03:00 في شارع مدريد
لم تكن صدمة.
لا… لم تكن صدمة.
حين أدركت أن آني كذبت علي، كان الأمر أشبه بإعادة مشهد قديم من حياتي، مشهد أعرف نهايته قبل أن يبدأ.
كل صديق… كل وجه منحته الثقة… يزرع خنجره في ظهري.
كانوا يتناوبون على خيانتي، وكأنهم يمارسون طقساً مقدساً.
لكنها…
هي كانت مختلفة. أو هكذا أقنعت نفسي.
أردت أن أصدق أن هناك امرأة يمكن أن أضع يدي في يدها… دون أن أشعر بالرغبة في سحبها بعيداً.
أحببتها. نعم، أحببتها.
وأردت أن أختبر ذلك الشعور… قبل أن أفقد كل إحساس في داخلي.
لقد ضحيت بجسدي من قبل، .
وأنا أعلم… أنا قريب. قريب جداً من أن أصبح شيئاً لا يشعر.
حسنًا… لا بأس.
الألم الذي يمزق صدري الآن… أعرفه جيداً.
هو ألم مؤقت، مؤقت جداً.
بعد يومين فقط… سيكون مجرد ذكرى باهتة.
لكن حتى يحين ذلك… سأتركه يحرقني.
لأنني أعرف أن الحرق الأخير… هو ما يطفئ النار كلها.
خطواتي تتردد على الأرصفة الفارغة، وصوت أحذيتي ينعكس بين الجدران الحجرية كأنه صدى قلبٍ لم يعد يريد النبض.
المدينة نائمة، لكن أعمدة الإنارة تصرّ على أن تفضحني، ترسم ظلي على الأرض ككائن غريب، لا ينتمي إلى البشر ولا إلى الشوارع التي يسير عليها.
لقد ضحيت… نعم، ضحيت بجسدي لكائن لا يعرف الرحمة، كائن يسمونه الأليون ( في ماضي تشاي في الفصول القديمة).
أعطيته جلدي، عظمي، دمي… في صفقة لم تكن للبشر.
كنت أريد فقط شيئاً واحداً… أن أموت من الداخل، أن تُقتل كل مشاعري، كل إحساسي، مقابل جسد لا يموت.
كان الاتفاق واضحًا:
"لن تشعر مجددًا، ولن تبكي مجددًا، ولن تحب مجددًا… لكنك ستبقى حيًا."
لكن الصفقة لم تكتمل بعد مازات يوم ، اثنان لا ادري.
الأليون أخذ معظم ما لدي، ترك قلبي كغرفة مهجورة، لكنه… نسي نافذة مفتوحة.
نافذة صغيرة… تتسلل منها مشاعر قليلة، مؤلمة، كافية لتذكرني أنني لم أصبح بعدُ ذلك الشيء الخالي من الإحساس.
وهكذا… ها أنا أُعذَّب بما تبقى.
قليل من الحزن، قليل من الغضب، قليل من الحب… كلها تأتي فجأة، تلسعني كشرارة في ليل بارد.
والليلة… كانت الشرارة اسمها آني.
أمشي، وأعرف أن كل شيء مؤقت.
حتى هذه النيران التي تحرق صدري الآن… أعرف أنها ستموت.
ربما بعد يومين. ربما بعد ليلة.
لكن قبل أن تنطفئ، سأدعها تحرقني بالكامل… حتى لا أنسى أنني كنت يومًا إنسانًا.
(((( يكمل في إرجاع باقي الذكريات اللتي يتذكرها))))))))
كان الليل كثيفًا يومها… لا، لم يكن ليلًا، بل غطاءً من القيح الأسود، تمزّقه عينا بان حين حملني على كتفه كأنني كيس بطاطا مسمومة، لا طفل.
كنت في الخامسة ؟ ربما أقل، ربما أكثر… لا يهم. لا أحد يسأل عن عمر البرميل حين يُلقى في النار.
قال بان وهو يدفع باب الكوخ الخشبي بصوت خرخشة تشبه ضحكة أفعى مريضة:
— "سيهتم بك… إنه خبير."
"خبير؟" خبير في ماذا؟ في الذبح؟ في السكاكين؟ في تعليم الموت؟
لكن بان لم يُجب. لم يعطني حتى اسمي. تركني على الأرض كما تُلقى الرسالة في قبر مفتوح…
ثم ذهب.
دخلتُ أول مرة ذلك الكوخ… لم أسمع "مرحبًا"، لم أجد "سريرًا"، بل رأيت رجلاً… رجلًا يشبه الرماد.
عاري الصدر، أنفه مكسور منذ 100 سنة ولم يُصلّحه، عيناه كأنهما حفر فارغة.
قال أول ما قاله دون أن ينظر إليّ:
— "اخلع قميصك."
"ماذا؟" سألته وأنا أرتجف.
فرفع يده، وفيها سوط... لا! ليس سوطًا، بل حيّة ميتة جلدها مسلوخ، تم تحويلها إلى أداة للتربية.
ضربني ضربة واحدة... كنت أعتقد أني سأموت من الألم.
قال بعدها بهدوء الشياطين:
— "في هذا المكان، لا يوجد سؤال... فقط أوامر."
ثم ألقى إليّ سطلًا ممتلئًا بالعظام الصغيرة والرماد.
— "اجمع هذا كل صباح… وأعِده إلى صاحبه."
"من… من صاحب العظام؟"
ضحك ضحكة مكسورة، وقال:
— "أنت، بعد سنة من الآن."
اليوم الأول من "التدريب" كان ببساطة:
الجلوس في بئر مظلمة، وسط ثعابين لا تُرى، وصراخ يُبثّ من تحت الأرض.
قال لي حين أنزلني في البئر:
— "ابقَ هنا 12 ساعة.
إذا صرخت، سأكسر أسنانك.
إذا نمت، سأكسر أذنك.
إذا خرجت حيًّا… ستحصل على كوب ماء."
خرجت. لا أدري كيف. جسدي لم يكن جسدي. شعري صار رماديًّا في طرفه، ويديّ لم تعودا تهتزان، بل صارتا صامتتين… كما هو الموت.
اليوم الثاني؟
ألقى بي وسط حفرة مليئة بالزجاج المكسر.
قال بابتسامة جنونية:
— "أركض داخلها… عشر دورات."
قلت له:
— "سأُقطع."
قال:
— "لكن ستبقى حيًّا. وهذا هو الهدف. أن تنزف… دون أن تموت."
ركضت.
وبكيت.
وصرخت داخلي.
لكنني لم أُخرج صوتًا… لأن في أول صرخة، وضع لي قطعة حجر في فمي وقال:
— "من الآن، لا نستخدم الحبال الصوتية… بل الحبال الشوكية."
في الأسبوع الثالث، أعطاني سكينًا صدئة، وقال:
— "اذبح هذا الكلب.
لا لأنه شرير… بل لأنك تحتاج أن تتعلم أن تقتل بلا سبب.
لأن أعداءك الحقيقيين... لا سبب لهم.
الرحمة؟ هذه نكتة.
وأنا أكره النكت."
ذبحته.
لا أعلم من بكى، أنا أم الكلب.
كنت أستيقظ كل يوم وأنا أرتجف… لكنني لا أرتجف خوفًا، بل لأن جسدي بدأ يعتاد على الألم… ويشتاق له.
وفي أحد الأيام، قال لي بعد أن ربطني رأسًا على عقب وبدأ بصب الماء البارد على قدميّ:
— "هل تعرف لماذا أُدربك هكذا؟"
قلت:
— "لا."
قال مبتسمًا:
— " لأنك ابن عائلة عظيمة…"
ابتلعت كلماته… وشعرت أنها نزلت إلى قلبي كسمّ ساخن.
كرهت هذه العائلة اللتي لا اعرفها .
لكنني كرهت نفسي أكثر… لأنني لم أمت بعد.
وفي كل ليلة، أنام على بلاطٍ بارد… وأحلم بشيء واحد:
أن أخرج من هذا الكوخ يومًا، لا كإنسان… بل كأداة.
لا تتعب، لا تتردد، لا تتكلم.
في اليوم التالي...
استيقظ تشاي على صفعة.
ليس من يدٍ بشرية… بل من جدارٍ حديديّ انفجر تحته نار.
شُدّ جسده بالسلاسل إلى عمود صدئ…
وتمّ سكب ماء مغليّ ممزوج برماد جلود محترقة على ظهره العاري.
لم يصرخ.
لم يرمش.
عيناه فقط كانت ترتجفان كأنهما تتذكّران رحمًا دافئًا بعيدًا جدًا عن هذا الجحيم.
ثم…
تم لفّ سلك شائك حول ذراعيه...
واقتلعوه ببطء.
كأنهم يحفرون خطًا جديدًا للدم.
كأن جسده دفتر ملاحظات… والملاحظات: صرخات صامتة.
وضعوه داخل صندوق خشبي لا يتسع لطفل رضيع…
وأغلقوه عليه 12 ساعة…
ثم فتحوا الغطاء، فوجدوه يبتسم.
جاء اليوم الرابع.
أُجبر على الزحف داخل نفق طوله 30 مترًا…
أرضه مسمّرة، سقفه مليء بشفرات الحلاقة، وجوانبه تطلق تيارات كهربائية كل خمس ثوانٍ.
الشرط الوحيد للخروج؟
أن لا يفقد الوعي.
خرج.
لكن على الأرض، لم يكن وجهه وجه طفل.
كان وجه شخص رأى الجحيم، وجلب معه تذكارًا.
وضعوه بعدها في غرفة معصوبة العينين.
أطلقوا عليه كلابًا مجنونة… جائعة… ممزقة الأسنان.
وكان عليه أن يصدّها بلا صوت، بلا ضوء، بلا سلاح.
نهشته الكلاب.
مزّقت جزءًا من فخذه.
اقترب واحد من عنقه…
لكن تشاي عضّه.
نعم… عضّه.
حتى مات الكلب بين أسنانه.
وفي الليل…
كان عليه أن ينام عاريًا فوق سرير من الزجاج المسحوق،
بينما فوقه تتدلّى سلاسل مليئة بالأشواك.
كل حركة أثناء نومه…
كانت تعني جرحًا جديدًا.
لم يتحرّك.
نام كالميّت.
واستيقظ كمن عاد من القبر.
وفي اليوم التالي…
كان عليه أن يدفن نفسه.
نعم…
بيديه.
حفَر قبرًا صغيرًا بيديه العاريتين، في تربة صلبة.
ثم...
نزل.
وغطّى جسده بالتراب.
وترك فقط أنفه يتنفس.
وقضى هناك الليل كله.
الأرض كانت باردة.
لكن الدموع الساخنة سالت من عينيه داخل التراب… ولم تُروِ أي شيء.
وعندما طلع الصباح…
خرج.
عيونه...
لم تعد تنظر.
هي فقط تحرق.
جسده...
لم يعد يسير.