"أن تنضم يد جديدة… ليس خسارة. بل ضرورة. لأنك… إن رأيت ما نحن حقًا… ستفهم أننا لا نعيش لنقتل، بل نقتل لنُبقي العالم حيًا. هل استوعبت؟"

‎ارتجف فريدرن، لكنه لم يُظهر خوفًا. بل ضحك بخفة، ابتسامة مجنونة:

‎"هاهاها… الآن بدأت أفهم. جميل… جميل جدًا. إذن… فلننتظر. أريد أن أرى… أي وحش آخر سينضم إلينا."

‎الريح دوّت… الثلج صار أعنف.

‎وكأن موسكو نفسها حاولت أن تطمس كلماتهم في العاصفة… لكنها لم تستطع.

2025/09/04 · 4 مشاهدة · 1227 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025