يوم جديد
كانت الشمس، في ذلك الصباح الصحراوي، كأنها عدوٌ قديم يبتسم بسُخرية من فريسته. امتدّت رمال الصحراء كبحرٍ غاضبٍ جامد، لا نهاية له، وحرارته تُلهب الجلد قبل أن تلامسه. لا ظلّ، لا نسمة، لا رحمة… سوى صمت ثقيل يقطع النفس.
وقف "سون" حافي القدمين فوق صخرة سوداء كأنها جُمرٌ متجمّد، يتصبّب عرقه، وعيناه نصف مغلقتين من الضوء، بينما يقف خلفه "تاي"، مشدود الظهر، كأنه حارس مقبرة قديمة.
قال تاي بصوت جامد وكأنه يُعلن بداية طقوس محرّمة:
> – "حان وقت الحصة الأولى، أيها الجيفة الضعيفة."
سون رفع رأسه قليلًا، مُتعبًا، لكن عيناه تحاولان فهم ما ينتظره.
> – "مهارتك، 'لحن السُّم'، ليست تقنية عادية. إنها لحن تخرجه من روحك، نغمة قاتلة تُترجم إلى سمّ خاص يُحقَن في أرواح خصومك عبر الموجات، لا الصوت. السّم لا يُشم، لا يُلمس، بل يُحَسُّ فقط... ومن يحسّه، يبدأ جسده بالانهيار من الداخل."
صمت لحظة، ثم ضرب صدر سون بقبضة مفتوحة:
> – "لكن لا يمكنك عزف هذا اللحن إن لم تعرف أولاً: كيف تُخرِج صوت روحك."
سون بصوت خافت:
> – "كيف أُخرِج صوتًا من شيء لا يُرى؟"
تاي فجأة سحب حبلاً من كتفه، وربط به يدي سون خلف ظهره، ثم قيده بالحجر خلفه:
> – "سنبدأ من الصفر، أيها الغبي. خمسة حصص. إن نجوت منها... قد تعزف أول نغمة."
سُحب سون من مكانه وقُذف إلى حُفرة حُفرت خصيصًا في الرمال. عُمقها متر ونصف، لا ظلّ فيها. يُمنع عليه الحراك، يُمنع عليه الكلام، ويُمنع عليه الأكل.
مرّت الساعة الاولى. الشمس تضربه دون توقّف. جسده يتقلب تحت حرّها مثل قطعة لحم تُشوى على نار جهنم. فمه جاف، حلقه مالح، ولسانه كأنه قطعة جلد محترقة.
تاي، من بعيد، كان يشرب الماء ببطء أمامه، ثم يسكبه على الرمال ويبتسم:
> – "لا يمكنك عزف أي لحن، طالما جسدك يحتاج إلى طعام... تعلم كيف تصرخ من روحك، وليس من فمك."
في الساعة الثانية بدأ سون يرى الرمال تتحرّك… كانت تهلوساته تخلق أشكالًا… أفاعٍ، عقارب، وجوه قديمة تنظر إليه، تضحك، تبكي، ثم تختفي.
في الساعة الثالة بدأت دقات قلبه تُسمع في أذنه كأنها طبول قبيلة بدائية. صوت روحه بدأ يرتفع… لكنه لم يكن جميلًا، كان خشنًا، متمردًا… يشبه صرخة حيوان مصاب.
> – "هذا هو صوتك الأول، سون…"
همسها تاي دون اقتراب: "لكنّه بشع. ليس نغمة… بل عويل جرو يحتضر."
في ساعة الرابعة، سون لم يعد يميز الليل من النهار. فقط الدقات، الدقات، الدقات… ثم فجأة، في عزّ الهلوسة، صمت كل شيء… ورأى نفسه داخل كهف روحي… فيه بيانو مكسور، أوتار ممزقة، وزجاجات فيها سوائل سوداء. وفجأة… سمعها.
أول نغمة.
لم تكن صوتًا.
بل… وخزة.
تسللت من قلبه إلى عظامه، ثم خرجت منه كأن شيئًا داخله نطق:
> – "أنا سُمُّك. أنا نغمتك. ولكن لتستخدمني… عليك أن تذوب أولاً."
في الساعة الخامسة… فتح تاي الحفرة، فسقط جسد سون كأنه جسد رجل ميت.
لكن، وسط الرمال، بدأ جسد سون يتحرّك ببطء… زحفًا… كأنه ينهض من قبره، وفمه يتمتم:
> – "توقفت عن الجوع… لم أعد أريد طعامًا."
تاي ضحك أخيرًا، ورفع ذقنه قائلاً:
> – "عظيم… لقد بدأ سُمّك يجوع بدلًا عنك."
وقف "تاي" خلفه ممسكًا بصخرة ضخمة على شكل كُرة، وقال بنبرة كاهن مجنون:
> "في الحصة الثانية… ستتعلّم كيف تعزف السّم دون أن تعزف. ستخلق لحنًا في صدرك، يجري في دمك، ويُسمع فقط من داخل عدوك."
أشار بإصبعه إلى السماء، ثم إلى صدر "سون".
> "هنا… لا توجد آلات موسيقية، لا توجد نوتات، لا توجد راحة. أنت الآلة! أنت اللحن! أنت العذاب!… هياااااااااااااااااااااااا!!!"
ثم رمى الصخرة الثقيلة عليه، ليُجبر "سون" على تلقّيها بقدمه اليمنى، وإبقائها مرفوعة في الهواء!
أزيز الرمال يمرّ على أذنه، وذباب الصحراء يطنّ كما لو كانت أوركسترا موتٍ خفية.
لمدة ساعتين… ظل "سون" واقفًا على قدم واحدة، يحمل الصخرة فوق قدمه المرفوعة دون أن تسقط.
كلما تمايل… صرخ "تاي":
> "إن تذبذب لحنك الداخلي… سيموت المستمعون بدلًا من أعدائك!"
في هذا الوضع الثابت… كان المطلوب أن يُغلق "سون" عينيه، ويتخيل نوعًا من السمّ…
ليس سُمًّا عادياً، بل "سمّ النقاء"، سُمّ يدخل جسد العدو بهدوء… ويبدأ في تعطيل كل خلية تبحث عن الحقيقة. يجعل العدو يرى السراب، يسمع الصمت، ويشمّ الغبار كما لو كان وردًا.
لكن… لتحقيق هذه السنفونية، عليه أن يتعلّم كيف "ينسج" نغمة داخل وعيه، نغمة خفية لا تُسمع بل تُحَس، تمامًا كما يُحَسّ السمّ في العروق.
حين أنهى اختبار الثبات، لم يُمنَح "سون" حتى دقيقة راحة…
بل رُبطت على جسده أربعة أوتار معدنية، موصولة بأجراس صغيرة وعلب خشبية تحوي ثعابين سامة.
> "إذا اهتزت نغمتك الداخلية، ستُصدر الأجراس صوتًا… وإذا حدث هذا… ستُفتح العلب."
ابتسم "تاي" وهو يمسح جبينه:
> "أنت اليوم موسيقي… لكنك تعزف على حياتك."
وطُلب من "سون" أن يمشي فوق أرض مليئة بالمسامير الحديدية الصغيرة المخبّأة تحت الرمال، وكل خطوة خاطئة قد تهتز بها أوتاره، فتقرع الأجراس… فتفتح الثعابين، فيصبح اللحن… جنازة.
خطوة بخطوة… زفيره صار متقطعًا.
ألم في أصابع قدميه…
لسعة في كاحله…
رائحة الحديد المحترق من حرارة قدميه…
لكنه ركّز، تنفّس…
وراح يهمس في نفسه:
> "هذه... ليست موسيقى، بل غضبٌ نقي… لا يُسمع… بل يُدخل عبر الجلد."
وها هي الأجراس… لم تصدر أي صوت.
صمتٌ مطلق…
وبنظرة مبهورة، صرخ "تاي":
> "هذا هو!!! هذا هو لحن السمّ الخفي! هذا هو اللحن الذي سيجعلك قاتلًا بنغمة واحدة! كأنك تهمس بالموت!"
ولأن "تاي" لا يرحم… جاء بدلو مليء بالإبر المعدنية الرقيقة – حادة، رفيعة، مرعبة.
قال:
> "الآن… اجلس فوقها. نعم، اجلس."
"سون": "أأأأ..."
> "لا تصرخ… إن تألمت، لن تسمع ما بداخلك. ما بداخلك أهم مما بالخارج."
جلس "سون" – لا خيار آخر – فوق فراش من الإبر، وكلما زادت مدة الجلوس، بدأ يسمع شيئًا…
صوتًا… همسًا داخليًا… خافتًا…
> "تـاااااااااااااااااااااااااااييييييي…"
كانت السنفونية تنمو، مثل نبات سُمّي يتسلل من تحت جلده، يتغذى من ألمه، ويعزف ألحانه من صبره.
> "السمّ يحتاج لدموعك… لكنه لا يقبل الضعفاء. ابكِ، لكن لا تسقط."
عند الغروب، سقط "سون" أرضًا… ظهره مليء بالثقوب… قدماه محترقتان… يداه ملطختان بالغبار والدم…
لكن شيئًا واحدًا كان قد تغيّر…
كان يسمع… يسمع موسيقى لا يسمعها أحد.
موسيقى تُخيف الرمال… وتبكي الشمس.
موسيقى لا يُعزَف بها… بل تُنزَف.
وقف "شو" فوق صخرة عالية، وقال بصوتٍ خافتٍ خبيث:
> "سنفونية السمّ... بدأت تتنفس."