مطار مدريد – الليل

‎كانت أضواء المدرج تتلألأ مثل خيوط ذهبية على بساط أسود ممتد بلا نهاية، وصوت الرياح الباردة يمر فوق الزجاج العريض لصالات المطار. الطائرات تصطف في صمت، وذيل كل طائرة يلمع تحت أضواء الكشافات العالية، فيما تهمس مكبرات الصوت بنداءات متقطعة بلغات متعددة.

‎في السماء، كانت النجوم شبه غائبة خلف غيوم رمادية، لكن الأفق الشرقي كان يلمع بضوء المدينة النائم نصف يقظة.

‎هبطت طائرة خاصة أنيقة بلون فضي داكن، انزلق سلمها الآلي برشاقة، وخرج منها أكاي بخطوات هادئة لكن حازمة، يرتدي معطفًا أسود طويلًا يتمايل مع نسيم الليل. خلفه وُجد حارسان ببدلات رسمية، يحيطان به من الجانبين، واثنان آخران ينتظران أسفل السلم.

‎السيارة السوداء الفارهة كانت تنتظر، محركها يهمس، وأبوابها تُفتح فور اقترابه. جلس أكاي في المقعد الخلفي، وضع حقيبة جلدية صغيرة بجانبه، وألقى نظرة سريعة من النافذة نحو أضواء مدريد وهي تنزلق مبتعدة.

‎"مرّ وقت طويل منذ رأيتها…"

‎ابتسم في نفسه وهو يتخيل وجه آني حين تفتح الباب وتراه، كيف ستلمع عيناها دهشةً وفرحًا، وكيف ستغمره بعناقها المفاجئ قبل أن تبدأ بسيل أسئلتها المعتاد.

‎مدّ يده نحو الحقيبة الجلدية، فتحها قليلًا ليتأكد أن الهدايا لا تزال في أماكنها:

‎صندوق صغير مخملي أزرق بداخله قلادة فضية عليها حجر أزرق سماوي.

‎كتاب نادر عن فنون القتال القديمة، يعرف أن آني كانت تبحث عنه منذ شهور.

‎علبة شوكولاتة فاخرة من نوعها المفضل، صنع يدوي من متجر صغير في باريس.

‎"ستحبها جميعًا… لكن الأهم أن تراني،" فكر وهو يراقب قطرات المطر الخفيفة التي بدأت تلمع على زجاج السيارة.

‎مع مرور الوقت، هدأ ضجيج المدينة خلفهم، ودخلوا أحياءً أكثر هدوءًا، حتى توقفت السيارة أمام منزل صغير محاط بحديقة ياسمين.

‎ترجّل أكاي، وقف أمام الباب الخشبي، مدّ يديه ببطء، يستعد لطرق الباب… لكنه توقف فجأة، حدّق في المدخل بعينين ضيقتين.

‎"هذه الطاقة… أعرفها…"

‎شعور مألوف لكنه ثقيل، كأن شيئًا من الماضي يقف خلف هذا الباب، يتنفس في الظل.

‎رفع يده مجددًا، ثم طرق الباب ثلاث طرقات هادئة…

‎الباب يُفتح

‎خرجت آني بخطوات متسارعة، ابتسامتها المشرقة المعتادة على وشك أن تتفتح… لكنها تجمدت فجأة، وكأن قلبها توقف عن النبض لوهلة.

‎آني (بهمس متقطع): "…أكاي؟"

‎لم تكن تتوقع هذا أبدًا. هذا اليوم الذي دعت فيه تشاي إلى بيتها ليقابل جدتها، هو نفس اليوم الذي يعود فيه حبيبها القديم من العدم. شعور بالغدر والارتباك طعنها في الصدر، وكأن القدر قرر أن يضعها في أسوأ موقف ممكن.

‎قبل أن تقول شيئًا، ابتسم أكاي بهدوء، فتح ذراعيه واحتواها في عناق دافئ:

‎أكاي (بصوت منخفض): "اشتقت إليك."

‎كانت واقفة كتمثال، عيناها متسعتان، تحاول أن تستوعب ما يحدث.

‎أكاي دخل بخطوات واثقة إلى غرفة الجلوس، ألقى التحية على الجدة بابتسامة مهذبة، لكن عينيه التقطتا فورًا صورة الرجل الجالس هناك… تشاي.

‎وفي اللحظة التي التقت فيها النظرات، سقطت جدران الصمت داخليهما.

‎من داخل عقل أكاي: "تشاي… القاتل… اودجين؟"

‎من داخل عقل تشاي: "أكاي… ؟"

‎لم يتحرك أي منهما، لكن الغرفة امتلأت بتوتر كثيف، كأن الهواء صار أثقل.

‎الجدة، التي لم تدرك ما يجري خلف العيون، قالت وهي تحدق فيهما:

‎الجدة: "تبدوان وكأنكما تعرفان بعضكما، أليس كذلك؟"

‎تشاي (يبتسم بخفة، يخفض رأسه قليلًا): "كيف لا… من لا يعرف رئيس المنظمة؟"

‎قالها بنبرة عادية، لكن ملامحه بقيت غامضة، لا تكشف شيئًا عما يدور في ذهنه.

‎أكاي (بنبرة هادئة أيضًا): "والوجوه المألوفة… تبقى محفورة في الذاكرة."

‎هو الآخر أخفى أي تعبير حقيقي خلف قناع المجاملة.

‎أما آني، فكانت واقفة بجانب الباب، يديها متجمدتان على جانبيها، قلبها يصرخ من الصدمة، وعقلها لا يعرف من يجب أن تصدق أو تبتعد عنه.

‎كانت تشعر وكأن حياتها انقسمت في لحظة واحدة بين رجلين… أحدهما من ماضيها الذي جرحها، والآخر من حاضرها الذي بدأ للتو.

‎بعد لحظات من الصمت المشحون، دخلت الجدة إلى المطبخ وبدأت تحضر الطعام، وأعلنت بصوت حازم:

‎"حان وقت الاكل ."

‎تجمّع الجميع حول الطاولة، وأثناء تناول الطعام، حاولت آني كسر الجمود:

‎"تشاي… هذا أكاي ابن خالتي."

‎رفع تشاي حاجبيه مستغربًا:

‎"لماذا لم تقولي إن عندك ابن خالة رئيس منظمة؟"

‎تنهدت آني وقالت ببرود:

‎"لم يأتِ الموضوع في وقت مناسب للحديث عنه."

‎نظر أكاي إليها بسؤال واضح في عينيه:

‎"ما طبيعة علاقتك بهذا الرجل؟"

‎تنفست آني بعمق، قبل أن تجيب بمرارة:

‎"إنه… حبيبي الجديد."

‎خفت أن تقول المزيد، لكنها أكملت بصوت مرتعش:

‎"وأنت… تركتني."

‎تشاي أدار وجهه إليها مستفسرًا:

‎"لماذا لم تخبريه أن لديك حبيبًا قديمًا؟"

‎في تلك اللحظة، تدخلت الجدة بحزم:

‎"كفى! لا فائدة من الحديث عن الماضي الآن. كل واحد منكم يأكل قبل أن يخرج هذا الغضب من البيت!"

‎تلك الليلة لم تكن مثل أي ليلة سابقة.

‎في قلب المنزل الصغير الذي احتضن أيام طفولتها، وبين جدران اعتادت أن تهمس لهم بأسرارها، وقفت آني، تغرق في بحر من المشاعر المتصارعة.

‎في لحظة، شعرت بحضورين لا يحتملان أن يكونا معًا، كأن الظل والنور اشتبكا في داخلها، وصارت قواها متقطعة بين حبيبين مختلفين، وكل منهما يحمل لغزًا عميقًا وأسرارًا مظلمة.

‎آني، التي كانت تظن أن قلبها قد نسي طعم الألم، شعرت بأنه ينبض من جديد، وأعمق من أي وقت مضى.

‎كأنها تقف على حافة هاوية، بين ما تريده وما يخيفها.

‎كانت عيونها تلتقط ملامح أكاي، ذلك الرجل الذي حمل في صمته قوة وجاذبية مدمّرة، الذي عاد بعد سنوات كأنه فصل جديد في قصة كانت تتمنى نسيانها، وعيونها تغوص في بحر ذكرياتها معه، في ضحكات، ووعودٍ لم تتحقق، وفي تلك اللحظة، تغلبها رغبة في الثقة مجددًا رغم الخوف.

‎ثم التفتت إلى ذلك الرجل الآخر، تشاي، بارد العيون لكنه ينبض بجرحٍ لا يظهره، حبه الجديد الذي لم يكن من السهل أن تثق به بعد.

‎كل منهما يمثل عالمًا مختلفًا، وجوهًا ملطخة بأسرار لا تُقال.

‎داخلها كان صراع لا ينتهي، مشاعر الغدر تجتاحها وكأنها موجة عاتية، والخيبة تلهب صدرها.

‎شعرت بالخيانة تتسلل بينهما، لا بسبب فعل، بل بسبب التداخل المستحيل بين ماضيها وحاضرها، شعرت وكأنها سجينتهم، بين ذاك الرجل الذي تركها خلفه، وهذا الذي جاء ليبني معها مستقبلًا، لكنها لم تكن تريد أن تختار… ولم تستطع.

‎تجمّع الجميع حول الطاولة، وصمت ثقيل ملأ المكان، تتخلله أصوات المضغ وخرير أكواب الشاي، ولكن في داخلها كل صوت كان يتحول إلى صرخة.

‎الحديث كان برودة تزداد، وكل كلمة بينهما كانت كجراح تُفتح من جديد.

‎رأت في عيني أكاي ذلك الثقل الذي يرافقه، مزيج من الغضب، الحذر، والمسؤولية التي تثقل كاهله، فهو لا يعرف كيف يوازن بين قلبه الذي يريدها وبين الولاء لعائلته التي تعيش في ظلال الصراع.

‎أما تشاي، فكان صلبًا، يختبئ خلف وجهه الصامت، لكن عيناه كانت تتحدث عن أشياء كثيرة، عن خيانات مرت، ووعودٍ مكسورة، وعن رجل يُلاحقه الماضي أينما ذهب.

‎في تلك اللحظة، أيقنت آني أنها محطّة صراع لا يرحم، وأنها ليست أكثر من ورقة على رقعة شطرنج كبيرة، تحركها أيدٍ لا ترى.

‎شعرت بأن الألم لا يكمن في غدر الرجال، بل في غدر الزمن، الذي جمعهم من جديد، فجعل منها جسرًا بين عالمين، وعالمين يرفضان الاندماج.

‎كانت دموعها تحفر طريقها بهدوء على خديها، لكن قلبها كان يكويها، يدفعها لتجد القوة، : "

‎-

‎خرج تشاي فجأة، كالريح الغاضبة، غارقًا في مشاعرٍ لا يريد أن يبوح بها، بينما بقي أكاي صامتًا، كالجبل الصلد، لكن أفكاره تعصف كعاصفة لا تهدأ.

‎ابتسم له ابتسامة لم تكن للفرح، بل كانت للخطة القادمة، للتحدي الذي لم يبدأ بعد.

‎وفي داخله، كانت الكلمات تئن:

‎"؟ كيف لقاتل أن يقترب من عائلتي؟

‎أما آني، فبقيت هناك، في ظل الألم، ترتجف لكنها صامدة، تستجمع شتات قلبها الممزق، تعرف أنها بدأت رحلة لن تنتهي بسهولة، رحلة تستوجب منها شجاعة لا تقارن.

2025/08/06 · 5 مشاهدة · 1226 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025