باريس ( نفس وقت مع فصل اللذي يسبقه)

باريس، تلك المدينة اللعينة التي لا تكفّ عن الرقص حتى عندما تموت الأحلام.

‎تشاي لم يكن في مزاج للرقص. ولا للحب. ولا حتى لقهوتها المرة التي يحبها الجميع ويتظاهرون أنهم يفهمونها.

‎"آني..."

‎قال الاسم في ذهنه كما لو كان يلقيه في بئر. لم يَسمعه أحد، لكنه ارتدّ عليه بصوت خافت يشبه صوتها وهي تقول له:

‎— "أنت لا تعرف ماذا تريد."

‎كان يعرف.

‎كان يعرف جيدًا أنه لا يريد أن يتألم.

‎لكنه لا يعرف:

‎هل يحبها فعلاً؟ أم أنه فقط اعتادها؟ أم أنه اعتاد على نفسه وهو معها؟ أم أنه فقط رجلٌ خائف... يخبّئ عجزه خلف وسامةٍ قاتلة واسمٍ يخشاه الجميع؟

‎وقف على رصيف مطار باريس الخاص، والضباب يُقبّل حذاءه الأسود الفاخر كما لو كان حذاءَ إلهٍ عائدٍ من الحرب.

‎سائق العائلة كان بانتظاره، كما العادة. لا يقول شيئًا. لا يسأل عن الرحلة. لا يفتح الراديو.

‎سائق خُلق للصمت، حتى كأنّ أنفاسه تُحسب باليورو.

‎ركب تشاي السيارة، جلس في الخلف، ومدّ رجليه بتكاسل، كأنّه عائد من قتال في بعدٍ آخر، لا من رحلة جوية.

‎أخرج هاتفه. لا إشعارات من آني.

‎"جيّد."

‎ثم فكّر، "لماذا جيد؟ لماذا لا أشعر بشيء؟ لماذا لا أرتبك؟ لماذا لا أموت قليلًا عندما لا ترسل شيئًا؟"

‎الطريق إلى قصر أودجين كان هادئًا.

‎الناس يصرخون على الأرصفة، ويهرولون في الأسواق، ويغازلون الحياة... لكن زجاج السيارة مظلل. لا أحد يراه، ولا هو يراهم.

‎يشعر وكأنه داخل تابوت فخم على عجلات.

‎وصل.

‎البوابة فُتحت كما لو أن باريس كلها انقسمت لتُفسح له الطريق.

‎الحديقة... لا تزال كما تركها. ورود سوداء زرعتها الجدة إيفا عندما كانت في مزاج شاعري.

‎قالت حينها:

‎— "الورود الحمراء تشبه القلوب الطيّبة، لكن القلوب الطيبة لا تعيش طويلاً."

‎هو؟ قلبه؟

‎ربما لم يكن لديه قلب أصلاً.

‎دخل.

‎في بهو القصر، رآه.

‎جي.

‎أنيق كالعادة. حادّ كالنصل. وجهه لا يحمل مشاعر... فقط تصميم هندسي دقيق لقاتل.

‎سلّم عليه، اليد كانت ثابتة، نظرة العين فيها بعض الاحترام، وبعض التوتر.

‎تشاي لمح شيئًا في عيني جي... شيءٌ يشبه:

‎"أنت تغيّرت."

‎لكنه لم يقلها.

‎بل قال:

‎— "عدت."

‎— "نعم."

‎— "متى وصلت؟"

‎— "قبل ساعتين."

‎— "هل... كان كل شيء في مدريد على ما يرام؟"

‎تشاي نظر إليه لوهلة، ثم قال بنصف ابتسامة:

‎— "في مدريد لا أحد بخير، الجميع يتظاهر بذلك فقط."

‎ثم ساد صمت بينهما.

‎خطوات سريعة، كعبٌ عالي يضرب الأرض كما لو أنه إعلان حرب.

‎ميشا.

‎ظهرت فجأة، كأنّها قادمة من مسرحية درامية نسيتها الكاتبة في منتصف العرض.

‎— "تشاااي؟!"

‎صوتها يحمل خليطًا من الذهول والتهكم وشيءٌ غامض اسمه الحنين.

‎"لم أرك منذ دهر! هل متّ وعدت؟!"

‎ابتسم، وقال وهو يفتح ذراعيه:

‎— "أو ربما أنتِ من كنتِ نائمة كأميرةٍ في قصة سيئة."

‎اقتربت، عانقته بسرعة، ثم صفعت كتفه:

‎— "أنت تبدو... أقل وسامة مما كنت في آخر مرة رأيتك فيها."

‎— "وهذا لأنكِ تزدادين جمالاً، فينكشف ضعفنا أمامك."

‎ضحكت.

‎ضحكة ميشا ليست عادية.

‎إنها ضحكة تعرف كل شيء. ضحكة امرأة رأت كل شيء، وجربت كل شيء، وماتت من الداخل مرتين... ثم عادت لتضحك فقط كي لا تبكي

‎ذهب الى غرفته .

‎الباب يُغلق.

‎هدوء.

‎العالم خارج الغرفة... لا يعني شيئًا.

‎ميشا تثرثر في الصالة، جي يُراقب الكاميرات، إيفا تنفخ الشاي الأسود وهي تهمس للأرواح، وإنزوي... كعادتها، تنظر للسقف وتتساءل:

‎"هل نحن أحياء فعلًا؟ أم مجرد ذكريات تمشي فوق الأرض؟"

‎أما هو...

‎فقد وقف وسط غرفته، خلع قميصه، وكأنّه يخلع جُلده.

‎كشف جسده الذي يشبه ساحة حرب.

‎لكن لا ندوب. لا علامات. لا شيء.

‎لأن الألم الحقيقي... لا يترك أثرًا.

‎حدّق في المرآة.

‎لم يرَ نفسه.

‎فقط طيفٌ يبتسم باحتقار.

‎ابتسم له... وقال:

‎— "لقد عدنا، أليس كذلك؟"

‎ولم ينتظر جوابًا.

‎رفع يده... ثم أنزلها ببطء كأنه يُسدل الستار.

‎وفي لحظة...

‎انفجرت الهالة.

‎صوتٌ لا يُسمع، لكن الهواء اختنق.

‎الستائر ارتجفت.

‎الساعة توقفت.

‎والغرفة... الغرفة ابتلعت الضوء كما لو أنها ثقب أسود.

‎كل شيء صار أسود.

‎أسود كليلة لم تلد صباحًا.

‎أسود كحقيقة لا يريد أحد سماعها.

‎أسود كابتسامة جدّه بان قبل المجزرة.

‎تشاي لم يتحرك.

‎الهالة كانت غضبًا خالصًا، خامًا، بلا فلترة.

‎غضبًا لم يكن ضد أحد… بل ضد الكل.

‎ضد الشوارع. ضد الحروف. ضد الأيام التي تمشي على عكاز. ضد كل شيء يشبه الحياة.

‎إيفا كانت تزرع إبرًا في دمية لعلاج ركبتها، فجأة رفعت رأسها، همست:

‎— "استيقظ الوحش."

‎ثم ضحكت.

‎ضحكت كأنها تنتظر هذا منذ سنوات.

‎جي أمسك قبضته لا لشيء، فقط لأن جسده تعوّد أن يفعل هذا عندما يشعر أن الكون سينقلب.

‎ميشا كانت على وشك رش العطر، لكنها جمدت.

‎النظر في عينيها صار فارغًا، ثم قالت:

‎— "اللعنة... تشاي فقد السيطرة."

‎إنزوي... اكتفت بأن غطّت أذنيها، وكأن الهالة لها صوت… لا يسمعه غيرها.

‎تشاي لم يتحرك.

‎الهالة لا تزال تطحن الغرفة.

‎ثم... مدّ يده إلى الدرج.

‎وأخرج الخنجر.

‎أمسكه.

‎حدّق فيه كما لو أنه صديق قديم.

‎ثم...

‎بكل برود، طعنه في قلبه.

‎ولا دم.

‎طعنه في عينيه.

‎ولا شيء.

‎طعنه في رأسه.

‎ولا ألم.

‎الخنجر يعبر كأنه يقطع الهواء، لا لحم، لا عظم، لا حياة.

‎قال بصوت هامس:

‎— "أنا ميت... منذ ولادتي."

‎ثم جلس على الأرض، عارٍ، محاط بهالة شيطانية تُشبه الدخان الأسود، الغرفة ترتعش، الصور تقع، والمرآة تتشقّق…

‎لكنه فقط، يبتسم.

‎ابتسامة مشوّهة.

‎ابتسامة رجل يعرف أنه لن يموت لأنه... لا يعيش أصلًا.

2025/08/06 · 3 مشاهدة · 900 كلمة
onitchannn
نادي الروايات - 2025