البرازيل – الساعة 00:00
المطر يهطل بغزارة، وكأن السماء تحاول غسل هذه المدينة القذرة من ذنوبها.
صوت الرعد يزمجر فوق الأسطح، والبرق يشق الظلام كالسيف.
هناك، فوق قمة عمارة متآكلة، يقف رجل وحيد.
الريح تعصف بمعطفه الأسود الطويل، وقطرات المطر تنزلق على وجهه دون أن يرمش.
عيناه تراقبان من بعيد بارًا صغيرًا في أحد الأزقة الضيقة… أضواؤه الخافتة ترتجف كنبض قلب على وشك التوقف.
صوت داخلي يضحك، ثم فجأة يتحدث:
> "بيوم … أودجين. هكذا يلقبونني.
المجنون… أو كما يحب بعضهم أن يقول: الكلب المسعور للعائلة.
حسناً… في الماضي كنتُ أفكّر بالزواج، لكن تذكرت أنني قاتل… والقتلة لا يتزوجون.
ههههههه… لا لا، ماذا أقول أنا؟!
ربما لو تزوجتُ، لكنتُ قتلت زوجتي في ليلة العرس لأنني مللتُ من الرقص."
يبتسم، ابتسامة مائلة فيها من العبث بقدر ما فيها من الوحشية.
> "على أي حال… في عائلتنا، معظمهم يقتلون فقط عندما يدفع لهم المال. معاركهم باردة، بلا نكهة… ينهون الأمر بسرعة وكأنهم يقومون بعمل إداري.
أما أنا؟ لا… أنا أختار خصمي بعناية. أبحث عنه كما يبحث صياد عن فريسة نادرة.
أريد أن أرى العيون وهي تشتعل، والأجساد وهي تنكسر، والأنفاس وهي تتلاشى ببطء… تلك هي الموسيقى التي أرقص عليها."
يمدّ يده إلى جيبه ويخرج ولاعة معدنية، يشعل سيجارة رغم المطر، وكأن النيران تخاف منه هي الأخرى.
> "والليلة… سمعتُ عن عصابة تُسمّي نفسها أنياب الظلام.
لديهم اجتماع مهم… عقد صفقة للسيطرة على أحد أحياء المدينة.
لكن كل ذلك لا يهمني… لا أريد أحياءً ولا أموالاً ولا سلطة.
ما يهمني… هو أنني سمعتُ أن بينهم رجلاً قوياً جداً.
قوياً بما يكفي ليجعل قلبي ينبض من جديد."
يسحب نفساً من سيجارته، يطلق الدخان نحو العاصفة.
> "أنا هنا… فقط لألعب معه.
دعونا نرى… هل هو يستحق أن يُكسر… أم سأضطر إلى قتله سريعاً… مثل الآخرين."
في داخل البار
الأضواء النيونية تتراقص على الجدران المزخرفة، والموسيقى الصاخبة تهزّ الأرض كنبض قلب وحش ضخم.
في الطابق السفلي، الناس يصرخون ويضحكون، أجساد تتمايل على إيقاع موسيقى الهيب هوب، الكؤوس تتصادم، ورائحة الكحول تختلط بعطر النساء.
لكن في الأعلى، في الطابق المخصص لكبار الشخصيات، كان الجو مختلفًا… ثقيلًا، مليئًا برائحة السيجار والسياسة القذرة.
طاولة طويلة من الخشب الفاخر، تحيط بها عشرة كراسٍ جلدية سوداء، يجلس عليها قادة العصابات — رجال يرتدون بدلات أنيقة لكن أعينهم تحمل نفس القسوة التي تحملها شوارع المدينة.
أمامهم زجاجات ويسكي فاخرة، وأوراق عقود، وخريطة ضخمة لعدة أحياء في المدينة…
الحديث كان عن السيطرة، النفوذ، والمال.
ضحكاتهم كانت عالية، لكن داخلها شيء خفي… كأن كل واحد منهم يفكر متى سيطعن الآخر في الظهر.
على جانب الطاولة، وقف بوف — ضخم الجسد، رأسه حليق، عيناه تتحركان بلا توقف، يراقب كل شيء.
لكن فجأة… تجمد.
شعر بشيء غريب، إحساس يضغط على صدره… هالة شريرة، ثقيلة كأنها جدار من الظلام يقترب.
رفع بوف رأسه ببطء نحو سيده، وقال بصوت عميق:
— "سيدي… يجب أن نرحل من هنا بسرعة."
سكت الجميع. حتى الموسيقى من الطابق السفلي بدت وكأنها ابتعدت.
التفت إليه رئيس العصابة، رجل في الخمسين من عمره يُدعى مايرز، يرتدي بدلة رمادية، سيجارة في فمه.
— "ما الأمر يا بوف؟"
ابتلع بوف ريقه، عيناه تنظران نحو النوافذ:
— "هناك شخص قوي جدًا بالخارج… لا، ليس قوياً فقط… إنه شيء آخر. أشعر وكأنه يترصدنا."
عندها نهض مايرز فجأة، وكل القادة الآخرين تبعوه دون تردد.
صوت الكراسي وهي تتحرك كان حادًا، والوجوه تحولت من الابتسام إلى الجدية القاتلة.
— "حسنًا، سنخرج من المدخل الخلفي."
هكذا قال مايرز، ثم أشار برأسه للحراس.
بدأ الجميع يتجه نحو الممر خلف البار… ممر ضيق، جدرانه مغطاة بصور قديمة وملصقات لفرق موسيقية من الثمانينات.
لكن خطواتهم لم تكن هادئة… كانت متوترة، سريعة، وكأنهم يسابقون شبحًا.
المطر لم يتوقف. الشوارع تلمع تحت أضواء النيون، والبرك تتناثر تحت أقدام المارة الهاربين من المطر.
هناك، على بعد خطوات من المدخل، كان بيوم قد سقط على ركبتيه للحظة… يرفع رأسه، يتنفس ببطء، وقطرات المطر تتساقط على وجهه.
من الداخل، فجأة تعالت موسيقى قديمة…
"I’ll take you to the Candy Shop…"
الأغنية اخترقت الجو وكأنها إعلان عن بداية الفوضى.
البار تحول إلى مشهد حي من لعبة GTA Vice City؛ ضحكات مجنونة، كؤوس تتحطم، نساء يرقصن فوق الطاولات، ورجال يتشاجرون في الزوايا.
لكن بيوم لم يكن يراهم… عينيه كانتا تبحثان عن شيء واحد فقط.
هدفه بدأ يتحرك.
شعر بذلك، لم يكن بحاجة لأن يراه… إحساسه الحاد
قفز بيوم من مكانه فجأة، ركض وسط المطر، قدماه ترتطم بالأرض وتدفعه بسرعة هائلة.
بخفة قاتل متمرس، صعد على أول سيارة متوقفة، ثم قفز نحو حافة مبنى قريب.
لم يتوقف، لم ينظر للأسفل، كان يركض فوق أسطح العمارات كظل يطارد فريسته.
تحت قدميه، كانت المدينة تمرّ كفيلم مسرع — أضواء الشوارع، المارة، أصوات أبواق السيارات، وكل شيء يختفي خلفه.
ثم لمحها…
سيارة سوداء، نوافذها مظللة، تتحرك بسرعة في الشارع الموازي.
تلك السيارة… يعرفها. إنها لأحد قادة العصابة الذين كانوا في البار.
ابتسم ابتسامة خفيفة، وكأن اللعبة بدأت للتو.
دفع جسده للأمام أكثر، حتى أصبح يركض بسرعة تجعل المطر يبدو ثابتًا حوله.
لكن فجأة… توقّف.
وقف على حافة أحد المباني، ينظر من الأعلى نحو الشارع… إحساسه تغيّر.
الهدف توقف.
المكان أصبح هادئًا بشكل غير طبيعي…
حتى المطر بدا أبطأ.
ثم… من الظلام، ظهر ظل ضخم.
خطوات ثقيلة، جسد عريض يملأ الممر الضيق بين المباني.
صوت خافت تحت المطر:
— "أنت… لست من هنا، صحيح؟"
كان بوف.
عيناه مثل أسود الغابة، كتفاه أوسع من باب سيارة، وفي يده سيجارة مشتعلة رغم المطر.
بيوم ابتسم ابتسامة صغيرة، ثم همس لنفسه:
— "أخيرًا… قطعة الحلوى التي جئتُ من أجلها."