جلس تشاي في زاوية مظلّلة من حديقة الألعاب في مدريد، مرتديًا معطفه الأسود الطويل الذي يعكس حر الشمس، الهواء الدافئ يلامس بشرته، لكنه بدا غير مكترث، وكأن جسده فقد الإحساس بالعالم من حوله. كانت الحديقة تعجّ بضحكات الأطفال، أصواتهم تتعالى بين أرجوحة تصدر صريرًا خافتًا وألعاب دوارة تملأ المكان بالحركة. عيناه السوداوان تراقبان المشهد بصمت، بينما ذهنه يغوص في أعماق ذكرياته.
ظهرت صورة آني فجأة في عقله، فتاة ذات ابتسامة ناعمة وعينين كانت تشعّان بالأمل. تذكر اللحظات التي قضاها معها، كيف كانت تضحك على نكاته السخيفة وكيف كانا يتقاسمان لحظات هادئة تحت سماء صافية تعكس زرقة البحر الأبيض
تشاي (في نفسه):
> "جئتُ إلى مدريد لتنفيذ مهمة… تم استئجاري لقتل مشرفي المزاد، لا أكثر. كنت أعرف تفاصيل الأسماء، المواقع، وكل نقطة ضعف يمكن أن أستغلها. كل شيء كان بسيطًا… حتى ظهرت هي.
اللعنة… أظنّ أنني وقعتُ في علاقة حب.
قاتل… يُحب؟
هذا ليس عدلًا.
لم أفهم كيف حدث هذا… أنا؟ لا أملك رحمة، لا أملك قلبًا ينبض بشيء سوى الدماء الباردة. تربّيت على القتل، على التجاهل، على الصمت. لم أتعلم كيف أبتسم، فكيف تعلمتُ أن أشتاق؟
كيف لقلبي الحجري أن يقع في حب تلك الفتاة؟
كيف لملامحها أن تخترق أعماقي وتترك هذا الشرخ في داخلي؟
هل هذا ضعف؟ هل هذا فخ؟ أم أنني ببساطة… تأخرتُ في إدراك أنني إنسان، رغم كل شيء؟"
أنت، نعم أنت الذي تقرأ كلماتي الآن... هل تودّ أن تعرف شيئًا عن ماضي؟
لا تتوقع الكثير… حتى أنا لا أعرف سوى جزء صغير من القصة التي سأرويها.
وربما… لن أعلم أبدًا كل شيء.
قبل 31 سنة
طوال سنواتٍ طويلة، كان اسمي مجرّد همساتٍ تتردّد في الظلام، لكن الآن... أدركت حقيقتي. أدركت أنني "تشاي"، من سلالة أودجين، تلك السلالة التي شُبعت بالدم والنار، ووُصمت كل أفعالها بالخوف والدمار.
أنا قاتل.
لا رحمة في قلبي.
لا مكان للضعف في صدري.
إني كائن وُلد من الفوضى، ولا أعرف سوى تدمير العالم من حولي.
كنتُ طفلًا صغيرًا، في كوخٍ مهدّم يقع وسط الجبال، حيث كان البرد أقوى من النهار، وكانت الجدران تتنفس الظلام. لا أستطيع أن أتذكر سوى الهمسات، والظلال التي كانت تزحف بين الزوايا. وجوهٌ تتلاشى، ملامح غامضة، باستثناء رجلٍ واحد طويل، وجهه قاسٍ كالحجر، وعيناه مملوءتان بالهلاك. كانت خطواته الثقيلة تمنح الأرضَ إحساسًا بالجحيم.
وكانت هناك امرأة.
امرأةٌ هزيلة، وجهها مشوّش في ذاكرتي، لا أستطيع تذكّر تفاصيله، لكنّي لا أنسى لمسة يديها. تلك اللمسة التي كانت تُطعمني ببطء، كما لو أنها تحاول إقناعي أن في الحياة بعض الأمل، رغم أن العالم لا يعرف شيئًا عن الرحمة.
كانت تبتسم لي ابتسامة ناعمة... لكنها غريبة. لم أفهمها، لا أعرف، هل كانت تبتسم أملًا؟ أم أن تلك الابتسامة كانت مجرّد استسلامٍ لحياةٍ ملؤها الألم؟
كل يومين، كان أحدهما يأتي ليتفقّدني.
أما الرجل، فكان لا يتوقف عن الهجوم بكلمات قاسية، وكأن كل كلمة منه كانت تسحب منّي أنفاسي، تُذكّرني أنني لستُ سوى عبء على هذا العالم.
أما هي، فكانت تأتي أحيانًا. وجهها مضيء كالقمر، تفتح الباب، وتتسلل نور خافت، يكفي فقط لأرى عينيها… عيناها دامعتان، ممتلئتان بالشفقة، لكن خلفهما حزنٌ عميق لا أفهمه.
عندما كانت تلمسني، أشعر بشيء غريب… دفء، أمان، لكنه كان سريع الزوال.
تهمس لي بكلماتٍ لا أفهمها، لكنها تجعلني أشعر أنني حيٌّ للحظة. ثم ترحل… ويُغلق الباب بصوتٍ ثقيل، ويختفي النور معها.
ثم يأتي هو... ظلّه يسبق حضوره، ثقيل كالجحيم. خطواته تُهز الأرضية المهترئة، ووجهه صارم مثل صخرة لا تتحطم. لا يبتسم أبدًا، وعيناه كالسكاكين تمزقان الهواء قبل أن تنظران إليّ.
أشعر بالخوف حين يقترب، لكني لا أجرؤ على الهرب.
بعد أن يغادر، يعود الليل ليفرض قبضته عليّ.
تمرّ الدقائق، والساعات، والأيام…
أحيانًا، أغني لنفسي بصوتٍ منخفض، لكن صوتي يضيع في الفراغ.
أحيانًا أرسم خطوطًا على الأرض بأصابعي، أحاول أن أفهم شيئًا في هذا الفراغ الذي يبتلعني.
البرد ينهشني كوحشٍ جائع، والجوع لا يتركني أبدًا.
أحلم أحيانًا بالشمس، أحلم بالدفء، بالركض في الحقول، لكن عندما أفتح عينيّ، أجد نفسي هنا، في هذا الكوخ، في الظلام.
ربما يومًا ما، سيفتح الباب…
ولن يُغلق أبدًا.
ربما يومًا ما، سأخرج من هذا المكان، وأعرف ما يعنيه أن أكون حرًّا.
لكن الآن… فقط الآن،
أنا مجرد نقطة ضائعة في ليلٍ بلا نهاية
... أنا هنا، وحدي.
في إحدى الليالي، بينما كنت أتكوّر في زاويتي المعتادة، سمعت صوتًا غريبًا تحت السرير. لم يكن الريح هذه المرة، بل صوت ناعم، كأن شيئًا صغيرًا يتحرك ببطء. حاولت ألّا أتنفس، قلبت بصري في الظلام، وعندما التفت نحو السرير، رأيت شيئًا يتحرك هناك.
كان صغيرًا... بالكاد بحجم قطّة، لكن شكله لم يكن طبيعيًّا. جلده أسود بالكامل، كأنه قطعة من الليل نفسه، وعيناه... عينان دائريّتان واسعتان بلون رمادي باهت، تنظران نحوي دون رمش. لم يتحرك. لم يصدر صوتًا. فقط كان هناك، تحت السرير، يراقبني بصمت.
"من أنت؟" سألت بصوت مرتعش، لكن الشيء لم يجب. زحف ببطء خارج السرير، حتى أصبح قريبًا مني. توقّف أمامي، على بعد خطوة أو اثنتين، وعيناه الكبيرتان مثبتتان عليّ. كان مشوَّهًا، كأنه مخلوق ناقص، شيءٌ كان أحدهم صنعه على عجل ونسي أن ينهيه.
لم أستطع أن أهرب، ولم أستطع أن أصرخ؛ لكني لم أشعر بالخوف. لا أعرف لماذا. ربما لأنني كنت وحدي لوقت طويل، وأي شيء، حتى لو كان غريبًا ومشوّهًا، كان أفضل من هذه الوحدة القاتلة.
مع مرور الأيام، بدأ الشيء يظهر بشكل منتظم. لا يتحدث أبدًا، فقط يراقبني. كنت أشعر بعينيه عليّ حتى عندما أُغمض عينيّ لأهرب من الظلام. لكن مع الوقت، أصبحت أعتاد وجوده. بدأنا نصبح أصدقاء بطريقة غريبة.
في الليالي الطويلة، كنت أحكي له قصصًا ألّفتها من الظلام. قصص عن ممالك في العتمة، عن مخلوقات تعيش في الفراغ، وعن أطفال يجدون نورهم في أكثر الأماكن ظلمة. كنت أبتكر هذه الحكايات، ليس لأجله فقط، بل لأجل نفسي أيضًا، كأنني أحاول أن أخلق عالمًا آخر بعيدًا عن هذا الكوخ.
وأحيانًا، كنا نلعب في الظلمة. كنت أركض في أرجاء الكوخ، وهو يركض ورائي بسرعة مذهلة، أصوات خطواته الخفيفة تملأ المكان. كنت أضحك، ضحكًا لم أسمعه من نفسي منذ وقت طويل، وهو... لا يضحك، لكنني كنت أشعر أن عينيه تبتسمان بطريقة ما.
أصبح جزءًا من حياتي، أو ربما أنا أصبحت جزءًا من حياته. لم أعد أشعر بالوحدة كما كنت. صار وجوده يملأ هذا الفراغ القائم بشيء جديد... شيء غريب، لكنه دافئ بطريقة لا أفهمها.
لكنني ما زلت أتساءل: من هو؟ لماذا هو هنا؟ ولماذا
لا يتحدث أبدًا؟