السماء فوق باريس تلك الليلة كانت ملبدة بغيوم ثقيلة، كأنها تحمل سرًا لا تريد البوح به. المطر كان يهمس على النوافذ العالية للقصر، تتخلله بين حين وآخر ومضات برق عابرة، لا تكفي لإنارة ما في الداخل، فهنا في هذا القصر… الإضاءة كانت تُختار بعناية، لتكون خافتة، مثيرة للعين، لكنها لا تكشف كل شيء.

‎في الصالة الكبرى، ذات الأرضية الرخامية السوداء الموشّحة بخطوط ذهبية، جلست إيفا على كرسي من المخمل الأحمر، مسنود بظهر مرتفع مُطعَّم بقطع عاج قديم. لم تكن تجلس كيفما اتفق، بل بانحناءة جانبية مدروسة، كأنها لوحة حية من زمن آخر. أمامها، على الطاولة المستديرة الصغيرة، أطباق من الفواكه الناضجة المجلوبة من جزر بعيدة، تفيض عصارة وألوانًا، وأطباق أخرى تحوي أفخر الفواكه الجافة، مكسوّة بطبقة خفيفة من السكر المطحون.

‎في الجهة المقابلة، كانت ميشا، بملامحها الباردة وثيابها الغالية التي تلمع أطرافها بخيوط فضية، تتناول شرائح المانغو المجفف ببطء شديد، وكأنها تحصي كل مضغة. الجو كان يقطر سكونًا، حتى أصوات المضغ كانت تشبه إيقاعًا مقصودًا يملأ الفراغ.

‎وفجأة… انفتح الباب الخشبي الثقيل، ليطل أحد خدم أنتونيو، ببدلته الرسمية السوداء وقفازاته البيضاء، يحمل هاتفًا محمولًا أسود اللون على وسادة مخملية صغيرة، كما لو كان يحمل تاجًا. تقدم بخطوات محسوبة، ثم انحنى قليلًا أمام إيفا.

‎الخادم بصوت منخفض: سيدتي… المتصل يطلبك على وجه السرعة.

‎رفعت إيفا حاجبًا واحدًا، بينما كانت يدها تداعب حبة عنب زرقاء بين أصابعها المطلية باللون القرمزي.

‎إيفا: ومن يكون؟

‎الخادم: يقول… إنه السيد.

‎انزلقت ابتسامة غامضة على شفتيها، ابتسامة لا تقول شيئًا لكنها توحي بالكثير. تناولت الهاتف بأصابعها الرشيقة، وضغطت على زر الإجابة ببطء متعمد.

‎إيفا بنبرة هادئة: أهلًا… من؟

‎جاء الصوت من الطرف الآخر، عميقًا، مبحوحًا قليلًا، لكنه مكسو بطبقة من السلطة والهيمنة، ذلك النوع من الأصوات التي تجعل المستمع يعتدل في جلسته بلا وعي.

‎الصوت: إيفا… إنه أنا، السيد.( ستعرفون من السيد في الفصول القادمة)

‎صمتت لحظة، وألقت نظرة سريعة على ميشا، التي كانت قد توقفت عن الأكل وبدات وكأنها تستمع أيضًا.

‎إيفا: تفضل، أسمعك.

‎الصوت: أريد من عائلة أودجين أن تتدخل… في القضاء على العصابة "ثعالب الجليد". لأنني سئمت مطاردتهم و هم كالثعالب ماهرون في الاختباء

‎إيفا مررت سبابتها على حافة كأس النبيذ أمامها، كأنها تفكر فيما إذا كانت ستحتسيه أم لا، ثم قالت ببرود:

‎إيفا: سأطلب من بيوم… ابن ميشا… أن يذهب غدًا إلى روسيا. هناك… سيبدأ بالإطاحة بهم.

‎انبعث من الطرف الآخر صوت أنفاس ثقيلة، قبل أن يرد:

‎الصوت: جيد… سأرسل لك المعلومات التي استطعت إيجادها عنهم.

‎إيفا أبقت الهاتف ملتصقًا بأذنها، بينما ميشا كانت قد أزاحت طبقها قليلًا، وأمسكت بكأسها تديره بين أصابعها ببطء، منتظرت ما سيأتي.

‎الصوت في الطرف الآخر انخفض أكثر، حتى صار أشبه بوشوشة بين ظلال:

‎الصوت: بالمناسبة… أنا من طلبت من أكاي أن يجمع المجلس… وأن يثيرهم لمطاردتكم.

‎ابتسمت إيفا ابتسامة صغيرة، لكنها لم تكن ابتسامة امتنان، بل ابتسامة من يعرف أن قطعة إضافية في الشطرنج قد تحركت كما يريد.

‎إيفا: أعلم؟

‎الصوت: لكي نكمل الخطة… الخطة التي بدأناها منذ سنوات.

‎أن يثيروكم لتفعل أودجين… كارثة … في العالم.

‎ميشا رفعت رأسها عند كلمة كارثة، وبدات في عينيها وميض بارد. أما إيفا، فقد ظلت عيناها ساكنتين، كأنها تستمع لقصيدة مألوفة.

‎الصوت: وعندما يقع الدم… سيكون اللوم على المنظمة الإفريقية.

‎هكذا… نستطيع أن نضعف قوتها، ونقوض سيطرتها على أوروبا… والشرق.

‎كانت الكلمات تُلقى ببطء، وكأن كل جملة سكين صغيرة تنغرس في الخريطة السياسية للعالم.

‎إيفا، وهي ما تزال تداعب كأسها بأظافرها:

‎إيفا: أعلم بذالك انه قرار المقاعد و نحن يجب علينا ان نحترمه ، نحن لسنا سوى الشرارة.

‎الصوت: لا… أنتم الحريق نفسه.

‎ثم انقطع الصمت لحظة، قبل أن يتابع بصوت أكثر هدوءًا:

‎الصوت: سأرسل التفاصيل… وبيوم عليه أن يبدأ فورًا.

‎أغلقت إيفا الخط ببطء، وضعت الهاتف على الطاولة كما يوضع خنجر مبلل بالدم، ثم أسندت ظهرها على الكرسي، ونظرت إلى ميشا نظرة لم تكن مجرد تبادل كلام… بل كانت كأنها تروي لنفسها قصة تعرفها منذ زمن طويل.

‎إيفا بصوت هادئ، لكن كل كلمة تحمل ظل ابتسامة باهتة:

‎عصابة ثعالب الجليد الروسية… عدو رئيسي للمقاعد العشرة.

‎لكنني – حتى الآن – أجهل سبب خيانتهم للمقاعد، بعد أن كان… كما أسميه أنا القائد المجنون، زعيم العصابة، هو المقعد السادس… قبل خمس سنوات.

‎صوت المطر على النوافذ ازداد، وكأنه يواكب الإيقاع البطيء لكلماتها.

‎إيفا:

‎ذلك الرجل… سلّم بنفسه معلومات حساسة عن ماهية المقاعد العشرة… للرئيس الإفريقي السابق.

‎قطعت ميشا حديثها برشفة نبيذ، ثم وضعت الكأس، وقالت بلا انفعال:

‎ميشا:

‎لا تهم هذه المعلومات بالنسبة للمقعد الثاني.

‎ابتسمت إيفا ببطء، وأومأت برأسها:

‎إيفا:

‎بالطبع… لأن المقعد الثاني هو أودجين.

‎هو نحن، يا ميشا.

‎رفعت يدها، وأخذت قطعة من الفواكه المجففة، وضغطتها بين أصابعها حتى انكسرت:

‎إيفا:

‎نحن لا نخاف من أي أحد.

‎لا يهم إن عرف البشر هويتنا… أسماؤنا… صورنا.

‎المهم… أننا نفعل ما نريد أن نفعله… وفي الوقت الذي نريده.

‎ظل الصمت معلقًا بينهما، لكن في ذلك الصمت، كان هناك اتفاق كامل… وكأن الحوار لم يكن إلا صدى لصوت واحد يتكلم في عقلين.

‎ميشا، بصوتها البارد الذي يعرف كيف يقطع الصمت دون أن يفسده:

‎ميشا: إيفا… لماذا لم يستطع السيد القضاء عليهم منذ خمس سنوات؟

‎إيفا أزاحت خصلة شعر سقطت على كتفها، وأخذت نفسًا عميقًا، ثم نظرت إلى ميشا نظرة بطيئة، كأنها تحاول تذكر جواب تعرفه منذ زمن بعيد:

‎إيفا: لأنهم… ملوك التمويه والاختفاء.

‎منذ أن خانوا المقاعد… لم يتركوا أثرًا واحدًا، لا صورة، لا مكان، لا كلمة في السوق السوداء.

‎كل عام… يكلف السيد مقعدين كاملين لمطاردتهم… لكن في نهاية الأمر، لا يعود أحد ومعه خبر أو جثة أو حتى ظل.

‎وضعت إيفا حبة تين مجفف في فمها، وقضمتها ببطء، وكأنها تمثل مصير من يلاحق ثعالب الجليد.

‎ميشا، وقد شبكت أصابعها أمام وجهها:

‎ميشا: أتظنين أن ابني… بيوم، قادر على ذلك؟

‎إيفا لم تبتسم هذه المرة، بل مالت قليلًا للأمام، ووضعت مرفقها على الطاولة، وعينها تلمع في الضوء:

‎إيفا: هذه المهمة… تستحق شخصًا واحدًا فقط…

‎هو تشاي.

‎ميشا رفعت حاجبها، ولم تعلق، تعرف أن اسم تشاي لا يُذكر عبثًا.

‎إيفا تابعت، وصوتها صار أبطأ، كأنها تُنزِل الكلمات بثقل على الطاولة:

‎إيفا: لكن… لا أظن أنه سيقبل.

‎لذلك… اخترت بيوم.

‎سكتت قليلًا، ثم رفعت كأسها ورشفت رشفة صغيرة، قبل أن تكمل:

‎إيفا: لأنه… رغم جنونه… فهو ذكي.

‎وهو يعرف كيف يلتهم فريسته… حتى لو كانت ثعلبًا يختبئ في الثلج.

‎خارج النوافذ، كان المطر قد اشتد، وأصواته على الزجاج بدت كأنها تصفيق بطيء لمؤامرة تولد من رحم الليل.

‎أما في الداخل، فقد بقيت إيفا وميشا تحدقان في بعضهما، بلا كلمة إضافية، وكأنهما قد اتفقتا على أن الغد… لن يكون يومًا عاديًا.

ملاحظة : السيد و المقاعد العشرة ستعرفونهم في الفصول القادمة

2025/08/05 · 1 مشاهدة · 1080 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025