السماء كانت صافية بشكل خبيث، خالية من الغيوم كأنها تسخر من معاناة "سون" الذي جلس وسط دائرة من الصخور الحمراء المتوهجة بحرارة شمس منتصف النهار. العرق كان ينساب من كل نقطة في جسده، والأرض تحت قدميه بدت كأنها تذوب من وطأة الحرارة.
"تاي" وقف أمامه، لا يرمش، لا يبتسم، بل يلوّح بقطعة حجرية مسطحة تشبه بوقًا حجريًا صغيرًا.
قال بصوت خفيض وكأن الكلمات كانت تخرج من فم نسر عجوز:
"الآن... ستدخل المرحلة الأخيرة. مهارتك ليست مجرد سمّ… بل لحن. ولكل لحن قائد أوركسترا، ولكل سمّ موسيقار مجنون يعزف أنغامه من أعماق روحه. هذه الحصة ستجبرك أن تصبح الاثنين في آنٍ معًا."
سون كان قد تعب حتى النخاع، قدماه لا تقويان على الوقوف، أصابعه متورمة من العزف على آلة غير موجودة، من تشكيل لحن لا يُسمع إلا داخل رأسه.
"ما العمل اليوم؟" سأل بصوت مبحوح.
"ستعزف... وسط العدم."
"ماذا؟"
"ستصنع السنفونية الكبرى وأنت معلّق بين السماء والرمل."
في لمح البصر، أخرج تاي حبلاً مصنوعًا من ألياف نبات صحراوي سام، وربطه حول خصر سون، ثم قاده إلى حفرة عميقة لا يُرى قاعها. ثبت الحبل على صخرة عملاقة، ثم دفع سون ليتدلى فوق الهاوية.
الجسد معلّق، يتأرجح مع كل نسمة ريح. الشمس فوقه كأنها عين إله غاضب، والصخور الحادة تحيط به من كل جانب، ولو انقطع الحبل فموته لن يكون سريعًا… بل سيموت مرتين: أولًا من السقوط، وثانيًا من عزف لحن لم يكتمل.
"لكل نوع من السم، لحن داخلي. لكن الآن… عليك أن توحّد السنفونيات الخمس التي تعلمتها."
بدأ سون يغمض عينيه. جسده يرجف، الحبل يحتك بجلده. ومع كل حركة، تومض في ذهنه مشاهد من الحصص السابقة: صوت الرمال في أذنه، ألسنة اللهب تراقص روحه، حبات العرق التي سقطت على صخرة فأحدثت صوتًا أقرب إلى همس الجحيم…
ومع كل ومضة، يُخلق نوتة جديدة في عقله.
بدأ اللحن يتشكل... ليس كصوت، بل كذبذبات روحية.
سيمفونية العقرب الأسود… سمّ يهاجم الأعصاب.
سيمفونية الحيّة الزجاجية… سمّ يذيب العظام ببطء.
سيمفونية الفراشة المسمومة… سمّ يُخدر الحواس ويخلق هلوسات.
سيمفونية الثعلب السام… سمّ يقطع الذاكرة ويعيد تشكيل الشخصية.
سيمفونية التنين النائم… سمّ لا يقتل بل يُبقي الضحية نصف حيّ، نصف ميت.
"الآن… دمّر السكون."
قالها تاي من فوق، وهو يسحب فجأة الحبل للأسفل، ما جعل جسد سون يهبط نحو الصخور، لكن دون أن يصطدم بها… إذ ثبت الحبل فجأة.
الصدمة فتحت شيئًا في داخله…
لحظة سكون تحولت إلى انفجار من الأصوات الروحية…
كأن خمس جوقات عزفت في نفس الوقت داخل رأسه…
وسُمِعت نغمة واحدة فقط، واحدة... لكنها جعلت الرمل تحت الحفرة يرتفع، يهتز، ثم ينفجر إلى الأعلى وكأنه يُصفّق!
تاي ابتسم ابتسامة نادرة وهو يرى سون مغمض العينين، يتأرجح وسط الهواء، بينما الصخور تنزاح تحته، والسماء نفسها بدت وكأنها توقفت للاستماع.
"أحسنت يا قائد الأوركسترا السامّة… لقد عزفت موتهم قبل أن يروك."
وهكذا... انتهت الحصة الخامسة، لكن شيئًا في سون تغير. لم يعد شابًا يتعلم مهارة، بل صار كائنًا يعيش داخل نغمة، ويغتال عبر لحن.
قال تاي بنبرة هادئة كالموتى:
— "لقد انتهت الأيام الثلاثة يا سون… وما لم يقتلك، علمك."
سون ينهض كالمومياء، يضحك ثم يسعل، ثم يضحك وهو يسعل، ويضحك من سعاله.
قال وهو ينظر لعيني تاي:
— "لقد… سمعتها، يا تاي. ليست مجرد موسيقى… إنها طاعون بلحن جميل. إنها... سيمفونيات الموت الناعم."
اقترب "تاي"، جلس بقربه، أخرج زجاجة شاي من مكان مجهول وسكب له:
— "أخبرني، كم لحنًا أيقظت؟"
رفع سون يده المرتجفة، وبدأ بعدّ أصابعه ببطء وكأنه يكتب نوتة موسيقية على الهواء:
1. سيمفونية العقرب الأسود... لحن يغرز أنيابه في الأعصاب، يرقص على خطوطها، يجعل كل حركة كأنها صدمة كهربائية.
2. سيمفونية الحيّة الزجاجية... بطيئة، زاحفة، تذيب العظام كما تذيب النغمات الجليد، لا تسمعها إلا بعد فوات الأوان.
3. سيمفونية الفراشة المسمومة... تبدو ناعمة، راقصة، لكنها تنسج في الرأس أحلامًا مشوهة، يرى خصمك عدوّه طفلاً وجاره تنينًا.
4. سيمفونية الثعلب السام... تُقصي ذاكرتك، تحلّها، وتعيدك شخصًا آخر... ربما تحوّلك إلى عاشق لصحراء فارغة.
5. سيمفونية التنين النائم... لا تقتل، بل تُبقي الضحية عالقًا بين الحياة والموت، كأنه يحلم بجنازته الخاصة وهو حيّ.
صمت "تاي" للحظات… ثم ابتسم.
— "هل تعلم ما الذي أيقظ تلك السيمفونيات؟ ليس التدريب فقط. بل أنك… متشرد روحاني، تتنفس كأنفاس السم، وتبكي كأنين الكمان. هذه المهارة… ليست للقلوب العادية يا سون."
أجابه سون وقد احمرت عيناه من التعب:
— "لكنها مرعبة يا تاي… في كل مرة أعزف فيها لحنًا منها، أشعر أن شيئًا في داخلي يموت معي…"
تاي شدّ على كتفه بقوة، وقال بجديّة عميقة:
— "لهذا السبب، اسمع جيدًا:
استخدم لحنًا واحدًا فقط في القتال، لا أكثر. كل سيمفونية مصنوعة بدقة قاتل صيني عاش قبل أربعة قرون… وكان لقبه 'سُمّه'.
لقد مات وهو يعزف السيمفونية الخامسة، و... انفجر."
سون بلع ريقه بصوت مسموع.
تابع "تاي" بصوت أكثر عمقًا:
— "إن استخدمت سيمفونيتين في آنٍ واحد، فإن جسدك قد لا يتحمّل التردد المزدوج… ستحترق من الداخل، كما يحترق الكمان الذي يعزف نغمة لا يتحملها خشبه.
لكن… في تدريب متقدم، لاحقًا، قد تتمكن من ترويض اثنتين، ولكن ليس الآن."
سون أومأ بصمت، لكن تاي لم ينتهِ:
— "وهناك نقطة ضعف أخرى…"
— "دعني أخمن…"
— "أنت لا تخمّن، أنت تحتضر."
— "صحيح."
— "المهارة تدوم فقط خمس ساعات. بعدها… تبدأ السيمفونيات بعزف نفسها داخلك. تصبح أنت السامّ، والضحية في آنٍ واحد. بعدها، ستنفجر… أو تصبح مجرد لحن يمشي في الصحراء."
سون يضحك… ضحكة رجل فهم شيئًا، لكنه يرفض الإفصاح.
— "خمس ساعات كافية يا تاي… من يحتاج أكثر من سيمفونية واحدة لقتل عدو؟"
تاي وقف، رمى له قارورة صغيرة:
— "خذ… هذا ترياق طارئ، يُبطّل السيمفونية قبل انفجارك. استخدمه إن نسيت نفسك… أو نسيت من أنت."
سون نظر للقارورة وكأنها أمل في زجاجة… ثم قال:
— "أتعلم، تاي؟ لم أستخدم نصف قوتي بعد."
تاي ابتسم وابتعد وهو يرد:
— "هذا جيد… لأن أعداءك لم يبدأوا حتى في استخدام أعصابهم."
وقف سون أمام تاي، ملامحه جدية… لكن عيناه؟ كأنهما تضحكان داخليًا!
قال بصوت كمن يروي نكتة قاتلة:
ــ "ثلاثة أيّام انتهت، وأنا… أنا الآن أملك خمسة ألحان تُشبه نهاية العالم!"
رفع سون يده اليمنى، فظهرت خمس دوائر موسيقية غامقة اللون، ترقص فيها رموز سوداء كالوشوم القديمة. كانت أشبه بأختام حيّة على جلده.
1. سيمفونية العقرب الأسود… سمّ يهاجم الأعصاب.
2. سيمفونية الحيّة الزجاجية… سمّ يذيب العظام كأنه حليب ساخن.
3. سيمفونية الفراشة المسمومة… هلوسات تُحوّلك إلى رقّاصة في مهرجان الأشباح.
4. سيمفونية الثعلب السام… تمحو ذاكرتك، وتعيد تشكيلك كدمية جديدة.
5. سيمفونية التنين النائم… لا تقتل، بل تتركك بين موتٍ وحياة، كأنك موظف في بيروقراطية أبدية.
ضحك تاي، ضحكة طويلة باردة كأنها ضحكة إله يشاهد تمثيلية صلعاء:
ــ "حان وقت الاختبار... هاجمني."
رفع يده… الهواء تجمّد.
ثم خرجت منه هالة زرقاء… لا! ليست هالة… كانت وزن قبر بوزن كوكب!
العالم تجمّد.
سون لم يعد يتنفّس… لا يستطيع التقدّم.
عيناه اتسعتا… ثم تقلّصتا… ثم تجمّدت.
ما هذه الهالة؟
هل هي حقل جاذبية؟ هل هو سحر؟ هل هذا الرجل تاي… أم شيء آخر؟
تاي تقدّم خطوة…
قال بنبرة ثلجية تقطع الأحبال الصوتية:
ــ "هاجمني… حتى لو رأيت هالتي."
سون… المسكين سون…
أراد أن يتقدّم.
خطوة واحدة… صوت الموسيقى بدأ.
"الفراشة المسمومة" عزفت! لحن غريب كأن حشرة تُغني في بئر مهجور!
موجات من الرموز الموسيقية تناثرت، كأنها تطعن الفضاء نفسه!
لكن…
تاي لم يتحرّك.
بل قال بكل بساطة كمن يفتح علبة سردين:
ــ "عيون الداشنكرت."
انفجر الفضاء.
ألف عين ظهرت فجأة في الجو، تبكي دماً أزرق!
تبكي… وتنظر… وتبكي ا، تبكي. لكنها تخيف.
سون تراجع… قفز للخلف، قلبه صار كمن يقفز بالحبل.
صرخ كمن يعتذر من الجن:
ــ "آسف! آسف معلم تاي! لا أستطيع التقدّم… كل خطوة نحوك كأنها جُرعة موت مركّز!"
تاي ابتسم. أو ربما لم يبتسم.
لكن قال بهدوء عاصفة:
ــ "هذا كافٍ."
ثم أدار ظهره، ورفع يده خلفه:
ــ "لقد تعلمت فقط 20% من مهارتك… لكن هذا كافٍ للانضمام إلى الحشد. هيا، دعنا نلحق بالمختبرين قبل أن يتحولوا إلى أرزّ مطبوخ!"
وسار…
وسار سون خلفه…
لكن في قلبه، لم يكن يمشي…
كان يسير في موسيقى لا يسمعها أحد…
موسيقاه هو.