‎15:00 تمامًا. بعيدا عن حلبات الدامية

مدريد

‎الساعة على الحائط ارتجفت عقاربها وهمست بلحنٍ رتيب، وكأنها تشير إلى بداية حدث غير عادي.

‎في مقهى العَنبر، ذاك الركن المعزول عن صخب المدينة، حيث لا تصل ضوضاء العجلات ولا أنفاس الناس المتعبة…

‎جلست آني هناك، أول الواصلين.

‎كانت تلك سابقة.

‎بوجه جامد ونظرة باردة، أخذت ترشف من فنجانها، فبدت كأنها تنتظر شيئًا أكثر من مجرد موعد... كانت تنتظر لحظة تغير شيئًا في عالمها.

‎أو لعلها فقط تهرب من عالمها الحالي، إلى عالم آخر ترسمه بيدها.

‎في يدها اليسرى كتاب جلدي صغير، أما اليمنى فكانت تتحرك بخفة، ترسم فيه خطوطًا حادة دقيقة، تتحول شيئًا فشيئًا إلى وجه شخصية أنمي ذات عيون واسعة وشعر يتطاير كما لو كان يصرخ.

‎ثم دخل هو.

‎بخطوات باردة... تشاي.

‎لم يُلقِ التحية كما يفعل الآخرون.

‎بل وقف أمامها، عيناه كأنهما تسألان: "كيف لك أن تسبِقيني؟"

‎لكنها ابتسمت، ابتسامة خفيفة، خالية من السخرية، لا تشبه ابتسامات البشر الذين يخفون خلفها نوايا.

‎بل كانت ابتسامة خالية من التوقعات.

‎قالت بهدوء، وهي تشير للكرسي أمامها:

‎— "أنتَ متأخر."

‎ردّ دون أن يجلس بعد:

‎— "أنتِ مبكرة... وهذا غريب."

‎جلس.

‎تأمل فنجان القهوة أمامها، ثم عينيها، ثم ذلك الكتاب الجلدي.

‎سألها:

‎— "ما هذا؟"

‎ناولته الكتاب بصمت.

‎فتحه.

‎تصفّح الصفحات.

‎وجوه، عيون، أجساد... شخصيات من عوالم خيالية، لكنها مرسومة بروح واضحة.

‎لم تكن فقط تَرسُم. كانت تتحدث من خلال الخطوط.

‎صمت لثوانٍ، ثم قال بسخرية ناعمة:

‎— "أوه... هذا جين توما من ريلغان. لم أعرف أن أحدًا لا يزال يشاهده."

‎ابتسمت آني، كأنها توقعت سخريته، وقالت:

‎— "أنا أشاهد كل شيء. الأنمي القديم، الجديد، الشعبي، المهمل. لديّ ذوق متنوع."

‎وما إن بدأت تتحدث، حتى بدأت الأسماء تنهمر منها:

‎"ديث نوت، كيميتسو، ون بيس، طوكيو غول، بلاك كلوفر، بليتش، فينلاند ساغا، أتاك، فول ميتال، ستيانس غيت، إيرغو بروكسي، باني بون، سورد آرت، فايت زيرو، كاوبوي بيبوب، هنتر..."

‎توقف تشاي عند تلك الأخيرة، ورفع حاجبيه.

‎— "أخيرًا اسم يستحق أن يُقال."

‎ثم مال إلى الخلف، شاربًا من كوبه الذي وصله للتو، وأضاف:

‎— "كل ما قبله؟ مضيعة وقت. هنتر وحده رواية متحركة."

‎قهقهت آني بهدوء، ثم قالت:

‎— "أنت تكره الأنمي الذي يحبه الناس فقط لأنهم يحبونه."

‎ردّ وهو يرفع عينيه نحو السقف:

‎— "أكره التكرار، وأكره أن يكون الشرير شريرًا فقط لأنه يحب القتل. أين الرمادية؟ أين الفوضى؟ أين منطق العالم؟"

‎ثم مال للأمام، نظر في عينيها بحدة غير معتادة، وقال:

‎— "لكن الروايات... الروايات لا تكذب. لا تسرع. لا ترحم. رواية جيدة تأخذ بيدك ثم تدفعك من أعلى الجبل... وتسألك وأنت تسقط: هل استمتعت؟"

‎سكت.

‎ونظرت هي إليه بتمعّن.

‎سألته بهدوء:

‎— "وما الرواية التي دفعتك من الجبل، تشاي؟"

‎لم يجب.

‎بل أغلق الكتاب، ودفعه نحوها، ثم قال:

‎— "ارسميني كما ترينني، لا كما يريد الأنمي أن أكون."

‎أعاد لها الدفتر، لكنه لم يُبعد يده فورًا.

‎أنامله لامست طرف أصابعها...

‎ارتجف قلبها، لكنه لم يظهر على ملامحها أي ارتباك.

‎قالت، وهي تُخفي نفسها خلف فنجان القهوة:

‎— "أتحداك أن تُحب شخصية واحدة من رسوماتي."

‎أجاب بخفّة، لكن صوته كان أبطأ من المعتاد، كأنه يختار كلماته:

‎— "أحب واحدة... لكنها لا تعرف أنها مرسومة."

‎نظرت إليه، لحظة صمت بينهما، كأن الهواء صار أكثر ثقلًا.

‎قالت بابتسامة جانبية:

‎— "تشاي... هل هذا أسلوبك في الإطراء؟"

‎ردّ، وهو ينظر مباشرة في عينيها:

‎— "أنتِ ترسمين وجوهًا. وأنا أقرأ النفوس.

‎لكن... لا أحد منا يُجيد الاعتراف."

‎رفّت جفونها.

‎هو لا يبتسم كثيرًا.

‎هو لا يقول كلمات لطيفة.

‎لكن ما قاله الآن... كان صريحًا، أكثر مما اعتادت منه.

‎سألته بهدوء، وصوتها خفيض:

‎— "هل أنت خائف؟"

‎أجابه دون تردد:

‎— "لا بل . كل ما أحببته في حياتي… إما مات، أو ابتعد."

‎أرادت أن تمسك يده، لكنها خافت.

‎لا، ليس من الناس.

‎خافت أن تذوب تلك المسافة الباردة بينهما، فتُحرقها النار التي تخفيها عيناه.

‎قالت بهدوء:

‎— "أنا لا اعطي قلبي بسهولة، تشاي."

‎رفع حاجبه، وسأل بسخرية ناعمة:

‎— "وما الذي يجعلك واثقة؟"

‎قالت وهي تنظر إلى دفترها:

‎— "أنا التي رسمتك على الورق… وأعرف كل خطوطك المكسورة."

‎ثم نظرت إليه:

‎— "أنت تعجبني."

‎صمت.

‎أحن الكلمات، هي التي تقال بهدوء.

‎وأعمق العلاقات، هي التي لا تبدأ بكلمة "أحبك"، بل بنظرة طويلة، واعتراف غير منطوق.

‎قالت

‎أريد فقط… أن تبقى في المشهد."

‎لم يُجِب.

‎لكن نظراته كانت كافية.

‎كان يراها.

‎وربما، للمرة الأولى…

‎سمح لنفسه أن يُرى.

‎في الخارج، بدأت السماء تُمطر.

‎وفي الداخل، جلسا هناك، بلا كلام إضافي.

‎صوت المطر يعزف خلفية موسيقية، بينما قلوبهما تتحدث بصمت.

2025/08/04 · 2 مشاهدة · 742 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025