نعود الى الحلبات مع ااساعة 18:00

كانت الأجواء في الساحة ثقيلة بالكآبة والرعب.

‎وقف الأطفال متجمّدين في أماكنهم، أعينهم الواسعة تترقّب بحذر، وكأنّ الموت يزحف ببطء ليلتفّ حولهم.

‎صوت صراخ "ماركس" الأخير لا يزال يصرخ في الأذهان، مشهد دمه الذي امتزج مع غبار الأرضية أضاف لمسة من الوحشية التي غلّفت المكان.

‎وسط هذا المشهد المهول، علت نبرة صوت "راغنا" الباردة، كالسّكين تخترق السكون:

‎"الآن... سيبرو، يان، تقدّما إلى الحلبة رقم واحد."

‎ارتعشت قلوب الأطفال الباقين، وبعضهم تسلل إلى الوراء محاولًا الاختباء خلف الحشود.

‎لكن "سيبرو" لم يتحرك للحظة، ملامحه كانت قاسية، لكنها لم تخلُ من أثر توتر خفي.

‎تقدم بخطى بطيئة نحو الحلبة، والعيون كلّها تتابعه، تتساءل عمّا ينتظره في تلك المواجهة المصيرية.

‎إلى جانبه، كان "يان" يمشي بخفة، وكأنّ الأمر لا يعنيه.

‎وجهه جامد، يخفي مشاعر غامضة تحت قناع من اللامبالاة.

‎وبينما كانت خطواته تقوده نحو الحلبة، استعاد "سيبرو" ذكرى أول لقاء جمعه مع "يان".

‎تلك الليلة لم تكن عادية، بل محفورة في ذاكرته كسلسلة من الأحداث التي غيّرت مجرى حياته.

‎كانت السماء آنذاك تعصف بالغضب، البرق يلمع بقوة، يكاد يمزق السحب، والرعد يصمّ الآذان.

‎المطر يهطل كأنهار متدفقة، يغرق كلّ شيء في طريقه.

‎في إحدى زوايا المدينة، حيث تلاقت الأرصفة المهجورة مع الأزقة المظلمة، وقف "سيبرو"، فتى يتيمًا بملابس رثّة، يتشح ببرد تلك الليلة ويحتمي بظل متجر قديم.

‎كان شبه يهرب. جلس تحت ولائه الجوع، نظر بعينيه الحادتين إلى البائع الذي يركض بعشوائية لإنقاذ بضاعته من البلل.

‎ارتسمت على وجه "سيبرو" نظرة كمن وجد كنزًا، وهمس لنفسه:

‎"إنها فرصتي... هذه الليلة لن أنام جائعًا."

‎انتظر اللحظة المناسبة، وعندما اجتمعت شجاعته والدافع، وجد يدًا أخرى تمتد نحو الهدف ذاته.

‎التفت بسرعة ليرى فتى آخر، بنفس حالته المزريّة، يشاركه نفس الفكرة.

‎قال "سيبرو" بدهشة وغضب:

‎"ما الذي تفعله؟!"

‎لكن البائع، الذي كان أكبر من أن يُستهان به، لم يكن لقمة سائغة.

‎بحركة خاطفة، أمسك بالاثنين في قبضة حديدية، رفعهما بسهولة وكأنّهما دميتان، ضحك بصوت أجش كاد يتردد صداه مع الرعد:

‎"هههههه! بضاعة جديدة وقعت في شباكي!"

‎لم تمضِ سوى لحظات، قبل أن يُوجّه ضربتين قويتين إلى رأسيهما، غارقا بعد ذلك في ظلام مطبق.

‎أفاق "سيبرو" على رائحة الصدأ والرطوبة.

‎فتح عينيه ببطء ليجد نفسه في مستودع مهجور، الضوء الخافت المنبعث من مصباح يتدلى من السقف بالكاد كان يكشف أكوام الخردة المحيطة به.

‎البرد كان يقضم أطرافه، والقيود المعدنية تجرح معصميه.

‎إلى جانبه، كان الفتى الآخر الذي عرقل خطته.

‎تبادلت أعينهما نظرات حادة، مليئة بالعداوة والغضب المكبوت.

‎صرخ "سيبرو" غاضبًا:

‎"أيها الأحمق! أخرجني من هنا!"

‎ردّ "يان" بنبرة باردة:

‎"اصمت، الصراخ لن ينفع. نحن عالقان هنا."

‎"سيبرو" (مشتعلًا غضبًا):

‎"كل هذا بسببك! لو لم تتدخل لما كنت هنا الآن!"

‎"يان" (ساخرًا):

‎"وأنا من المفترض أن أشكرك؟ أنت مجرد ضعيف حاول أن يكون بطلًا وفشل."

‎بينما استمر الجدال بينهما، انفتح باب المستودع بصوت صرير طويل، فتسللت قشعريرة في جسديهما.

‎دخل البائع ببطء، خطواته الثقيلة تدقّ الأرض كأنها نذير شؤم. عيناه كانتا مظلمتين كليلة بلا قمر، وهالته المرعبة جعلت الجو يزداد برودة وكآبة.

‎قال البائع بصوت خشن:

‎"أيها الكلاب الصغيرة... لقد بعتكم للمنظمة الافريقية . أنتم الآن ملكي. لديكم خيار واحد: إمّا أن تقبلوا وتعيشوا... أو ترفضوا وتُقتلوا هنا."

‎للحظة، عمّ الصمت. لم يكن أمامهما خيار سوى القبول.

‎قال سيبرو ويان، بصوتٍ متزامن:

‎"نقبل."

‎لكن يان لم يستطع كتم ابتسامته. التفت إلى سيبرو وهمس له بنبرة تنمّ عن ثقة غريبة:

‎"طالما أردت الانضمام إلى هذه المنظمة. يبدو أنني مدين لك بهذه الفرصة."

‎أما سيبرو، فالتزم الصمت، لكنه فكّر:

‎"ربما هذا أفضل من حياة التشرد والجوع."

‎قاطعهم البائع بصوت حاد:

‎"من الآن فصاعدًا، أنتم مجرد أدوات. لا أريد أن أسمع أصواتكم مجددًا."

‎بكلماته الحادة، ختم مصيرهما، وأغلق الباب تاركًا خلفه ظلامًا لا حدود له.

‎العودة إلى الحاضر: مواجهة مصيرية

‎بينما كان سيبرو يقترب من الصرّاف، استرجع تلك الليلة التي جمعت بينه وبين يان، الليلة التي بدأ فيها كل شيء.

‎وقف يان وسيبرو، وجهًا لوجه، في صمتٍ ثقيل.

‎بدا وكأن العالم بأسره قد توقّف، والجو حولهما أخذ يتعكّر شيئًا فشيئًا، كأنّ أنفاس الأرض ذاتها تحوّلت إلى بخار خانق.

‎الأطفال المتفرجون كانوا يتحلّقون على الأطراف، أعينهم متسعة، يمسكون أنفاسهم في انتظار لحظة الانفجار.

‎أصوات الرياح تتلاعب بأطراف الحلبة، تزيد من التوتر وكأنها تعزف لحن الموت القادم.

‎تقدّم سيبرو بخطى واثقة، وسحب نفسًا عميقًا، ثم قال بصوتٍ هادئٍ لكنه يفيض بالثقة:

‎"هل نبدأ؟"

‎ابتسم يان بسخرية، لم يرد بكلمة. فقط اختفى من مكانه في لحظة.

‎اختفاؤه لم يكن عاديًا، بل بدا وكأنه تلاشى إلى الظل.

‎ظهر خلف سيبرو كطيفٍ قاتم، وبدأ في توجيه ضرباتٍ متتالية، كل واحدةٍ منها تنشّف كأنها اختبار لصبره على التراجع.

‎تراجع سيبرو للخلف ببطء، وجهه يُظهر مزيدًا من التركيز والغضب.

‎قبل أن يلتقط أنفاسه، تحدث يان بنبرة مشحونة بالتحدي:

‎"يبدو أنك بحاجة لاستخدام مهاراتك، يا سيبرو... هذا ليس مجرد تدريب ودي، أحدنا يجب أن يخرج حيًّا من هنا."

‎اندفع يان للأمام مجددًا، أسرع من قبل.

‎لكن هذه المرة، ألقى سيبرو شيئًا صغيرًا على الأرض، فانفجر الجسم إلى دخانٍ كثيفٍ أحاط بالمكان، حجبه عن الأنظار بالكامل، وكأن الضباب قد ابتلع العالم.

‎داخل الدخان، تغيّرت القواعد.

‎تحرك سيبرو بخفّة قاتلة، يهاجم من كل الجهات، يضرب من فوق ومن الجوانب، حتى بدا كأنه يختبئ خلف جيشٍ من الأشباح.

‎لم يتمكّن يان من صد الدفاع، والدماء بدأت تبلل ملابسه.

‎ورغم ذلك، لم يتراجع.

‎وقف يان في مكانه، يئن لكنه لا يسقط.

‎أغلق عينيه، وتحدث لنفسه بصوتٍ داخلي مشحون بالعزم:

‎"التركيز العميق... ركّز... اجعل العالم بطيئًا... اجعل الضوضاء تتلاشى..."

‎في مخيّلته، تحوّل المكان فجأة.

‎الحلبة أصبحت كأنها محيطٌ شاسع، مياهه هادئة بشكل مرعب، باردة كالجليد.

‎هجومات سيبرو لم تعد تبدو عشوائية، بل كموجاتٍ بطيئةٍ ومترابطة، تتجه نحوه.

‎وفي اللحظة المناسبة، انحرف يان بسرعة خاطفة، موجّهًا لكمةً قوية إلى وجه سيبرو.

‎الضربة كانت كافية لتشويه وجه سيبرو بشكلٍ واضح.

‎لكن الأخير، بدلًا من التراجع، اندفع مجددًا نحو يان.

‎كلاهما الآن يتحرك بسرعة غير بشرية.

‎نحو يان، كانت حركتهما الآن تتسارع بشكل غير طبيعي، وكأن الضوء ذاته ينحني مع خطواتهما. أصوات اصطدام ضرباتهما كانت تُسمع كصدى عميق يملأ الأرجاء، والجميع يتابع المشهد بفمٍ مفتوح.

‎كان يان يتفوّق قليلًا، مهارته في التركيز جعلت حركات خصمه وكأنها بطيئة.

‎لكن سيبرو ابتسم رغم كل شيء، ثم قال بصوت متقطّع:

‎"أحسنت يا يان... لقد تجاوزت توقعاتي... مهارتك أصبحت متطورة."

‎تراجع خطوة للخلف، عيناه تشتعلان بالعزيمة، وأكمل:

‎"حان دوري الآن، سأريك لماذا يسمّونني صيّاد الرائحة."

‎> ملاحظة: مهارة سيبرو هي دقّة الشم، وهي مهارة مميزة تساعده في قطع شمه لمدّة أو تعميقه إلى أبعد حد.

‎أغمض سيبرو عينيه لوهلة، ثم تنفّس بعمق، وقطع حاسة الشم لديه بشكل كامل ليزيد تركيزه إلى حد خطير.

‎أخرج من جيبه كيسًا صغيرًا أسود اللون، ألقاه على الأرض بقوة.

‎هذه المرة، كان الدخان الكثيف مختلفًا... الرائحة الكريهة التي انبعثت منه كانت خانقة، كأنها غاز سام تسلّل إلى رئات الجميع.

‎الأطفال على الحواف بدأوا يسعلون بشدة، يغطّون أنوفهم بأيديهم.

‎بلّاك داون، صرخت وهي تلوّح بيديها:

‎"ما هذه الرائحة المريعة؟! هل يحاول قتلنا جميعًا؟!"

‎أما يان، فكان الأكثر تضررًا.

‎الرائحة ضربت أنفه كلكمة غير مرئية، أجبرته على السقوط على ركبتيه، وبدأ بالسعال الشديد. عيناه تدمعان، وحركته أصبحت بطيئة بشكل يائس.

‎اقترب سيبرو بخطى بطيئة، وجهه يُظهر خليطًا من النصر والأسف.

‎همس بصوت بارد لكنه مثقل بالندم:

‎"تيو أستيون... مادة فعّالة، أليس كذلك؟ لكننها ليست الأقوى في مجموعتي يا يان... آسف... لقد انتهى الأمر."

‎ثم، وبحركة واحدة دقيقة، ضرب سيبرو بيده حنجرة يان، ليتدفّق الدم بغزارة من الجرح المفتوح.

‎بلّا ك داون صرخت بأعلى صوتها:

‎"يجب أن نخرج من هنا حالًا!! الجميع إلى الخارج ! هذه الرائحة ستقتلنا إن بقينا ستندمج مع الحمم و تشتعل !"

‎راغنا:

‎"هيا، تحرّكوا! سنكمل القتالات غدًا. الآن، نحن بحاجة للبقاء على قيد الحياة."

‎في حين بدأ الجميع بالانسحاب بسرعة، بقي سيبرو ينظر إلى الجثة على الأرض.

‎كان يريد أن يقول الكثير، لكن الكلمات لم تخرج.

‎فقط ظل واقفًا هناك، وسط الدخان الكثيف والرائحة المميتة.

2025/08/04 · 2 مشاهدة · 1285 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025