مرّ عام.
عام كامل في أحشاء الكوخ.
عام من الصراخ الداخلي.
عام من بلع الغضب بدل الهواء.
عام من السقوط… دون أن تملك رفاهية الأرض.
تشاي… لم يكن يتنفس.
بل كان يُصفّر داخله… كأنّه كائن خرج من غاز، لا من رحم.
وفي أحد الأيام، حين كانت الجدران تبكي بخارًا…
فتح الباب.
ليس بان.
ولا هو "الرجل الرماد".
كان طفلاً آخر.
حافي القدمين، شعره منكوش، ثيابه ممزقة، يحمل في عينيه ليلًا أطول من الليل نفسه.
لم يتكلّم.
لم ينظر لتشاي.
لم يبكِ.
لم يسأل.
دخل فقط… وجلس في زاوية الكوخ كأنّه سجين منذ 400 سنة.
تشاي لم يقل شيئًا… لكن قلبه ارتجف.
لأول مرّة… يشعر أنّه لم يعد الوحيد داخل الجحيم.
مرّ اليوم الأول.
الرجل الرماد لم يسأل الطفل عن اسمه.
بل فقط ربطه من يده اليمنى وسحبه إلى الخارج.
وأمر تشاي أن يتبعه.
"تدريب مزدوج"، قال.
كان التدريب بسيطًا:
ــ احفرا حفرتين بيديكما.
عمقهما متر ونصف.
الأرض؟ صخرية.
الجو؟ نيران.
النتيجة؟ من لا ينتهي في ساعتين... يُدفن حيًا.
بدأ التشاي بالحفر كما لو أنّه يحفر قبر بان.
أما الطفل الجديد؟
فقد كان يحفر بصمتٍ، ببطء… كأنّه يُحدّث الأرض.
يداه تمزّقتا بعد نصف ساعة.
الدم بدأ يتنقّط.
والحجارة مزّقت أظافره.
تشاي رآه… كان بإمكانه تجاهله.
لكن…
سحب الطفل فجأة بقوّة.
وسحب حفنات من ترابه ووضعها في حفرة الطفل الآخر.
ثم عاد لحفرته.
بلا كلمة.
بعد ساعتين… نَجَوَا.
لكن يد الطفل؟
ممزقة لدرجة أنّ العظم كان يلمع.
تشاي لم يتكلّم.
لكنه التفت إليه وهم عائدون إلى الكوخ…
ورأى شيئًا في عينيه.
شكر.
صامت.
دامي.
اليوم الثاني؟
الركض داخل حقل من المسامير، عراة الصدر، والعودة بعد وضع سطل فوق الرأس مملوء بماء ساخن.
المطلوب؟
ألا تسكب منه قطرة.
أصيب الطفل بثلاث طعنات في قدمه…
لكن تشاي بدأ يسير أمامه.
كأن خطوات تشاي كانت ترسم مسارًا آمنًا له.
كأن الألم بات مشتركًا.
كأن صراخ اللحم بدأ ينسجم.
في آخر الطريق… الطفل تعثر.
تشاي أمسكه قبل أن يسقط.
لكن تلك الحركة البسيطة؟
جعلت سطل تشاي ينقلب.
سكب نصف الماء الساخن على رقبته.
تشاي لم يصرخ.
لم يلتفت.
فقط ابتسم لنفسه… وقال في ذهنه:
"لأول مرة… أجد من أستحق أن أنزف لأجله."
اليوم الثالث؟
الوقوف داخل غرفة ثلجية، عراة تمامًا، والرياح تُطلق شفرات صغيرة تدور.
كل ثانية كانت تكفي لتمزيق الخد، الصدر، أو حتى تمزيق الشريان.
الرجل الرماد جعلهم يقفون مقابل بعضهم.
من يسقط؟ الثاني يُعاقب بدلًا منه.
وقف الطفل الجديد يرتجف.
سقط بعد 3 دقائق.
تشاي لم يُعلّق.
دخل الغرفة بدلًا منه، بنفس العُري…
ووقف.
تلقّى 17 قطعًا صغيرًا في ظهره.
إحداها كادت أن تدخل إلى رئته.
خرج بعد خمس دقائق.
مُنهك، يرتعش…
لكنه وقف بجانب الطفل الآخر…
ووضع يده على كتفه.
والطفل؟
أخيرًا… تكلم.
لا، لم يتكلّم… بل ابتسم.
أصبحا يتدربان سويًا.
يسقطان سويًا.
ينامان على الأرض الحجرية تحت نفس البطانية الممزقة.
يشربان من نفس الكأس الملوث.
يُجلدان بالسوط نفسه.
وفي كل مرة ينزف أحدهما، كان الآخر يمص الجرح بفمه…
لا رحمة.
لا تردّد.
كأن الدم صار وسيلة للتواصل.
في إحدى الليالي، سمع الرجل الرماد يهمس وهو يسجّل شيئًا على جدار الكوخ:
— "تشاي… وتشين."
"تشين".
تشاي
للول مرة يسمع تشاي اسمه و شعر انه ليس نكرة.
مرّ عامٌ آخر…
عام كان كليًا مصنوعًا من الألم.
تشين؟
أصبح كأخٍ لي.
لا، ليس أخًا… بل مرآة مكسورة تعكس تشوهي الخاص.
كنّا نأكل لحمًا نيئًا.
نشرب الماء من شقوق الصخور.
ننام على ظهر الحجارة ونضحك.
نضحك لأن الضحك هو آخر شيء لم يسرقه "الرجل الرماد" منّا.
لكن في هذا العام…
بدأ شيء يتغيّر.
ليس في الجو، ولا في القوانين، بل فينا.
في أجسادنا.
في عروقنا.
كانت البداية مع تشين.
في إحدى حصص "الركض تحت المطر الناري"، سقط تشين على ركبتيه وصرخ.
صرخة؟ لا، زئير.
وكأن نارًا تحت جلده فجّرت صوته.
ثم…
انفجر.
حرفيًّا، انفجر الهواء من حوله.
صوت احتكاك صاعقة مع جمجمة.
لهب… لهب يخرج من ظهره.
اللهب كأنّه حيّ، يزأر، يتموّج كحيّة مجنونة.
كل شيء احترق حوله… حتى نظراتي.
"مهارة نار!" قلت لنفسي، وأنا أرتجف.
تشين سقط بعدها مغشيًا عليه…
لكننا جميعًا…
شعرنا بها.
قوةٌ حقيقية.
لعنةٌ…
موهبةٌ…
أو شيء بين الاثنين.
أُغمي على تشين لمدة يومين.
وحين استيقظ…
ابتسم، لكن في عينيه:
ذنب النار.
أما أنا؟
كنت أنتظر…
أين هي مهارتي؟
هل تأخّرت؟
هل أنا ناقص؟
هل أنا… تالف؟
وفي ليلة بلا قمر، تحت سياط الريح، وأثناء تمرين "سحق الأصابع تحت الحجارة"، سقطت.
نزفت.
لكن الدم؟
لم يكن دمًا فقط.
شيء غريب…
خرج من الجرح… خيوط.
خيوط سوداء، رفيعة، تتحرك… لا، تتلوى.
كأنها تملك عقلًا.
امتدت نحو الجرح، ودخلت فيه من جديد… وأغلقته.
الجرح؟
اختفى.
كأن شيئًا لم يكن.
توقفت…
نظرت إلى يدي.
ضربتُ نفسي بسكين في الذراع.
نزفت.
ثم خرجت الخيوط السوداء مرة أخرى…
كأنني كائن مصنوع من عنكبوت.
كأن روحي تخيط جسدي كلما تمزّق.
ابتسمت…
لكن عندما رفعت رأسي، رأيت الرجل الرماد واقفًا من بعيد…
ليس غاضبًا، ولا سعيدًا… بل مرتبكًا.
يداه كانتا ترتعشان.
ثم همس، بصوتٍ سمعته رغم المسافة:
— "أخيرًا… ظهرت…"
ثم ضحك.
ضحكته كانت جافّة، غريبة، كأنها صادرة من قبر نسي أنه مات.
منذ ذلك اليوم…
تغيّر كل شيء.
لم يعد يضربنا.
لم يعد يتكلم معنا.
كان فقط… يراقب.
نحن نتدرب.
نقاتل.
ننزف.
وهو… يحدّق.
كان يتابعنا كأننا تجربة…
كأننا صحنان على نار باردة، وينتظر أيّنا سينفجر أولًا.
بدأت أتدرّب على تلك الخيوط.
كنت أجرح نفسي عمدًا، أراقبها، أدوّن.
أحيانًا كانت الخيوط تخرج وحدها…
أحيانًا تخرج غاضبة.
أحيانًا كانت تُغلق الجرح…
وأحيانًا كانت تتّجه للخصم.
ذات مرة، طعنني تشين بسيف خشبي بالغلط أثناء تمرين.
ضحكت.
قلت له: "راقب".
ونزفت.
ثم خرجت الخيوط…
والتفت حول السيف، ثم ضربت يد تشين.
ليس بقوة.
بل كتحذير.
تشين تراجع وقال:
"هل خيوطك تملك عقلًا؟"
أجبته:
"لا أدري… لكنها تعرف من يُهاجمني."
وفي إحدى الليالي، وأنا وحيد، فتحت كفي… وركزت.
شعرت بخيطٍ واحد يخرج بهدوء، ثم يلتف حول أصبعي…
وكتب في التراب:
"إليو...ن."
ثم اختفى.
شعرت بشيء في ظهري.
برد؟ لا.
هالة؟ نعم.
لونها؟
بنفسجي قاتم.
كأنها سحابة جاءت من عالمٍ آخر.
كأنها شيء لم يُصمّم للبشر.
لكن ما إن رأى الرجل الرماد ذلك… حتى تجمّد.
ضحكته صارت أطول.
لكن عيونه؟ لم تعد ترمش.
ومنذ تلك اللحظة…
لم يعد يُدرّبنا.
بل يراقبنا.
كأنه ينتظر…
شيئًا ما.
كأنني…
كُنت مجرّد مفتاح لبابٍ ممنوع.
وما زلت لا أعرف:
هل أنا تشاي؟
أم ماكينة خياطة قاتلة صُنعت من لعنة سابقة؟
مرت ثلاث سنوات من العذاب…
لكنها لم تُحضّرني لهذا اليوم.
لا شيء كان قادرًا على تحضير جسدي…
ولا حتى روحي
تحديد يوم 6 ديسمبر 1999 يوم ثاني من هروب عائلة أودجين من ناها .
كان صباحًا غريبًا.
هادئ بشكل مريب.
الرجل الرماد لم يظهر، ولا ظلّه.
الغرفة باردة رغم أن الشمس تعوي بالخارج.
تشين كان يعبث بقطعة خشب مهترئة، يصنع منها سكينًا، كأننا سنهرب يومًا…
كنت أراقبه وأضحك داخلي.
نحن لا نخرج من هنا… نحن نتحوّل إلى شيء، ثم يُطلق سراحنا ككلاب مسعورة.
الساعة الثالثة.
صرخة…
بعيدة…
جاءت من الجبل.
نظرت إلى تشين، نظر إليّ.
ركضنا، بلا تردد، بلا تفكير.
كانت الصرخة غريبة…
كأنها ليست بشرية، ولا حيوانية…
بل شيء بينهما، ملفوفٌ بالكحول والموت.
دخلنا عمق الغابة…
أشجار طويلة، تنهّدات الأرض تحت أقدامنا، الهواء ثقيل كأنه يغلي.
ثم رأيت.
تشين؟ لم يعد بجانبي.
أين؟
نظرت يمينًا… لا شيء.
يسارًا؟
ولا حتى ظلّه.
ثم… رأيته.
ممسوكًا كدمية.
كفّ كبيرة، سوداء الجلد، خشنة كأنها فُحمت من الداخل، تمسكه من رقبته.
والرجل؟
نعم… الرجل الرماد.
لكن شيئًا فيه… تغيّر.
وجهه مغطّى بهالة غريبة…
لونها بنفسجي متعفن، وفي عينيه…
جنون جائع.
تشين كان يتخبّط، يبكي، يصرخ.
أنا؟ مجمّد في مكاني.
الرجل نظر إليّ.
ثم ابتسم.
ابتسامة تنقّط منها الخطايا.
وقال:
"تشاي أودجين… التضحية هي المفتاح.
وحشك نائم…
لكنه يحتاج إلى قلبٍ ينزف بجانبك كي يستيقظ."
ثم…
ذَبَح تشين.
نعم…
ذَبَحَه.
ذبحه كما يُذبح الخروف في مذبحة مقدّسة.
سكين صدئة…
دماء تقفز في الهواء…
صرخة تشين…
كانت مثل سيف مغروس في حنجرتي.
كل شيء بدأ يدور.
الأرض تصرخ، الأشجار تترنح، السماء تنفجر.
جسدي؟
كأنه لم يعد جسدًا.
أشعر أن كل خلية فيّي تحترق، تصرخ، تولد، تموت، وتضحك في نفس اللحظة.
ثم…
ظهر.
ذاك الشيء.
ذاك المخلوق.
الأسود.
الطويل.
ذو الأذرع المتشعبة…
عيونه لا ترى… بل تلعن.
ظهر أمامي.
وقال…
دون صوت، بل داخل جمجمتي:
> "أنا قوتك، يا تشاي…
أنا الإليون…
لعنة عائلتك منذ ألف سنة…
والآن…
أعود أولد من جديد… عبر لحمك."
ثم…
انفجرت.
انفجرت.
جسدي كله بدأ يصرخ بلا صوت.
جلدي صار يُمزّق نفسه.
عروقي تلتهب وتنفجر ثم تُغلق نفسها.
وهالة…
هالة سوداء داكنة، لا تُرى، بل تُحَسّ.
ثقلها كجبل…
برودتها كقبر…
حرارتها كألف روح محروقة تصرخ داخلي.
الهالة خرجت…
غطّتني.
امتدّت لعشرات الأمتار… ثم مئات.
ثم…
خرجت الخيوط.
من ظهري، من صدري، من عينيّ حتى.
خيوط سوداء، ملتوية، تتلوّى كأنها ثعابين من الجحيم.
ثم هاجمت.
مسكت رأس الرجل الرماد.
لا، لا أمسكته… غزت رأسه.
الخيوط دخلت فمه، أذنه، عينه، أنفه، جلده.
صرخ.
بدأ رأسه ينتفخ…
وهو يضحك.
نعم، كان يضحك.
قال:
"لقد نجحت… نجحنا… الوحش استيقظ…!"
ثم…
انفجر.
لم يبقَ شيء.
فقط دخان.
ورائحة دم محروق.
وتشين…
جثة هامدة… مقطوعة الحنجرة.
جلست بجانبه.
وضعت يدي على وجهه.
ثم…
بكيت.
بكيت لأول مرة منذ ثلاث سنوات.
كل شيء داخلي انكسر.
لعنت بان.
لعنت الرجل الرماد.
لعنت كل شيء.
ثم…
صوت.
امرأة.
هادئة… لكنها كأنها تعلم كل شيء.
"أنت أحد أعضاء أودجين، يا تشاي…
وهذه هي ولادتك الحقيقية."
نظرت.
كانت إيفا.
عيناها تحترق كأنها شهدت نهاية العالم من قبل.
ابتسمت لي…
ثم فتحت ذراعيها وقالت:
"عدنا يا صغيري… عدنا إلى العائلة."
لكن داخلي؟
لم يعد صغيرًا.
داخلي صار…
الإليون.
(((( انتهاء الذكريات))))