قبل خمس سنوات…
ليلة واحدة قبل الحادثة
كانت السماء فوق إنجلترا في تلك الليلة ملبدة بغيوم كثيفة، تخفي خلفها نجومًا حائرة، وكأن المدينة بأسرها تحبس أنفاسها في توترٍ غامض، بانتظار ما لا يُعرَف. المطر لم يكن يهطل بعد، لكنه كان معلقًا في الهواء، رطبًا، خانقًا، ينقل رائحة الحديد الصدئة المتغلغلة في جدران القصر الإنجليزي العتيق، ذلك القصر الذي كان مسرحًا لمخططات شديدة الخطورة.
في الطابق العلوي، وخلف زجاج مصقول شبه معتم، جلس ماركس ساكنًا في مكانه، لم يخلع معطفه الجلدي الأسود بعد. وجهه بدا صارمًا كنحت صخري، تقاسيمه حادة كأنها شُكِّلت بسكين، عيناه سوداوان لا تعكسان الضوء، وكأنهما ثقبان مفتوحان يقودان إلى فراغ لا ينتهي من الشك والدم. كان يتصفح ملف الاتفاق الذي وقعه أمير إنجلترا قبل ساعات فقط، يقلب الصفحات بأصابعه الطويلة في صمتٍ مريب، وكأنه يبحث بين السطور عن لعنة مكتوبة بحبرٍ لا يُرى.
خلفه، وقف مساعده الوفي، رجل بلا اسم في السجلات، لكن الأوساط الاستخباراتية تعرفه باسم "الظل الرابع". كان متوترًا، عينيه ثابتتين على ظهر ماركس وكأنه يرى هالة قاتلة تتسلل بين عظامه.
قال بصوتٍ خافت أقرب إلى الهمس المجبون، صوت رجل يدرك خطورة ما ينطق به: «سيدي… الاتفاق تم توقيعه، ولكن…»
ماركس لم يرد مباشرةً. اتكأ على الطاولة، شبك أصابعه وانحنى قليلًا كما لو كان يصلي، ثم نطق بصوتٍ عميقٍ هادئ، كصدى بئر قديم: «نعم، تم توقيعه… لكنني لا أثق بشيء يولد تحت الطاولة.»
نهض ببطء، خطواته على الأرضية الخشبية القديمة بالكاد تصدر صوتًا، لكن الهواء نفسه بدا وكأنه ينحني كلما تحرك. اقترب من النافذة، ألقى نظرة على المدينة الغارقة في صمت الليل.
قال بنبرة ساخرة باردة: «هالة القتل، يا صديقي… إنها لا تخطئ أبدًا. رأيتها في عيني الأمير حين صافحني. كانت ابتسامته دافئة لكنها تخفي قناعًا صلبًا. لم يكن يوقع الاتفاق حبًا بالسلام، بل شهوةً للسيطرة. إنه لا يسعى للحماية… بل للهيمنة.»
تقدّم مساعده خطوة، تردد قليلًا قبل أن يقول: «ومع ذلك… لا أفهم نواياك، سيدي. لقد رفض الأمير قطع علاقته بالمنظمة الأمريكية، بل ادعى أن انضمامه لنا لن يُخلّ بتوازن القوى. ثم فجأة، وافقت أنت… هل هذا فخ؟ أم خيانة محسوبة؟»
ساد صمت كثيف للحظة بعد سؤال مساعده، صمتٌ بدا وكأن المدينة بأكملها وقفت فيه على حافة شهيقها. ارتجف ضوء المصباح المعلق في السقف، وكأن شيئًا غير مرئي مرّ في الغرفة. رفع ماركس رأسه ببطء، عينيه تلمعان بوميض خافت قاتم:
«هناك شيء…» تمتم بنبرة كمن يحدّث نفسه، لكن صداها ارتطم بجدران القصر كتهديد دفين، «شيء سيحدث هذه الليلة… كل شيء هنا يصرخ بالخيانة. يجب أن نغادر غدًا قبل أن يكتشف أحد مسارنا… سنعود إلى تونس.»
رمش مساعده ببطء، وكأنه امتص المعنى الثقيل لكلمات سيده، ثم اقترب وهمس بنبرة أكثر انخفاضًا من خرير الدم في الأوردة:
«يجب ألا يعرف أحد بخطط عودتنا، سيدي… السر هو السلاح الوحيد الذي نملكه الآن.»
لكن خلف الباب، في الممر الطويل المظلم الذي تعانق فيه الظلال، كان رجل يقف بصمت مطلق، ظهره ملتصق بالجدار كتمثال من دخان، عيناه تلمعان في العتمة كعيني ذئب يترصد فريسته. تنفّسه كان خافتًا حدّ الاختفاء، لكن أذنيه التقطتا كل كلمة خرجت من فم ماركس. ارتسمت على وجهه ابتسامة ملتوية، تشبه التواء سكين في خاصرة الليل.
همس لنفسه بصوتٍ بالكاد تحرّك فيه الهواء:
«إلى تونس إذن… وهل تظنون أن الهروب ممكن؟»
في الداخل، التفت ماركس فجأة نحو الباب، حدّق فيه بنظرة خاطفة حادة اخترقت الخشب، وكأن غرائزه صرخت بتحذير خفي. عض على شفتيه بقوة حتى كاد الدم ينساب، ثم قال لمساعده بصوت خفيض كزئير مكموم:
«أغلق النوافذ… وأحكم الأبواب… الليل الليلة ليس لنا وحدنا.»
في دهاليز القصر العميقة، شق الرجل الخفي طريقه كدخان ينساب بين الجدران الحجرية، خطواته خفيفة كأن الليل نفسه يحمله. وصل إلى باب ضخم تتدلى عليه راية العائلة الملكية، طرق طرقًا خافتًا بالكاد يُسمع، ومع ذلك فُتح الباب ببطء ليكشف عن غرفة غارقة في الظلال، يتوسطها الأمير جالسًا أمام مكتب ضخم، بيده كأس نصف ممتلئ يلمع فيه الشر كوميض برق في عاصفة.
انحنى الرجل الخفي بسرعة، عرقه يلمع على جبينه رغم برودة الغرفة، ثم قال بصوت مبحوح لكنه ملتهب بالانتصار:
«مولاي… سمعت كل شيء. ماركس سيعود غدًا إلى تونس… إنه يشك ويخطط للهروب قبل أن ينكشف أمره.»
رفع الأمير عينيه ببطء، انعكس ضوء الشموع فيهما كبحرٍ من الجليد، ثم ابتسم ابتسامة صغيرة خالية من الدفء، وأمسك هاتفًا أسود بيده كأنه يحمل مصير قارة كاملة، طلب رقمًا بسرعة واتصل.
ثوانٍ ثقيلة مرت قبل أن يجيب الطرف الآخر بصوت منخفض عميق يتردد صداه داخل سماعة الهاتف:
«السيد هنا…»
ابتسم الأمير بسخرية تشبه انزلاق شفرة فوق عنق:
«لدي خبر يهمك… ماركس سيعود غدًا. كل شيء يجري كما خططنا.»
ساد صمت كثيف لثوانٍ، حتى جاء صوت السيد، وبدت كلماته كأنها تُلقى من عمق بئر مظلم:
«لا مشكلة… أفراد أودجين وصلوا إلى إنجلترا منذ ساعة… غدًا… سيكون يوم الاغتيال.»
تسارعت أنفاس الرجل الخفي الذي كان لا يزال راكعًا أسفل الأمير، شعر ببرودة في أطرافه حين نطق السيد بعباراته الأخيرة، وكأن جدران الغرفة أصبحت أضيق، والهواء أثقل من الحديد.
رفع الأمير كأسه نحو الرجل المنكفئ أمامه، تموج الشر في نبرته وهو يهمس كمن يبارك ليلة جحيم:
«لنجعل الغد ليلة لا تُنسى…»
في الخارج، ارتعدت الرياح وهي تصطدم بنوافذ القصر، وكأن الليل نفسه فهم حجم الخيانة التي تُحاك في أحشائه.
صباح اليوم التالي…
كان الفجر قد أشرقت خيوطه الأولى بخجل فوق لندن، لكن المدينة ظلت غارقة في ضباب كثيف بدا كأن الأشباح تراقصه في الأجواء. دبت الحياة ببطء في الشوارع، أصوات أبواق بعيدة تختلط بزقزقة عصافير لم تتجرأ على الاقتراب من طرقات الصقيع. على الرصيف، رجال بوجوه متجهمة يعبرون بخطوات متسارعة، عيونهم الزائغة لا تلتقي بشيء، وكأن المدينة كلها تخشى النظر إلى هذا الصباح.
على باب القصر، كان ماركس يقف بشموخ قاتل، يرتدي معطفه الجلدي الأسود الطويل كدرع يليق بملك الظلال، وعلى جانبيه اصطف حراسه الشخصيون بسترات داكنة وأعين متفحصة تدور كالسهام حول المكان. محركات سيارات رباعية الدفع سوداء اللون كانت تزمجر أمام المدخل وكأنها وحوش معدنية تنتظر إشارة الانقضاض.
خلف ماركس، خرج قادة المجالس الأمنية واحدًا تلو الآخر، كلٌ منهم يحمل ملامح لا تعرف الرحمة، وجوههم كانت صلبة كالصخر وعقولهم تدور بسرعة خبيثة. تبادلوا نظرات قصيرة فيها اتفاق ضمني على أن ما ينتظرهم لن يكون أقل من جحيم.
صعد ماركس إلى السيارة الأولى، جلس في المقعد الخلفي بجانب قائد مجلس العمليات، انطلقت السيارات ببطء أولًا لتشق طريقها عبر البوابة الحديدية العملاقة للقصر، ثم تسارعت في موكب مهيب نحو شوارع لندن المزدحمة. أضواء السيارات انعكست على واجهات المتاجر الزجاجية المغلقة، لتشطر الضباب إلى أشكال مشوهة تتحرك مع الريح.
على الأرصفة، توقفت بعض المارة بفضول خائف، يراقبون الموكب يمر بسرعة لا تسمح بتفاصيل واضحة، وجوههم كانت خليطًا من القلق والدهشة، وكأنهم شعروا أن شيئًا كبيرًا وغير طبيعي يتحرك هذا الصباح. حتى الحمام الذي اعتاد التحليق فوق تماثيل المدينة، بدا وكأنه تجمد في مكانه، لا يقوى على رفرفة جناحيه وسط هذا الجو المشحون.
في داخل السيارات، خيم صمت ثقيل لا يقطعه إلا صوت لاسلكي يصدر تعليمات حادة، أو حركة طفيفه لأحد الحراس حين يضغط على سلاحه تحسبًا. ماركس كان يحدق إلى الأمام، عيناه عميقتان كظلمة بئر لا قعر له، يفكر في تونس… وفي الدم الذي قد يُسفك قبل أن تصل قدماه إليها.
في الخارج، كان الصباح يشرق، لكنه بدا وكأنه ينهض على وقع خطوات الغدر.