نظر إليّ بعينين تلمعان في العتمة، كأنّهما نافذتان إلى هاوية لا نهاية لها. كنت أرتجف تحت ثقل كلماته، لكنه اقترب أكثر حتى شعرت ببرودته تلفّ حولي كعباءة من الظلام.

‎قال بصوت عميق مليء بشيء لم أفهمه تمامًا:

‎"أنت لست كالبشر الآخرين. أنت نادر. مختلف. هناك شيء فيك لا يملكه أي شخص آخر... قوة لا تُرى، لكنها تنبض في داخلك."

‎حدّقت فيه، عيناي تفيض بأسئلة لا نهاية لها:

‎"ما الذي تقصده؟ لماذا أنا مختلف؟"

‎ابتسم، أو هكذا خُيّل لي، لأن ملامحه في الظلام لم تكن واضحة تمامًا. قال:

‎"لأنني معك. ووجودي هنا ليس صدفة. أنا لست مجرد كائن عابر أو ظل مفقود. أنا جزء منك، من نفسك... ونحن معًا، شيء أقوى مما تتخيله. لكن هذا الظلام ليس النهاية. إنه البداية فقط."

‎بدأت كلماته تأخذني إلى مكان آخر. شعرت بأن الغرفة بدأت تدور حولي ببطء. الهواء صار ثقيلاً، والجدران تهتز كأنها تنبض بالحياة. كل كلمة كان ينطق بها كانت تفتح أبوابًا مظلمة في عقلي، تدفعني إلى دوامة لا أستطيع الهروب منها.

‎قال بصوت منخفض لكنه اخترق أعماقي:

‎"يومًا ما.. سأكون داخلك. ليس كظل، بل كجزء منك. وستعرف حينها حقيقتك، لكن ذلك لن يحدث دون تضحية. جسدك، الذي تحاول حمايته الآن، سيكون المفتاح. ستُضحّي به... ليس لأجل الخروج من الظلام، بل لأجل معرفة الحقيقة."

‎قلت، وصوتي يرتجف:

‎"أيّ حقيقة؟"

‎صمت للحظة، ثم قال:

‎"عن المرأة... عن الرجل... عن كل شيء تتساءلني عنه. ستعرف من هم، ولماذا هم هنا، ولماذا أنت هنا. لكن هذه المعرفة لن تأتي دون ثمن."

‎شعرت بالكوخ يغرق في الظلام أكثر، كأن الضوء الخافت الذي كنت أراه أحيانًا بدأ يختفي. بدأ كل شيء يدور من حولي بسرعة. الكلمات التي قالها تتردد في رأسي كصدى لا ينتهي: "تضحية... جسدك... الحقيقة."

‎كنت أشعر وكأنني أنزلق إلى هاوية لا قرار لها.

‎كان كل شيء مظلمًا، لكنني شعرت بأن هذه الدوامة لم تكن مجرد ظلام. كانت مليئة بالصور، بأصوات غريبة، بذكريات لم أكن أعرف أنها تخصني.

‎حاولت أن أقاوم، أن أتمسك بشيء في هذا الفراغ.

‎صرخت:

‎"لماذا يجب أن أُضحّي؟ لماذا لا أستطيع أن أعيش؟"

‎أجاب بصوت كأنه يأتي من أعماق الكون:

‎"لأن المعرفة هي النور الحقيقي. والخروج من الظلام لا يعني الهروب، بل يعني مواجهة الحقيقة، مهما كانت ثمنها."

‎في تلك اللحظة، شعرت بأنني أضيع بالكامل في تلك الدوامة. جسدي لم يعد لي. كنت أسمع كلماته، لكني لم أستطع فهمها تمامًا. كل ما شعرت به كان شيئًا عظيمًا، أو شيء مرعب.

‎ثم فجأة، توقف كل شيء. عدت إلى الكوخ، جالسًا في زاويتي، وهو أمامي. لم يكن هناك أي أثر للدوامة، لكنني شعرت بأنها لم تنته. كانت بدايتها فقط.

‎نظر إليّ بهدوء مشوب بالغموض، تلك العينان الثابتتان تحملان أسرارًا أكبر من الليل نفسه. جلس بجواري وكأن العالم كله توقف للحظة، ثم بدأ يتحدث، بصوت كأنما يخرج من أعماق الزمن:

‎"استمع جيدًا..." قال بنبرة مهيبة،

‎"ما سأخبرك به ليس قصة عابرة. إنه شيء يتجاوز حدود الفهم. إنه صراع قديم، لكنه لم يحدث بعد. صراع بين مجموعتين، لم يشهد التاريخ قواهما. ليس هناك ضعيف بينهما، كل فرد هو قوة بحد ذاته، وكل روح فيها نار لا تنطفئ."

‎أحسست بأن الهواء من حولي أصبح أثقل، وكأن كلماته تحمل وزنًا يفوق ما يمكن أن يتحمله المكان. أكمل بصوت خافت لكنه مليء بالرهبة:

‎"المجموعة الأولى تمثل الإرادة المطلقة. لا شيء يقف أمامهم، إنهم يسيرون كالأعاصير، يدمرون كل ما يعترض طريقهم. قوتهم ليست فقط في أجسادهم، بل في عقولهم التي لا تعرف الشك. هم يؤمنون بأنهم آلهة المطلق، وأن العالم يجب أن ينحني لهم."

‎توقف للحظة، وكأنما كان يزن كلماته بعناية، ثم قال:

‎"أما المجموعة الثانية، فهي تمثل الفوضى المطلقة. قوتهم تأتي من الحرية التي لا حدود لها، من شغفهم الذي يحرق العالم حولهم. لا قوانين تقيدهم، ولا حدود توقفهم. إنهم عاصفة من المشاعر، تلتهم كل شيء، لكنها تترك وراءها شيئًا جديدًا."

‎نظرت إليه، أرتجف من رهبة كلماته. سألته بصوت خافت:

‎"وأين نحن من كل هذا؟"

‎ابتسم ابتسامة غامضة، ثم قال:

‎"نحن هنا، في وسط كل شيء. أنت وأنا، أرواحنا ليست منفصلة. نحن جزء من إحدى المجموعتين. لكن لا تحاول أن تعرف أي مجموعة نحن فيها، لأن الإجابة ليست مهمة الآن. ما يهم هو أنك أنت..."

‎شعرت بالكوخ يضيق من حولي، كأن الجدران تقترب. كل كلمة كان ينطقها كانت تثقل كاهلي أكثر. سألته بصوت مرتجف:

‎"من سينتصر؟"

‎أدار رأسه ببطء، ونظر إليّ كأنه ينظر إلى أعماق روحي:

‎"المنتصر؟ لا أحد يعرف. حتى أنا... لا أستطيع رؤية النهاية. لكن هناك شيء أراه بوضوح. أرى روحك."

‎شعرت برجفة تسري في جسدي.

‎"روحي؟ ماذا ترى؟"

‎قال بصوت عميق، وكأن الكلمات تنبع من هاوية لا نهاية لها:

‎"أرى روحك... في داخلي. أرى نفسك في جسدي، كأنك جزء مني وأنا جزء منك. نحن لسنا منفصلين. نحن اثنان في جسدٍ واحد. لكن هذا ليس كل شيء. هذه الروح التي أراها... قوية، لكنها ليست نقية. إنها ممزقة بين النور والظلام. وهذا ما يجعل مصيرك ومصيري مرتبطين. في هذا الصراع، نحن معًا. لكن النهاية؟ لا أحد يعرفها. ليس هناك يقين سوى أنك أنت المفتاح، وأن اختيارك هو الذي سيحدد المنتصر."

‎بقيت صامتًا، أفكر في كلماته. شعرت وكأنني أغرق في بحر من الأفكار والمخاوف. كنت أشعر بالدوامة من جديد، تبتلعني كلما تحدث، لكنني لم أستطع التوقف عن الاستماع.

‎همس في النهاية، وكأن صوته ينساب كنسيم بارد:

‎"استعد، لأن اللحظة التي يلتقي فيها الأقوى بالأقوى، لن تكون مجرد معركة. ستكون لحظة تحدد العالم بأكمله. وأنت... ستكون في وسطها."

‎قلت له: سأضحي بجسدي

‎فضحك وتلاشى.

‎مرت الأيام ببطء قاتل، وكلما تأملت في السماء المظلمة، كنت أرى شيئًا غريبًا، شيئًا يطاردني، أفكاري المتشابكة. ثم جاء ذلك اليوم. كان الجو موحشًا، الرياح تعصف بالأشجار، والمكان كله يتنفس رائحة الفوضى. كنت جالسًا على الأرض، في الزاوية التي لا تفارقني، أترقب. ولكن هذه المرة لم يكن هناك شيء عادي. دخل الاثنان فجأة، لم أتوقع قدومهما معًا، وكانت نظراتهما مشبعة بشيء غريب، شيء يُبني بما لا أستطيع فهمه. كان الكلام يتساقط مثل قطع الزجاج، يتناثر حولي دون أن أستطيع إدراك معناها. كنت أرى شيئًا في عيونهما، شعورًا غريبًا يلف المكان.

‎ثم، دون أن أتمكن من التصرف، دوى صوت انفجار هائل، هزة عنيفة جعلت الأرض تحت قدمي تهتز. كنت أركض، أختبئ خلف السرير، وأنا أشعر بقلبي يطعنني من الداخل. كان الدم يتناثر في كل مكان، كالسيل الذي لا يمكن إيقافه. كانت الجدران تتشقق، والأضواء تتلألأ كاللهب في السماء، والمكان كله يغلي. كان الدم ينزف من جثة الرجل التي سقطت أمامي، وعيناه كانت لا تزال مفتوحة، تحدق فيّ كأنها تبحث عن شيء ما، ربما كانت تبحث عن أجوبة لا أستطيع أن أقدمها. كان كل شيء مشوشًا، غير حقيقي، كأنما تمزقت الحقيقة نفسها.

‎تمسكت بشيء يرسخني عن الأرض، كانت يد قوية تلف حول جسدي، ورفعتني من مكاني، كما لو كنت مجرد عصفور في قبضة عاصفة. كان العجوز، بان، حملني بقوة، وأطبق يده على صدري وكأنها قبضة جليدية تسحب الحياة مني.

‎ضحك ضحكة مجنونة، متسخة، تتردد في أذني كالرنين في سكون الليل. كان يقترب مني شيئًا فشيئًا، حتى أصبت أتنفس أنفاسي تتساقط على وجهي مثل قطرات ماء باردة. "ترى؟ لقد قتلت والدك، هل يعجبك هذا الدم؟" كان يتحدث كما لو أنه يعيد درسا في الحياة التي لا أعرف سوى الشوق. كانت ضحكته تتساقط حولي كالأمطار الغزيرة، تعصف بي، تجعلني أتمنى لو أنني كنت قد اخترت أن أموت في ذلك اليوم.

‎عودة إلى الحاضر:

‎أيّها القارئ...

‎إن كنت ما زلت تُصغي، وإن كان قلبك قد ارتجف كما قلبي، فأنت الآن تعرف جزءًا من الحكاية.

‎لا... ليست كلها.

‎ما سمعته ليس سوى فتات الذاكرة، ظلّ مشقوق من ماضٍ تاه في دخان الغدر والدم.

‎وهذا الظلّ... لا يزال يهمس لي كلّ ليلة.

‎ربما تساءلت: من أنا؟

‎ولماذا أخبرك بكلّ هذا؟

‎لك الحق في السؤال، لكن ليس بعد.

‎فالوقت لم يحن بعد لكشف الوجوه ولا الأسماء.

‎أنا لم أعرف قصتي بعد.

‎ما زلت أمشي بين ألغام الأسرار، وأجمع القطع المحطّمة من مرآة روحي.

‎لكنني أعدك، يا من تتبعني بين السطور...

‎أعدك أن أعود قريبًا، ومعي الجزء التالي من الحكاية.

‎ولعلك حين تسمعه، لن تنظر إلى العالم كما كنت من قبل.

‎ابقَ قريبًا.

‎فما سيأتي... أقسى.

‎وأصدق.

2025/08/04 · 6 مشاهدة · 1294 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025