بدأت ألاحظ أمرًا غريبًا بشأن ذلك المخلوق. كلما جاء أحد إلى الكوخ — سواء كانت المرأة الحنون أو الرجل القاسي — كان يختفي. كأن الظلام يبتلعه فجأة. كنت أبحث عنه في كل زاوية، تحت السرير، خلف الألواح الخشبية المتآكلة، لكنه لم يكن يظهر. وعندما يرحلان، يعود مجددًا، وكأن شيئًا لم يكن.
سألته ذات يوم، بينما كنت أجلس في زاويتي، وهو جالس أمامي في صمت كعادته: "لماذا تختفي عندما يأتون؟" لكنه لم يجب. فقط حدّق بي بعينيه الرماديتين الكبيرتين، ثم انزلق ببطء إلى الظل. كان لديه طريقته في الصمت، صمت كأنّ فيه إجابة لا أستطيع فهمها.
وفي إحدى الليالي الباردة، كان الصمت مختلفًا. شعرت بشيء غريب في الهواء، كأن الكوخ نفسه يتنفس معي. كنت أراقبه وهو يجلس عند زاوية الظلمة، ينظر إليّ من غير أن أراه، وعيناه تلمعان بتساؤل في الظلمة. فجأة، رفع رأسه نحوي، وقال بصوت عميق، كأنه صادر من جوف الأرض:
"أنت لا تنتمي لهذا الظلام"
تجمّدت في مكاني. لم أسمعه يتحدث من قبل. صوته لم يكن يشبه صوت البشر، لكنه كان واضحًا ومليئًا بشيء لا أستطيع تفسيره — حزن؟ حكمة؟ خوف؟
"هذه الظلمة ليست مكانك، لكنها جزء منك الآن. إذا أردت الخروج منها، يجب أن تكون مستعدًا للتخلي عن كل شيء."
قلت بتلعثم: "كيف؟ ماذا تقصد؟"
اقترب ببطء. كان يتحرك بصمت مطلق، كأن خطواته لا تلمس الأرض. عيناه لم تتركاني للحظة، ثم قال:
"الحياة ليست ما تراه هنا. ليست هذه الجدران المتهالكة، ولا الظلام الذي يلتهمك كل ليلة. الحياة هي الضوء الذي تراه للحظة عندما تفتح المرأة الباب. لكنها ليست مجانية. إذا أردت الخروج من هذه الظلمة، إذا أردت أن ترى النور وتعيش في العالم الذي تحلم به... عليك أن تقدم جسدك."
شعرت بقشعريرة تسري في جسدي. "جسدي؟"
أومأ ببطء.
"جسدك هو التضحية. الظلام الذي يسكنك يريدك، لكنه لن يتركك إلا إذا أعطيته شيئًا مقابل حريتك. إنه الثمن الذي عليك دفعه. فقط عندما تتخلى عن كل ما أنت عليه، ستجد الطريق إلى النور."
لم أستطع أن أتكلم. بقيت أنظر إليه، بينما عيناه تزدادان عمقًا، كأنّهما تريدان ابتلاع روحي. في تلك اللحظة، لم أعد أُميّز بينه وبين الظلام المحيط بي.
كان جزءًا منه، أو ربما كان هو الظلام ذاته، يختبرني، يضعني أمام خيار لم أفهمه بالكامل.
لم أجب. بقيت هناك، أنظر إليه بصمت، بينما الأفكار تتصارع في رأسي. ماذا يعني أن أقدم جسدي؟ ماذا يعني أن أترك هذا الظلام؟ وهل أستطيع حقًا أن أعيش في النور، بعد أن أصبحت جزءًا من هذا العالم المظلم؟
لم أُجب. لم أتحرك. لم أقرر. بقيت جالسًا في زاويتي، وهو جالس في الظل، يراقبني بصبر، كأنه ينتظر قراري.
الأيام أصبحت ثقيلة، والكوخ أكثر ظلمَة مما كان عليه. لم يعد يظهر كما كان. في البداية كان يختفي فقط عندما يأتي الآخرون، لكنه الآن بالكاد يظهر حتى في الليالي التي أكون فيها وحدي.
كنت أجلس لساعات طويلة، أبحث عنه في كل زاوية، في كل ظل، لكن دون جدوى. وعندما كنت أستسلم، يظهر أخيرًا. كلمات محفورة على الجدران تلمع، شعوب بدون أكثر عناق يشبه النار:
"اختر"
"مت"
تتكرر الكلمات في أماكن مختلفة، وكأن الكوخ نفسه بدأ يتحدث. في إحدى الليالي، بينما كنت أجلس في زاويتي المعتادة، شعرت بشيء بارد يلامس وجهي. لم يكن ريحًا، بل كأنه همس عابر.
بالطبع، إليك النص مكتوبًا كما ورد في الصور:
التفتّ بسرعة، وهناك رأيته، يقف في ركن مظلم، بالكاد يظهر جسده في العتمة، لكن عيناه الرماديتين تلمعان كأنهما الضوء الوحيد في هذا الليل الثقيل.
لم أستطع منع نفسي من سؤاله: "لماذا تكتب هذه الكلمات؟ ماذا تريد؟"
لكنه لم يجب، كما هي عادته. اقترب بخطوات بطيئة، ببرودة غريبة تنبعث منه. للحظات طويلة لم يتكلم، فقط حدّق في الفراغ أمامه، وكأنه يرى شيئًا لا أراه.
ثم قال بصوت منخفض، كأنه يتحدث لنفسه أكثر مما يتحدث لي:
"الحياة ليست كما تظنها. إنها ليست النور أو الظلام. إنها اختيار مستمر بين الألم والمعنى، بين النجاة، لكن ماذا لو كان النور قناعًا آخر؟ ماذا لو كان الألم هو الحقيقة الوحيدة؟"
حاولت أن أفهم، لكن كلماته كانت أثقل من عقلي الصغير. قلت له بصوت مرتجف:
"أنا لا أفهم. ما الذي تريدني أن أختاره؟"
أدار رأسه نحوي ببطء، وعيناه ترتدّان لمعانًا في الظلام.
"كل شيء في هذا العالم هو اختيار. حتى البقاء في هذا الظلام... هو اختيار. لكن الاختيار الحقيقي ليس بين النور والظلام. إنه بين أن تكون... أو أن لا تكون."
صمت للحظة، ثم أضاف:
"أنت هنا الآن، لكنك لست حيًّا. أنت مجرد ظل آخر في هذا الكوخ. إذا أردت أن تعيش، عليك أن تختار أن تترك كل شيء وراءك، أن تكون مستعدًا للتخلي عن نفسك كما تعرفها. والّا... فالخيار الآخر. لكن حتى الموت ليس مروّعًا، إنما عودة إلى هذا الظلم الذي تعيش فيه الآن."
كانت كلماته كالسكاكين، تحفر في عقلي الصغير. شعرت بالبرد يتسلل إلى عظامي، لكنني لم أستطع التوقف عن الاستماع:
"لماذا تقول هذه الأشياء؟ لماذا أنا؟"
اقترب أكثر، حتى شعرت بأنفاسه الباردة على وجهي:
"لأنك مختلف. لأنك تستطيع أن ترى الظلام والنور كليهما، لكنك لا تنتمي لأيّ منهما. أنا هنا، لكني لست معك. الناس يرضون بأن النور هو الرفاق، لكن الرفاق لا يبقون للأبد. في النهاية، عليك أن تختار طريقك بنفسك."
همساته كانت كالعاصفة، كلماته ثقيلة، ومعانيها تتجاوز ما أستطيع فهمه. بقيت صامتًا، أنظر إلى الجدران التي تزدحم بالكلمات الدامية:
"اختر." "مت."
شعرت بأن الكوخ كله يراقبني، كأنه ينتظر مني إجابة.
في تلك الليلة، لم أستطع النوم. ظللت أجلس في الزاوية، أفكر في كلماته، أحاول أن أفهم ماذا يريد. وبرغم كل شيء، كنت أشعر بشيء غريب داخلي، شيء يهمس لي أن النهاية قريبة، وأن علي أن أكون مستعدًا لما سيأتي.
في ليلة أخرى من ليالي الوحدة الطويلة، بينما كان الظلام يغطي كل شيء، نظرت إليه وهو يجلس بهدوء في الزاوية، يحدث في العدم بعينيه الصامتتين، كما لو أنه نسي الحقيقة التي برزت في قولهما منذ وقت طويل. قلت بصوت خافت:
"من هما الرجل والمرأة؟"
لم يتحرك. ظل صامتًا كعادته، لكنني شعرت أن عينيه أصبحتا أكثر عمقًا، كأنهما تخبئان شيئًا لا أستطيع رؤيته. بعد لحظات طويلة، همس بصوت غريب، كأنه آتٍ من مكان بعيد جدًا:
"يجب أن تنساهما يومًا ما."
صعقتني كلماته. "أنساهما؟ كيف أنساهما؟ كيف أنساهما؟ هما الشيء الوحيد الذي يربطني بشيء خارج هذا الكون. المرأة تمنحني دفئًا، حتى لو كان قليلاً، والرجل... رغم قسوته، هو الحقيقة التي أعيشها."
هزّ رأسه ببطء، وقال:
"هما ليسا ما تظنهما. يومًا ما، ستدرك أن وجودهما هنا مجرد جزء من هذا الظلام. وعندما يحين الوقت، ستعرف أنك بحاجة لأن تتذكرني أنا... وليس أي شيء آخر."
شعرت بالحيرة والغضب في آنٍ واحد. "إن كنت صديقي، فلماذا تتركني دائمًا؟ لماذا تختفي عندما أحتاجك؟"
اقترب مني ببطء، عيناه تلمعان في الظلام، وقال:
"الصديق، ليس كما تظنه الكثيرون. الأصدقاء، مثل الظلال، يظهرون عندما تكون الشمس مشرقة، لكنهم يختفون في الظلام. هناك دائمًا شيء مخبأ تحت السطح."
صمت للحظة، ثم أضاف بصوت عميق:
"دعني أحكي لك قصة. كانت هناك صداقة بين اثنين. الأول كان يحب صديقه بصدق، يرى فيه النور، ويعتبره جزءًا من حياته. لكنه لم يعلم أن الصديق الثاني يحمل في قلبه غيرة وحقَدًا، كالنار التي تأكل نفسها. كان الأول يتحدث عن أحلامه، عن إنجازاته، وكان الثاني يبتسم، لكنه في داخله يشعر بالكراهية.
ومع الوقت، لم يستطع الثاني تحمل هذا الشعور. بدأ يحاول إزعاج الأول، يستفزه، يقلل من إنجازاته، ليس لأنه يكرهه، بل لأنه لا يستطيع تحمل نجاحه. كانت سنوات طويلة من الصداقة، لكنها كانت بُنيت على أساس هش."
وفي النهاية، قرر الثاني أن يغدر بالأول. لم يكن الغدر في فعل مباشر، بل في كلمات، في أفعال صغيرة تترك أثرًا كبيرًا. الأول لم يفهم أبدًا لماذا حدث هذا. كان يظن أن الصداقة تعني الوفاء، لكنه تعلم أن الصداقة أيضًا قد تعني الألم."
نظرت إليه، أشعر بأن كلماته تخترقني. "لكن لماذا؟ لماذا يفعل الأصدقاء ذلك؟"
رد بهدوء:
"لأن البشر مخلوقات معقدة. الحب والكره يمكن أن يتواجدا في القلب نفسه. الأصدقاء يمكن أن يكونوا ملاذًا، لكنهم قد يكونون أيضًا مرآة لما نكرهه في أنفسنا. والغدر... هو النتيجة الحتمية عندما تصبح المشاعر متناقضة إلى حد الانفجار."
بقيت صامتًا، أفكر في كلماته. لم أستطع أن أفهم كل ما قاله، لكن شيئًا في داخلي شعر بصدقه. هو ليس مثل الآخرين. مثلهم، قد يتركني يومًا ما.
همست له: "هل ستغدر بي أيضًا؟"
نظر إلي طويلاً، ثم قال بصوت عميق:
"أنا جزء من ظلامك، ولن أكون معك إلى الأبد، لكن عندما أغيب، ستظل تتذكرني."