باريس في قاعة إيفا
الظلام هناك لم يكن مجرد غياب للنور، بل كائن حيّ، يزحف على الجدران ويعضّ العيون.
الجدران نفسها مغطاة برموز محفورة، كأنها وُلدت من لحم لا من حجر. رموز تتنفس، تلتوي، وتهمس بلغة أقدم من موت البشر.
في وسط القاعة، كانت هناك جثة… لا، لم تكن جثة. كانت شيئًا كُسر، أُعيد تركيبه، ثم كُسر مرة أخرى.
وجه مشوه إلى حد يجعل العقل يرفض تصديقه، أطراف ملتوية وكأنها ضحكت على قوانين الجسد، جلدها متعفن لكن ينبض أحيانًا، وكأن الحياة والموت يتصارعان داخله في كل ثانية.
من حولها… عشرات الرؤوس البشرية المقطوعة، ما زالت دافئة، والعروق الممزقة منها تنبض بدفقات دماء تتدفق في خيوط سوداء سميكة نحو الجثة في الوسط.
كانت الجثة تمتص الدماء ببطء، وكأنها تشرب ذكرياتهم لا دمهم فقط.
وفي كل ركن من القاعة، كانت الأرواح تطوف.
أرواح بلا وجوه، بلا شكل ثابت، تتلوى مثل دخان ثقيل، تصرخ بصوت يثقب العظم قبل الأذن.
بعض الأصوات كان فيه بكاء أطفال، وبعضها نحيب عجائز، وبعضها حشرجة رجال ماتوا وهم يعضون على أسماء أحبائهم.
إيفا كانت واقفة وسط هذا الجحيم وكأنها ملكته.
ثوبها الأسود يبتلع الضوء القليل القادم من الشموع العاجزة، عيناها باردتان كجليد مقبرة، وشفتيها تتحركان ببطء وهي تردد تعاويذ من لغة لم يُخلق لها حنجرة بشرية.
مع كل كلمة، كانت الرموز على الجدران تشتعل بلون أحمر قاتم، والدماء تسرع في جريانها نحو الجثة، والأصوات تزداد حدة… حتى تحوّل الصراخ إلى موجة واحدة، عالية، لا تُحتمل.
ثم… سكون.
لكن لم يكن سكونًا مريحًا، بل الصمت الذي يسبق انهيار العالم.
وفي تلك اللحظة، رفعت إيفا يدها، وغرست أصابعها في صدر الجثة، وكأنها تبحث عن شيء بداخلها.
الدماء تفجرت مثل نافورة جحيمية، والأرواح في القاعة بدأت تنحني نحوها كما ينحني العبيد أمام ملكة من موت.
همست إيفا، وعيناها تلمعان بجنون:
> "انهضي… لقد دفعت ثمنك كاملاً."
كان الباب الحديدي الأخير يصدر أنينًا ثقيلاً حين دفعه تشاي ببطء.
الدخان الأسود الذي كان يزحف تحت الشقوق انسكب على قدميه كأنه يرحب به، أو يهدده.
خطا إلى الداخل، وهدير الأرواح المحبوسة في القاعة خف فجأة، كأنها تعرف أن القادم الآن ليس مجرد ضيف، بل شخص يملك ظلًا أطول من الموت نفسه.
إيفا كانت واقفة هناك، في نفس الموضع، وسط الجثة المشوهة، بين الرؤوس المقطوعة التي لا تزال دماؤها تسيل بكسل نحو فم الميت الحيّ.
رفعت عينيها الباردتين نحو تشاي، ولم تقل كلمة.
هو أيضًا لم يتحدث مباشرة، بل ظل يخطو ببطء نحوها، وعيونه تتنقل بين الرموز المتوهجة على الجدران، والأرواح الممزقة التي تحوم، والجثة التي كانت تبتسم بلا شفتين.
حين صار أمامها بمتر واحد، كسر الصمت بصوته العميق:
> "هل أوشكتِ؟"
إيفا لم تتردد، وكأنها كانت تنتظر هذا السؤال منذ مئة عام:
> "قريبة جدًا… أقرب مما تتصور، تشاي أودجين."
تقدمت خطوة، والدماء تتشقق تحت حذائها كأنها أرض حية.
همست:
> "كما وعدته قبل خمسةٍ وعشرين عامًا… سأعيد بان أودجين. سأعيده كما كان، كاملًا، ليس مجرد ظل أو صدى."
تشاي ظل يحدق في عينيها، لكن وجهه لم يكن يدل على ارتياح.
سأل ببطء، وكأنه يقيس كل كلمة:
> "كاملًا؟ هل سيتذكر ماضيه؟"
أجابت بثقة، أو ربما بادعاء الثقة:
> "سأضع كل قوتي… كل ما في هذه القاعة، كل الدماء والأرواح والرموز… فقط لأعيده كما كان، بكل ذاكرته، بكل قوته، بكل حقده."
لكن تشاي أطلق ضحكة قصيرة، باردة، وكأنها لم تخرج من فمه بل من مكان أبعد:
> "أنتِ… انا لا اصدقك إيفا، أنتِ تعرفين شيئًا عن حقيقة عائلتي ."
إيفا تراجعت خطوة صغيرة، لا خوفًا، بل دهشة من نبرته.
رفعت يدها ومسحت الدم العالق على أصابعها على ثوبها الأسود، وقالت وهي تضغط على الكلمات:
> "للمرة الألف… لا أعرف. لم أكن يومًا مهتمة بخفاياكم الملعونة، أنا فقط أفي بعهودي. آخر مرة تحدثت فيها مع بان… قبل أن يموت، دلني على مكانك، قال لي إنك أحد أفراد أودجين. لم يقل شيئًا أكثر."
تشاي صمت لحظة، لكن عيناه كانتا تلمعان بنظرة لا تراها إلا الضواري قبل الانقضاض.
اقترب حتى صار بينهما شبر واحد، والدماء تحت أقدامهما تحركت وكأنها تحاول أن تبعدهما عن بعض، لكنه لم يتوقف.
قال بصوت منخفض، أقرب للتهديد:
> "إيفا… إن كنتِ تكذبين عليّ، فلن يكفيكِ جحيم هذه القاعة للاختباء مني."
إيفا ابتسمت، لكنها كانت ابتسامة شخص يعرف أن التهديد لا يغير شيئًا في الصفقة المبرمة.
> "إذن اجلس وانتظر، تشاي… قريبًا سترى بعينيك. قريبًا ستعرف إن كنتُ أكذب… أم لا."
ثم عادت إلى الجثة، وغرست أصابعها مرة أخرى في صدرها، والأرواح في القاعة بدأت تعوي كأنها شعرت أن اللحظة الحاسمة تقترب.
تشاي بقي واقفًا، لكن داخله لم يكن صامتًا… كان يتذكر ذلك اليوم قبل خمسة وعشرين عامًا، حين سقط بان أمامه، حين تعهد لنفسه أن يعيده مهما كان الثمن.
لكن الآن، وهو يراقب هذه الساحرة، شعر بأن الثمن قد يكون أكبر مما تخيله… وربما لن يعجبه ما سيعود.
من منظور إيفا
آه، تشاي…
لو كنتَ تعرف، لكنتَ قتلتني منذ اللحظة التي نطقتَ فيها اسمي.
لكنني لم أسمح لك… ولن أسمح أبدًا.
هو الآن أمامي، يتساءل إن كنت أصدق، إن كنت أعرف… بينما الحقيقة تمشي بجانبه منذ خمسة وعشرين عامًا، وأنا من كمّمت فمها وربطت يديها بالسحر.
قبل سنين طويلة، وضعت لعنة على كل من تبقى من آل أودجين… لعنة لا تُرى، لا تُشم، لكنها مثل ظل ثقيل على قلوبهم.
هذه اللعنة، لا تسمح لأحد أن يبوح لك بالحقيقة… ولا تسمح لك أنت أن تسمعها حتى لو صرخوها في وجهك.
كلماتهم تتغير في الهواء قبل أن تصل إلى أذنك، والذكريات التي قد تفضحني تتفتت في عقولهم كغبار.
حتى بان… حتى هو.
حين أعيده للحياة، لن يتذكر ماضيه معك. لن يعرفك كما تتمنى.
سيعود بلا ذكرى واحدة عنك، وكأنك لم تكن، وكأنك لم تمشِ معه في الدماء ولا في الظلام.
كل هذا… ليس عبثًا.
إنك الآن قاتل مأجور، لا رحمة فيه. آلة موت تعرف وجه الهدف ولا تعرف قلبه.
وأنا أريدك هكذا. أريدك بلا جذور، بلا تاريخ، بلا تلك الرخاوة التي تجعلك تشك أو تتردد.
الحقيقة… آه، الحقيقة ستغيرك.
ستكسرك، ستجعلك تلتفت إلى الوراء، وستجعلك تضعف أمام ما يجب أن تقتله.
وأنا… لا أريد تشاي الضعيف. أريد ذاك الذي يقطع الحبال قبل أن يفكر أين كانت متصلة.
لذلك، حين يسألني… أقولها للمرة الألف: "لا أعرف".
وحين يهددني… أبتسم.
لأنني أعلم أنني أحكمت القيود حول عنقه منذ زمن، وأنه مهما صرخ، الحقيقة لن تصل إليه… إلا إذا أنا أردت.