ليلٌ كالح…
سماء باريس محجوبة عن القصر، كأن الغيوم حارسة له، خائفة من أن تتسلل إليه نجمة، أو أن يوسوس القمر لإيفا بسرٍّ عن ماضيها.
على ارتفاع أربعة طوابق، حيث الشرفات المزينة بتماثيل العذراء المشنوقة، وعرائش اللبلاب التي تنزف دمًا من أعينها الحجرية، كان القصر ساكنًا… هادئًا… كما الهدوء الذي يسبق الانفجار في الرؤوس.
في الصالة العظمى، ذات الأرضية السوداء الملساء كالمرآة، والمرايا التي لا تعكس شيئًا سوى الحضور، كانت الطاولة ممتدة بطول جناح كامل، تقطعها شموع نحيلة بلون الدم، وأطباق من خزف قديم محفور عليها "O" نافرة بلمعة من ذهب روسي ميت.
جلست إيفا أودجين في منتصف الطاولة، وكأنها ملكة محاكم التفتيش، مرتديةً ثوبًا أحمر قاني، يلتف حولها كأفعى، ويُبرز عنقها العاجي الطويل كعنق سيف.
بجانبها، كانت ميشا تعبث بشوكتها، تنقر بها حافة الكأس النحاسيّ، وعيناها لا تعرفان السكون، تعبّران كزوبعةٍ عبر الوجوه.
إنزوي، التي تجلس إلى جانب ميشا، كانت ترتدي الأبيض، كأنها نذرت نفسها للخراب، وعلى جبينها قُبلة خفيفة من حبر أسود، كتوقيع شيطان.
يقابلهم جي، في معطف قاتم دون قميص تحته، صدره موشح بجراح قديمة، ووشمٍ نُقش ذات مرة في الزنزانة الأخيرة للقلعة الشرقية.
تبدأ الهمسات...
ميشا، تمط شفتيها ضاحكة:
> "أوههه، إنزوي حبيبتي... لم تري وجه توقاي زعيم عصابة تيوانا وهو يموت... كان يصرخ كطفلٍ نُزع منه حليبه.
والحوار... الحوار بينه وبين إيفا؟ أقسم أنني كنت في محاضرة تاريخية عن انقراض الأغبياء!"
إنزوي، تنظر إليها ببرود:
> "خالتي ميشا... لماذا تكبدتم عناء الذهاب أصلًا؟ كان بإمكاننا أن نرسل خادمًا... أي خادم من خدم العائلة لينهِي الأمر. إبادةٌ بسيطة."
إيفا، ترفع كأسًا من النبيذ لا ينعكس في زجاجه أي ضوء، تقول بهدوء مرعب:
> "أردت أن أتنزّه قليلاً...
كما أني أردت أن أُبيد واحدًا من أعدائي بيدي."
لحظة صمت.
الخدم يدخلون، صفًّا بعد صف، كلّ واحد منهم أصلع، بلا حواجب، يرتدون أردية خضراء طويلة، ويحملون أطباقًا عليها طعام لا يُعرف نوعه، ولكن رائحته تذكّر بمختبرات الأعضاء البشرية.
قالت ايفا بنبرة منخفضة كمن يخشى أن يتسرب صوته إلى جدران مبللة بالجواسيس:
ــ "وصلني خبر من المنظمة اليوم... إنه من عند تاي."
كأن الوقت توقف لوهلة. "تاي" — الاسم وحده شطر الهواء نصفين، وترك الصمت يهبط على المجلس كقطعة حجر في ماء ساكن.
ميشا، التي كانت تمسح نظارتها بطرف قميصها، توقفت فجأة وحدّقت في إيفا قبل أن تدير رأسها نحو إنزوي، ثم قالت:
ــ "دقيقة فقط..."
ثم نظرت إليها مطولًا كأنها تشق جلدها لتصل إلى قلبها، وأضافت بنبرة خشنة:
ــ "إنزوي، ابنك تاي... إنه في مستوى عالٍ من الخبث... أكثر مما نظن. يعمل في المنظمة منذ أكثر من سبع سنوات... جاسوسًا. سبع سنوات كاملة، ولم يكتشفه أحد."
الصدمة لم تكن في الكلمات، بل في الطريقة التي قيلت بها. لم ترمش إنزوي. لم تتحرك شفتاها. كانت تنظر إلى لا شيء، ثم ارتجف شيء خفي في وجنتها. ومع ذلك، لم تنطق.
جي، ذلك الرجل ذو الوجه الذي لا يُقرأ، تمتم وهو يتكئ إلى الخلف كأن الأمر يعجبه:
ــ "أنا أحسد ابني أيضًا... الوحيد من عائلة أودجين الذي يستطيع التحرك بحرية مطلقة. لا يملكون عليه أي دليل... لا شيء يربطه بنا. لا صورة. لا بصمة. لا حركة خاطئة. لا تاريخ. لا دم."
قطع حديثهم صوت إيفا وهي ترفع يدها بحدة:
ــ "كفاك ثرثرة، دعوني أكمل."
المكان كان ينكمش كلما تكلمت. قالوا عنها ذات مرة إنها كانت امرأة من نار، لكنها الآن كانت صقيعًا قاتلًا.
قالت ببطء، كأن كل كلمة تُطرق بمطرقة على الطاولة:
ــ "لقد أعلمني تاي بقرار المجلس اللذي عقد يوم 3 أوت . أصدروا أمرًا لفرقة النبات الأسود... فرقة موريس. أمر بتتبع أثرنا."
صمتٌ. ثم صمتٌ أكثر.
ــ "وقال... يجب أن أعلمكم بأن تحذروا، لأنني أنا... أنا من يضع خطة مطاردتكم."
كلماتها الأخيرة سقطت على الأرض كحذاء عسكري وسط عرس. ارتجف المكان. لم تتكلم أحد.
ثم جاء صوت إنزوي، ناعمًا كهمس أرملة، غريبًا كأنه يُقال من مكانٍ بعيد:
ــ "ابني العزيز... إنه لأمرٌ مدهش أن أسمع هذه الكلمات."
نهضت ببطء كأن كل خطوة تعني قرارًا جديدًا. توجهت نحو النافذة، لم تنظر لأحد، وقالت:
ــ "لقد اشتقت إليه... سأذهب لأتصل به، لأطمئن عليه."
جي سعل، ثم قال بضحكة مكتومة:
ــ "اتركي الولد، إنه في الثانية والعشرين من عمره، ليس طفلًا في سرير."
لكن إنزوي لم ترد. وقبل أن تخرج من الغرفة، استدارت برأسها فقط، وقالت بنبرة ساخرة:
ــ "سأقول له... والدك يسلم عليك."
جي مال برأسه قليلاً، ووضع إصبعه على طرف شفتيه، كأنّه يفكر بصوت لا يسمعه أحد، ثم قال:
ــ "أين وصلتِ، إيفا، في مرحلة الإحياء التي تعملين عليها؟"
كانت عيناه تضيقان، كأنّه لا يسأل ليعرف... بل ليقيس مدى خطورتها الآن.
إيفا لم تلتفت إليه، بل رفعت نظرتها إلى السقف، كمن يستدعي صورة محفوظة في ذاكرة محظورة، ثم قالت بنبرة كأنها تسرد وصفة عشاء:
ــ "قريبة من الاكتمال... ينقصني فقط ألف جثة بشرية، نصفهم أطفال رضع... والنصف الآخر... عجائز يئسوا من الأمل."
ضحكت بخفة كأنها تمزح، لكن أحدًا لم يضحك.
ميشا عبست. هي لا تمانع في الدم، لكنها تكره الأطفال... لأنهم صادقون جداً.
ثم تمتمت كأنها تذكرت فجأة:
ــ "أوه... نسيت. لم أسألك يا إيفا... أين تشاي؟ أظن أن العام أوشك على الاكتمال، ولم أره بعد."
تغيرت ملامح إيفا للحظة. سقط جفنها الأيسر ببطء، ورفّت حاجبها كما لو كانت تنفر من طيفٍ مرَّ في ذهنها.
ــ "سمعت أنه في مدريد."
صمتت قليلاً، ثم أضافت وهي تمسك فنجانها الفارغ:
ــ "يكمل مهمة قتل... تابعة للمزاد الأخير. كانوا يريدون رأس تلك المرأة التي تتكلم لغة الطيور... لكن، كما تعرفونه، لا يرد على الهاتف. أبداً."
جي رفع حاجبه الأيمن، وقال كأنه يسأل من تحت الماء:
ــ "المرأة التي تتكلم لغة الطيور؟ أهي حقيقية أم مجرد لقب؟"
إيفا ابتسمت للمرة الأولى، تلك الابتسامة الخالية من الرحمة:
ــ "لقد غردت حين قطّعوا أوتارها الصوتية."
ساد الصمت مجددًا.