كان الأمير يجلس في جناحه الملكي الفاخر، وحده. الستائر المخملية مسدلة، والعطر الإنجليزي الراقي لا يستطيع إخفاء رائحة القلق التي بدأت تزحف من مسامه.

‎فوق الطاولة، هاتف أسود يرن نغمة واحدة فقط يعرفها هو.

‎رنّة واحدة.

‎رفع السماعة بصمت.

‎جاء الصوت من الطرف الآخر هادئًا كهدير تحت الماء، لكن يحمل ثقل موتٍ آتٍ:

‎السيد:

‎«قبل أن يتم اغتيال ماركس، لدي ثلاثة أسئلة… لا تقلق، لن يطيل عليك.»

‎الأمير أغلق عينيه للحظة، ثم قال بصوت منخفض متوتر:

‎«ماذا.»

‎السيد (بضحكة لا تحتوي على أي ملامح بشرية):

‎«

‎«سؤالي الأول… لماذا استدرجت ماركس؟ ولماذا طلبت مني قتله؟ ما السبب؟»

‎الأمير عضّ على شفتيه، ثم قال ببطء:

‎«لن أجيب… لا فائدة من الإجابة … طالما أنه لك فائدة في ذالك .»

‎السيد (بصوت كأن الموت نفسه يتكلم من رئته):

‎«إجابة جبان… تمامًا كما توقعت.»

‎ثم تابع، دون أن يعطي الأمير فرصة ليلتقط أنفاسه:

‎«سؤالي الثاني… لماذا تعاقدت مع المنظمة الإفريقية، ؟»

‎الأمير تنفس بقوة، مسح جبينه، ثم قال بنبرة أقرب للغضب المكتوم:

‎«لن أجيب.»

‎السيد (بضحك ميت)

‎خف صوته فجأة، صار أشبه بهمسٍ يتسلل إلى العمود الفقري:

‎«سؤالي الأخير… هل رأيت أحد أفراد أودجين من قبل؟ هل نظرت في عينيهم؟»

‎الأمير تردد، ثم قال بهدوء:

‎«لا…»

‎في اللحظة التالية…

‎انقطع الاتصال.

‎الأمير بقي لثوانٍ محدقًا في الهاتف.

‎شيء ما لم يكن طبيعيًا…

‎الصمت.

‎صمت خبيث ثقيل.

‎ثم…

‎صوت شيء يقطر على الأرض.

‎قطرات.

‎ثم صرخة صغيرة... بعيدة، لكنها حقيقية. صرخة خادمة؟ ضابط حراسة؟ لم يكن يعلم.

‎نهض فجأة من كرسيه، قلبه يخبط في صدره كأن الزمن توقف.

‎فتح باب جناحه...

‎الهواء بارد...

‎لكن…

‎رائحة الدم دخلت إلى أنفه كرصاصة.

‎ثم…

‎دون صوت… دون حركة…

‎وقف أمامه هو.

‎تشاي أودجين.

‎لا أحد يعرف كيف دخل، ولا متى، ولا من سمح له… لكنه كان هناك.

‎في عتمة الغرفة، يقف مرتديًا سترة سوداء، بلا سلاح، بلا جيش، بلا كلمة.

‎عيناه…

‎كانتا شيئًا لا يمكن وصفه.

‎وحين همّ الأمير بالنطق، ربما ليصرخ، أو ليطلب الرحمة، أو ليسأل: كيف؟ لماذا؟ من؟ أين؟ متى؟

‎قال تشاي بصوت كأن العالم كله انضغط في حنجرته:

‎«السيد يسلم عليك.»

‎ثم…

‎صفعة يد واحدة.

‎صفعة؟ لا.

‎كانت قبضة.

‎كانت ذراعًا تحرّكت بسرعة الضوء، قوة وحش خرج من الأساطير.

‎ثم طقطق الرأس.

‎سقط رأس الأمير أرضًا… يتدحرج ببطء فوق سجاد أحمر… كأنه يبحث عن آخر سؤال لم يُطرح.

‎أما تشاي…

‎فأدار ظهره.

‎وخرج.

‎كانت ساحة كوفنت غاردن وسط لندن تعج بالحياة، تعج بالضوضاء، تعج بالبشر الذين لا يعلمون شيئًا.

‎مئات من الناس يتحركون كالنمل، تائهين بين عربات الأكل، العروض الموسيقية، السياح، المتشردين، رجال المخابز، الباعة، الحمقى الذين يرقصون لتيك توك، والمحققين السريين المختبئين خلف نظارات شمسية مزيفة.

‎السماء رمادية… لكن لا مطر.

‎الهواء كثيف كأن شيئًا خفيًا يضغط على المدينة من الأعلى.

‎أصوات تصادم السيارات، الصراخ العابر، ضحكات مراهقين، كأن المدينة تنفجر بالحياة… لا أحد يعلم أن هذه اللحظة… هي الأخيرة.

‎فوق ناطحة سحاب شاهقة تُطل على الساحة مباشرة، كانت إنزوي واقفة…

‎شعرها الطويل يتطاير مع الريح كأفعى سامة تبحث عن فريسة.

‎معطفها الأبيض مرفرف، وعيناها تضيقان وهي تراقب من بعيد…

‎موكب سيارات المنظمة يشقّ طريقه وسط الزحام...

‎سيارات سوداء، مصفحة، نظيفة أكثر من وجوه السياسيين.

‎سيارة واحدة فقط كانت تهمها…

‎السيارة التي تحمل ماركس.

‎إنزوي تتحدث بهدوء وهي تمضغ علكة بنكهة الكرز:

‎"أراك يا ماركس... آخر خطوة قبل أن تداس تحت قدمي كحشرةٍ مغرورة."

‎ثم، دون أن تلتفت، نطقت:

‎«لقد تأخرت، تشاي… تأخرت كثيرًا.»

‎خلفها مباشرة، خرج من ظلّ اللاشيء… تشاي أودجين.

‎لا صوت خطوات، لا تحرك هواء، لا حرارة جسد.

‎كأن ظلّ الموت نفسه قرر أن يرتدي معطفًا أسودًا.

‎وقف إلى جانبها، يراقب السيارات مثلها، ثم قال بهدوءٍ فاحم:

‎«المهمة تغيّرت.»

‎رفعت إنزوي حاجبها، ببطء.

‎«ماذا؟ تغيّرت؟ هل السيّد غيّر رأيه؟»

‎هزّ تشاي رأسه نفيًا، ثم همس بصوتٍ بدا وكأنه كُتب داخل كتاب محظور:

‎«لا… إيفا.»

‎لحظة صمت. عينا إنزوي تلمعان بخفة الجنون.

‎«إيفا؟!

‎ثم ضحكت ضحكة خفيفة، ضحكة طفلة تعلم أنها ستحصل على لعبة جديدة… لعبة اسمها المجزرة.

‎تشاي

‎أدار عينيه نحوها، والشرر فيهما لم يكن إنسانيًا:

‎«اليوم يا إنزوي… لا نريد قتلاً فقط… نريد دمارًا. مجزرة… إبادة… انهيار حضارة…»

‎إنزوي ابتسمت، نصف ابتسامة، ثم همست بإثارة لا يمكن تزييفها:

‎«لم أفهم… يعني… يعني… يعني أنا سأقتل كل البشر الموجودين تحتنا؟! كلهم؟!»

‎بدأت ترتعش من الفرحة، تضرب كعب حذائها على الحافة كطفلة لا تصدّق:

‎«أوه، يا رب… يا رب…! هذا حلمي منذ كنت في السابعة! أن أُطلق قوتي كاملة! أخيرًا!!!»

‎لكن تشاي قاطعها بجملة كانت كختم الجحيم:

‎«ليس البشر فقط يا إنزوي… أي شيء يتحرك. لا تتركي شيئًا. لا قطة… لا طير… لا عربة فشار. كل شيء يموت. أودجين… يجب أن تُعرّف نفسها اليوم.»

‎صمت...

‎ثم ظهرت في عيني إنزوي نظرة شيطان مدرّب.

‎خلعت معطفها… تبين زيّها الأسود المُدرّع…

‎ثم مدت ذراعيها إلى السماء…

‎«أوه يا لندن… هل تعرفين كم انتظرت هذه اللحظة؟!»

‎تنهيدة…

‎«كم مرة حلمت أن أُخرج كل طاقتي دون أن أُحاسب؟»

‎ضحكة طويلة…

‎ثم صرخت فجأة، كأنها تستدعي الموت من السماء:

‎«انفجريااااااااااااااااااااااااااااااااا!!!»

‎انفجرت السماء بلون بنفسجي مظلم.

‎هالة من الطاقة السوداء خرجت من جسدها كعاصفة نووية.

‎من تحت؟

‎الناس بدأوا يصرخون…

‎الهواء صار ثقيلاً…

‎طفل يبكي…

‎رجل يسقط ميتًا دون سبب.

‎طائر ينفجر في السماء.

‎الزجاج يتشقق…

‎الأرض ترتجف…

‎تشاي يقف بصمت… لا يتحرك.

‎عيناه تراقبان ما سيُصبح قريبًا مجرد رماد.

‎ثم بصوت هادئ، كأن كل هذا طبيعي:

‎«إنزوي… ابدئي العرض.»

2025/08/06 · 3 مشاهدة · 936 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025