عودة إلى الحاضر

في اليوم التالي

في قلب صحراء إفريقيا

‎في وسطِ الصحراء التي لا ترحم، حيث الشمسُ تحرقُ الأرضَ بلا رحمة، ورمالها تمتد بلا نهاية، كان هناك حشدٌ يسيرُ كأنه موجةٌ من الجثث الحية.

‎حشدٌ من المختبرين، أُرسلوا كأشباحٍ بلا مستقبل، وهم يسيرون في صمتٍ ثقيل، كلُّ واحدٍ منهم يتجرعُ الألمَ كما لو كان عقابًا مقدرًا. خلفهم اللجنةُ التي كانت قد تبدّلت بالكامل. لم يبقَ منهم إلا بلاك داون وراغنا، اللذان يخطوان في المقدمة بخطىٍ ثابتة، لا يملكان إلا إرادة صلبة ووجوه لا تُظهر إلا صلابة البرود.

‎وراءهم المعلمون الجدد، الذين لا يُعرفُ لهم سوى ملامح القسوة والعزم. وأخيرًا، خلف كل هذا، يجرُّ المختبرون أنفسهم، أجسادٌ منهكة، وأرواحٌ منهارة، وأعينٌ مكلومة.

‎سون، الذي يسير وسط هذا الحشد، تبدو عيناه واسعتين كالمرايا التي تعكس الماضي المرير. يتذكر ماريو، الصديق الذي رحل ، وكأن روحه ما زالت تسكنه، لكنه الآن جثة تمشي، لا أكثر. عزلته هذه الذكرى وحملها الثقيل يثقل كاهله.

‎الاطفال الذين كانوا رفاقه، عيونهم مغلقة نصفها من التعب، ووجوههم تائهة بين الأمل واليأس. لقد جُرّوا إلى هنا كما يجرُّ الطفل يديه فوق الرمال الحارقة.

‎فجأة، جاء صوتٌ حادٌ من الجانب، ضربةٌ قوية من مرفق غاندي على جسد سون، كأنها صاعقة مفاجئة.

‎غاندي، بوجهه الذي لا يكف عن الضحك، قال بتهكم:

‎"أيها الأحمق، ظننت أنك ستموت في الاختبار الأول، لكنك ما زلت حيًّا!"

‎سون نظر إليه ببرود قاتل، كأنه يتلقى كلامه من عالمٍ بعيد، بدون أن تلتفت أو تتأثر، قال ببرود:

‎"ابتعد."

‎ضحك غاندي ضحكة ساخرة، ثم بدأ يمشي بجانب آلما، الذي كانت تحاول أن تتدخل:

‎"كفى، غاندي. اترك الولد."

‎ابتسم غاندي بابتسامة تعج بالقسوة:

‎"حسنًا، اصمتي."

‎السير في الصحراء هنا ليس مجرد رحلة جسدية، بل هو اختبار للروح. الحرارة تلتهم الأجساد، والرمال تتسلل بين ثنايا الملابس، ومع كل خطوة، تتهاوى الأحلام ويتناقص الأمل.

‎الرياح تعصف بالغبار، ترفع أغطية رؤوس المختبرين، فتظهر وجوهًا متعبة مملوءة بالخوف، لكنها تخفيه تحت قناع من القسوة المكتسبة.

‎كان الصمت يلف المكان، لا أحد يتكلم إلا حين يضطر، والعيون تتبادل نظرات مختلطة بين الخوف والغضب، وأحيانًا بريقٍ من التحدي.

‎سون يمشي، ولكن عقله يغوص عميقًا في ذكريات ماريو. كان ماريو ذلك الشاب المفعم بالحياة، دائم الابتسامة، الذي قاتل حتى النهاية ليحمي أصدقاءه. ولكن الموت جاء كالظل، وأخذ روحه بعيدًا، تاركًا سون معلقًا بين الحياة والموت، في حالة من النصف حي والنصف ميت.

‎الذهن يُعيد المشهد: صوت ماريو الأخير، نظرة وداعه، والدماء التي لونت الرمال.

‎"لماذا أنا؟" سأل نفسه مرارًا، ولم يجد جوابًا.

‎وفي تلك اللحظة، رفع سون رأسه ونظر إلى الأفق، حيث امتدّت الشمس ككرة نارية تحترق ببطء. هناك، خلف الكثبان، كان مستقبلٌ مجهول ينتظرهم.

‎لكن هل سيصلون إليه؟ هل ستكون قوتهم كافية ليصمدوا أمام اختبار الحياة والموت في هذه الأرض التي لا تعرف الرحمة؟

‎غاندي، الآمر الناهي، لا يتوقف عن التحدي والإهانة، لكنه يعلم أن هذه الرحلة هي اختبار للضعفاء، وأن البقاء للأقوى.

‎آلما، التي تقف بصمت، تشعر بقسوة المعركة التي لم تبدأ بعد، وتدرك أن لكل واحد من هؤلاء المختبرين قصة، ولكل منهم رغبة في النجاة.

‎الرمال تبتلع آثار أقدامهم ببطء، كأنها تريد أن تمحو كل أثر للحياة، وكأنها تقول لهم إن هذه الأرض ستظل فقط للأقوياء.

‎لكن في قلب هذا القتال الصامت، كان هناك صوت داخلي يصرخ، صوت الأرواح التي لم تستسلم، صوت الأمل الخافت، الذي لا ينطفئ مهما طال الظلام.

‎وهكذا، تابع الحشد سيره في قلب الصحراء القاسية، نحو مصير مجهول، نحو اختبار قاسي، حيث لا شيء مضمون، سوى أن البقاء للأقوى، والأقسى.

‎فجأة، ارتفعت صرخة بلاك داون، كأنها صاعقة في سماء صحراء ملبدة بالهدوء القاتل:

‎"احذروا! موجة رملية قوية جدًا!"

‎كانت الكلمات تكاد تخرج من فمها مكتملة، لكن قبل أن تستطع إنهاء الجملة، ضربت الصحراء بقوةٍ لم يكن يتوقعها أحد.

‎موجةٌ رملية هائلة، خرجت من العدم كما لو أن الأرض نفسها قد انفجرت، كانت ليست مجرد رياح عادية، بل إعصارٌ من الرمال الدامسة، لُوحٌ من الحجارة والغبار المشتعل.

‎الرمال تملأ السماء، تعمّت الرؤية، صار الهواء كثيفًا ثقيلًا كخليط من العواصف القديمة والوحشية.

‎المختبرون، من فرط قوة الضربة، طاروا كأوراق ذابلة في عاصفة، كل واحد منهم انقذف في اتجاه مختلف كدمى صماء.

‎سون، الذي كان يحاول أن يمسك بحجر صغير ليحمي نفسه، شعر بالقوة الهائلة تتلاعب به. بيده الممدودة تلاشت قوتها، وحجره سقط من بين أصابعه، كأن الهواء نفسه كان يخنقه.

‎ضغطٌ رهيب على صدره، وكأنه جبلٌ ينهار فوقه. حاول الصراخ، لكن الصوت لم يخرج، ضياع في وسط عاصفة من العدم.

‎دقائق مرت وكأنها دهر، وكل شيء حوله تحول إلى رماد. الغبار يلتف مثل الأفاعي، والريح تستعر كوحش عظيم.

‎ثم، فجأة، بدأ الغبار يتلاشى ببطء. الهواء يستعيد ثقله، والرؤية تعود متقطعة ومكسرة.

‎سون وقف وحيدًا. لا أصوات، لا حركات، لا همسات. لا أحد أمامه، ولا أحد خلفه. فقط صحراء مترامية الأطراف، جرداء، بلا نهاية واضحة.

‎كان هناك سكونٌ مخيف، ذلك الصمت الذي يأتي بعد العاصفة ليخبرك بأن شيئًا ما انتهى، لكن شيئًا آخر، أعظم، قد بدأ.

‎وكان عند قدميه، فجأة، ظلٌ طويل مظلم، ظهر كأنه نبع من الظلام وسط شمس الصحراء.

‎رجل، أو مجرد ظل، وقف هناك بثبات، صامتًا.

‎أصوات الريح تلاشت، وتوقف الزمن للحظة.

‎بصوتٍ خافت لكنه جامد كالحديد، قال الرجل:

‎"قف هنا."

‎سون، بقلب يملؤه التوجس والدهشة، لم يرد، لم يخطُ خطوة. فقط وقف. عيناه تلتقطان كل تفصيل في هذا الموقف الغريب.

‎الظل لم يتحرك، لم ينبس بكلمة أخرى. كانت هناك قوة غير مرئية بينهما، كأن هذه اللحظة هي مفترق طرق، مفصل خطير سيغير مجرى الأحداث.

‎الرمال كانت تتطاير برفق، والهواء يهمس بحكاياتٍ لا يفهمها إلا من يقف في قلب العاصفة.

‎رجل يبتسم، يملأ المكان بهدوء غريب، وجهه يشع حكمة تجعلك تلتفت وأنت تكتشف بأنك تقف أمام من لا يمكن تجاهله.

‎تاي.

‎سون نظر إليه، عيناه تحملان مزيجًا من الصدمة، الدهشة، والاحترام الممزوج بالريبة.

‎بصوت تكسّره الريح، قال:

‎"معلم تاي... ماذا تفعل هنا؟"

‎تاي، بابتسامة هادئة، تحدث وهو ينظر إلى وجه سون المليء بالغبار والعرق:

‎"أهلاً بك يا سون... هل جرحك ضغط العاصفة؟"

‎سون يحاول أن يستجمع أفكاره، لا يصدق هذا اللقاء المفاجئ في قلب القحط.

‎"لا... لا أفهم ماذا تفعل هنا، معلم تاي."

‎تاي يقترب خطوة، الرمال تحت قدميه تتراقص كأنها ترحب به، ثم يتحدث بهدوءٍ حاسم:

‎"سأشرح لك الأمر... العاصفة التي ضربتكم لم تكن عاصفة عادية، لم تكن سوى خدعة، كانت قوة أُطلق عليها اسم 'العاصفة الحقيقية'، لكنها ليست حقيقية انها مهارة تعود لاحد المعلمين."

‎"هي قُصفت ضد الذين لا يمتلكون مهارة، يا سون. 60 شخص ."

‎سون يرتفع حاجباه بدهشة، وهو يلتقط أنفاسه بصعوبة وسط النسيم المحموم:

‎"يعني ماذا؟"

‎تاي يرد بثقة:

‎"نعم، هدف العاصفة كان مزدوجًا: أولًا، إبعادكم عن القطيع الرئيسي، ثانيًا، اختبار حقيقي. من نجى من العاصفة...يجب عليه تدريب على مهارة"

‎سون يحاول فهم عمق الكلام، ثم يسأل ببطء:

‎"اختبار؟"

‎تاي يبتسم، وكأن الجواب سهل، لكنه يحمل وزنًا كبيرًا:

‎"نعم. اختبار. من نجى منها، يُخصص له معلم يعلّمه مهارة، فدخول الاختبار الثاني دون مهارة يشبه الانتحار. لذلك أمرنا بتدريبكم، وإلحاقكم بالقطيع قبل وصولكم إلى المستشفى المهجور."

‎"إذا لم تتعلم في الوقت المناسب، فسيتم استبعادك. لكن لا تقلق، المعلمون المشاركون مختصون، وأعتقد أن ٨٠٪ من التلاميذ ينجحون في تعلم مهاراتهم."

‎سون يتنهد، وكأن خبرًا ثقيلًا أُلقِي عليه.

‎"إذًا... هذا اختبار..."

‎تاي يضحك، ضحكة منخفضة لكنها تحمل تحديًا وكبرياءً لا يخفى:

‎"وأنا اخترتك أولًا، لأنك ابن صديقي. وثانيًا، لأن جسدك متوافق مع السم الذي في داخلك."

‎يتوقف لحظة، ثم يضيف بخفة ساخرة:

‎"أنا ملك السموم، هههههههه... وأعتقد أنني أكثر شخص يمكنه مساعدتك في التعلم."

2025/08/06 · 5 مشاهدة · 1218 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025